أسرار السيطرة على الشعوب (1)
بقلم مصطفى فاخوري
عندما كنت أشاهد القنوات الإخبارية لمتابعة أخبار العالم والشرق الأوسط البهية..! رأيت من الشعوب من كان يؤيد حكومته والتي يلبس رئيسها لباس الفساد والظلم وبيده مطرقة القتل وعصا تفريق الجماعات، ومع ذلك كان شعبه يؤيده ويظنه الرجل الصالح الذي أنقذ البلاد ورفع مستوى التعليم والاقتصاد، لصالح هذا الشعب المسكين فقط له وليس لغيره. وكان هناك من الصالحين..! -ظاهرياً- أيضا يقوم شعبه بتأييده والهتاف له والوقوف معه على أنه رجل مناضل يحب شعبه ويخاف على بلاده ساعياً لإيصالها إلى أعلى مراتب الدول المتقدمة. وهذا ليس حال ما رأيت من الشعوب فقط، بل هو حالي وحال الكثير منا، نرى حكاماً وحكومات، وأتباعا وهيئات، ونحن ليس لنا إلا أن نصدق ما يُنْفَث من الأبْواق من قيل وقال من غير تَثَبُّتٍ ولا سؤال!
شيء غريب ما كنت أراه فأصدقه وغيره على النقيض فأكذبه..! هل أنا فعلا كنت على علم بحقيقة هي مجردة من أي أكاذيب وضلالات؟! هل كنت أرى وجوها منزوعة الأقنعة فيها درجة من الصفاء لرؤية ما تحتويه العقول من أفكار جيَّاشة، تَظِلُّ بأغصانها لتحميني أنا وغيري من الشعوب، فتكون لنا حضناً دافئا نستشعر بأمان ظلها، فتحمينا من خيانة أشعة شمس تحاول النَّفاذ إلينا، لِتَحرِقَنا من وَهَج أعْيُنها التي تسعى تارَةً إلينا ظاهِرَة وتارَةً في الخَفاءِ مُنْزَوِيَة، اسْتِماتَتَةً منها انتهاز الفرصة حالما تأتي نسمة عابرة فتحرك الأغصان ونحن تحتها مطمئنين، فما تلبث إلا أن تسترق النظر فتلقي بسهامها الغادرة فتكون مقتل لقلوبنا، ومنفذا لعقولنا، فَتُذْهِبنا من حرارتها، وتُعْيينا من قَساوَتِها، وتغيِّبُنا في عالم وهمي هو من الخيال قريب، لكي لا نكون معزولين عن عالمنا الحقيقي، الذي هو منا ملمساً ونسيماً تحتك به جوارحنا، فتشعر به حواسنا، لتشعرنا فعلاً في وجود عالم واقعي، ليس فيه أحلام ولا تهيؤات، ولا عبارات مبطنة ولا وجوه لها ابتسامات، أو ضحكات مجوفة بأكاذيب تتطاير منها لتكون رسائل إلى كل من له آذان صاغية لاهية، عن حقائق هي في الدنيا كاذبة. هل هذا فعلاً ما تخفيه الوجوه من صدق مشاعر قلوب على الشعوب؟! أم هي فقط أقنعة تحمي نفسها من أشعة الشمس، لتبقينا نحن تحتها بلا ظل ولا حماية؟!.
التحكم الإعلامي وأهمها التلفاز والمذياع يكون عادة لمصلحة شركات عالمية رائدة، والتي تعمل على التنافس في التأثير على المشاهدين لمصالحهم التجارية |
بدأت في رحلة داخل أعماق الكتب والمواقع والمقالات، حتى أصبحت في قبوٍ تكسوه الظلمات، ومن هولِ فَزَعٍ تلعثمتُ بالكلمات، واعْتُقِل لساني من المفاجآت، وارتطمت براءتي.. بل غبائي بالفقرات، وسَقَطَت على رأسي وَيْلات الكِتابات، مما أَذْهَب من حواسي لُبَّ النهار، وَجَنَّ اللَّيل على عقلي وأفكاري باكتشاف حقيقة هي ليست بخيال، بل هي تجسيد واقع ظننتُ أنه خيال. إنها الحقيقة.. أن التلاعب بالعقل يكون عن طريق جعل الفرد يعيش دائما في حالة من عدم اليَقين، فتكون البداية بالشَّكِّ والارْتِباك، والتَّغْييب التَّام لأي رؤية واضحة، لأن وضوح الرؤية تعني الثقة، والثقة تؤدي إلى الوعي الذي يفتح باب القبول والاعتراض، وعن مساوئ الأمور وفسادها سيكون انتقاد. وهذا ما يقوم به الكثير من حكومات ومؤسسات ونفوذ أشخاص، يقدمون الغالي والنفيس للحَيْلولة دون تَمَتُّعِنا بِرُؤَى عقلٍ صافٍ نفيس، كي لا نُدْرِك الحقيقة من واقع غير خادع، ليس فيه أكاذيب ولا تدليس، فقط حقيقة خدَّاعة هم يريدونها لإقناعنا بكذبة أصبحوا يصدِّقونها..!.
وللأسف.. تأكدت مخاوفي من أني لست في عالمي الملموس بل غارقاً في جهالتي، عندما قرأت ما قاله الصحفي الأمريكي إدوارد هنتر أن: “غسيل المخ هو نظام يعمل تشويش الدماغ وتعكير صفوه، فيصبح سهلاً تضليل الإنسان ليقبل بأشياء تتعارض مع مبادئه نتيجة التشويش الذي أصاب ذهنه، فيفقد الاتصال بالحقيقة، وتختلط الحقائق والأوهام في نظره، وتبدو له الأولى مكان الأخيرة والعكس صحيح..”. وقفت مذهولًا لِوَهْلة، بعقلٍ طارَ بجناحَيِّ الصَّدْمة والطَّعْنة، وقلب من خَفَقانِه يَتَرَنَّح تَرَنُّح الشَّارب حتى الثَّمالَة، وعيني مفتوحتان لا مَغْزى لها من نَظَرٍ، ولا مَرْمى إليه تَصِل.
التلفاز يقوم مقام الأَفْيون حيث يقوم بتغييراتت حقيقية في العقول، مما يجعلنا نُدمن على المشاهدة والاستماع
إن ما يُمَكِّن وسائل الإعلام من تغيير وترسيخ ما تريده في عقول مشاهديها إن كانت مفاهيم أو معتقدات أو آراء هي رغبة من هم خلف سِتارها لأهداف سياسية أو تجارية أو غيرها، وما يساعد تحقيق ذلك هو رغبة مشاهديها في أن تتلقى ما يُعرض وكأنه نوع من الحقيقة التي لا لبس فيها..! فالمشكلة تكمن أولاً فينا نحن، من نريد أن نُسْتغل على أن نَفَكِّر قبل أن نُصَدِّق، مع أن الوُصول إلى مَشارِف الحقيقة لن تستغرق منا إلاَّ القليل من المجهود، أو على الأقل لنبقي المعلومة في أذهاننا لا نصدق ولا نكذب ولا ننشر ما ليس له تأكيد. ولكن في اللحظة التي نُعير فيها اهتمامنا وتصغي لها آذاننا لما يُرَوَّج من أقاويل وصور وأكاذيب كانت أو حقائق، كانت هي الشرارة الأولى في تدخُّل العقل وحِراكِهِ ليتأثر بعدها الجسد. وهكذا تبدأ رحلة الاسْتِغْفال، وإطلاق ما نَحْويه من غَباء، فنكون ممن ساعد من هُم خَلْف كَواليس الإعلام في الإعلان في العلن، وما هي إلا أداة حاكَتْها الأيادي وزَيَّنَتْها لنا في الخَفاء من مَكْرٍ ودَهاء لِتَرى نتائِجَه في العَلَن!.
إن التحكم الإعلامي وأهمها التلفاز والمذياع يكون عادة لمصلحة شركات عالمية رائدة، والتي تعمل على التنافس في التأثير على المشاهدين لمصالحهم التجارية ولكسب أكبر عدد ممكن من العملاء، حتى امتد ذلك إلى تحكُّم السياسيين والمحافظين من رؤساء ومنتخَبين، لِيَدور صراع إعلامي بينهم ليفوزوا بأكبر عدد ممكن من الجماهير المؤيدين. قال الأنصاري: “إن المذياع يسهم أيضاً في لعبة غسيل المخ هذه، فعندما تستمع إلى أي حديث سياسي من أيِّ إذاعة تلاحظ أن الضيف يرى في عقلك وعاءً فارغاً، محاولاً تعبئته بما يروِّج له من مفاهيم!”.
وما ذكر الأنصاري في كتابه “العقل الآلي” على أن التلفاز يقوم مقام الأَفْيون حيث يقوم بتغييرات حقيقية في العقول، مما يجعلنا نُدمن على المشاهدة والاستماع، لدرجة تصديق الكثير من المعلومات المُضَلِّلة التي يتم إرسالها برموز مُشَفَّرة من أيدي أُناسٍ مَكَرَة، فنَتَقَبَّلها مُترجمة كحقائق راسِخَة ونحن بكامل قوانا العقلية! وكأننا حيوانات يقوم آسِريها بترويضِها على أن تقوم بالفُكاهات والأعمال السيركِيَّة، ليضحك عليها مُرَوِّضوها أولاً ومن هم على شاكِلَتِهِم ممن يمارسون التَّرويض في كل أقطاب العالم، وقد أكد الأنصاري أن: “ثمَّة تطور متصاعد في التقنيات بمرور الوقت، نظرا إلى استمرار خبراء العقل الذين يخدمون إمبراطورية الإعلام، في اكتشاف الطفرات العلمية التي تتعلق بكيفية عمل الدماغ، وكيفية تعلمه، وكيفية تخزينه للمعلومات، ثم كيفية تصرفه”.
وللحديث بقية.. في الجزء الثاني بإذن الله، وسنذكر فيه أثر الإعلام وأساليب من وظَّفه للوصول إلى عقول الشعوب.
(المصدر: مدونات الجزيرة)