مقالاتمقالات مختارة

أسجنوهم في بلدتكم إنهم أناس مصلحون

أسجنوهم في بلدتكم إنهم أناس مصلحون

بقلم سياف مصطفى

قضى الله كوناً وقدراً أن يكون الصراع بين الحق والباطل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يتدافعان ينتصر الحق تارة ويضعف أخرى، يُبْتلى أهل الحق بتسلط أهل الباطل “لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ”، فما يقع من أحداث وإن بدى للناس شراً إلا أن الخير يعقبه.

طاغيةٌ يعِظُ قومه

في كل عصر ومصر هنالك فرعون يتسلط على قومه، يسومهم سوء العذاب، يقتل الأبناء ويستحي النساء، ينهب الأموال يقرب أهل الضلال ويقصي أهل الحق والنضال. يتهم المصلحين بالإفساد في الأرض، سلفه في ذلك فرعون الأول لما خرج على الناس في ثوب الواعظ الناصح، محذراً من موسى عليه السلام ومن آمن معه “ إِنَّ هَٰؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)“، ثم وصف دعوة موسى عليه السلام والوحي الذي أُنزل عليه بأنه تبديل للدين وإضلال للناس أجمعين وإظهاراً للفساد في الأرض “إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ”، كثيراً ما يتكرر مثل هذا السيناريو في عصورنا هذه، فيخرج على الناس فراعنة جثموا على صدور العباد، أظهروا في الأرض الفساد، يرمون المصلحين بأبشع الأوصاف لإبعاد الناس عنهم، والتمهيد لقتلهم أو طردهم أو سجنهم فتجدهم يصفونهم بأنهم (دعاة الصحوة) وتارة (دعاة الخروج) وتارة (خوارج العصر) إلى غير ذلك من الأوصاف، المتأملُ في هذه الأحداث يجد أنَّ ما قام به فرعون الأول مع المصلحين نفسه ما يسلكه ظلمة اليوم مع الدعاة العاملين، فقط تختلف الأدوات. كم من سجون ملئت وقبور دفنت، ومصلحون شردوا وعن بلدانهم اُبعِدوا كل ذلك باسم الخوف من الإفساد في الأرض وتبديل الدين والله يعلم المصلح من المفسد. أحياناً قد يخاف أولئك الطغاة من ردة فعل الناس ووقفتهم مع أهل الحق، لكن ما يقوي موقفهم ويُعزِّز قرارتهم وقوف فئة التصفيق معهم، من يرون أن كلام الحاكم أو المسؤول يسمع له ويطاع وأن قتل وشرد. تلك الفئة هي من تُقوي موقف الظالم.

قال الملأ..

كثيراً ما تثبت عروش الظالمين بقولة الملأ، يقوى موقف المفسدين بتصفيق المنافقين، الذين يزينون فعل الظالمين على أنه دفاعاً عن الحق وحصاراً للإرهاب وتضييقاً على أهله، ينزلون كلام الملك أو الرئيس منزلة المعصوم. كان فرعون دائماً ما يرمي موسى عليه السلام بالتهم الباطلة ليصرف نظر الناس عنه، تخيل لو أن أحداً من حاشية فرعون أو جمعاً من ملأه أنكر عليه ذلك ونصح له ووقف مع الحق ما كان ليتجرأ على الإقدام في محاولة قتل موسى ومن معه، لكن ذلك لم يكن. كانت مواقف أولئك المصفقين في صف الظالم على الإطلاق، حكى الله مواقفهم السلبية تلك في كثير من آياته “وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ” “قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ” إلى غير ذلك من المواقف.

والناظر لحال زماننا يجد أنَّ الملأ من الغوغاء هم من يتحكمون في قرارات الأمة، من يصفقون للظالم، يدعمون ظلمه وقتله للأبرياء. كان الملأ في عهد الطغاة الأول ينحصرون في حاشيته والمقربون له، لكن توسعت رقعة قطيع الملأ في زماننا فإعلام فاسد، وصحفيون خائنون، ودعاة منتفعون، كلهم يدعمون الظالم، كلٌ يدلي بدلوه في الفتك بالشعوب المكلومة. دائماً ما تجد تلك الحاشية التي تحيط بالظلم تحاول أنْ تلقي برداء التهمة على المصلحين لتلفت أنظار الناس عنهم، وهم في قرارة أنفسهم يعلمون أنَّهم هم المفسدون “وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ“، تأمل قولهم “إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ” رموهم بالعفة في ثوب النصح. والمتأمل يجد أنَّ كل المصلحين الذي أُودعوا السجون أو طُردوا أو قُتلوا كانت البداية بتهمٍ أُلصقت إليهم، هم منها براء أو وُصفوا بصفات في واقع الحال هي سمة طيبة لكنها خرجت مخرج الذم عند أولئك، (دعاة الصحوة)، (دعاة التغيير) لسان حالهم (أسجنوهم في بلدتكم إنهم أناس مصلحون) فتنهض دعواتٌ لسجن الدعاة والعفيفين من أهل الإعلام والسياسية بحجة أنَّهم يريدون تغيراً، ويسعون في الأرض فساداً.

طلب التفويض (ذروني أقتل)
في ظل الصراع الدائم بين الحق والباطل، وتسلط الظالمين وأذنابهم من المنافقين على أهل الصلاح والإصلاح، يبقى قول الله عز وجل “وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ” هو الذي يتعلق به المصلحون”

تأمل.. لما أراد فرعون أن يبطش بموسى عليه السلام، أحب أن يكون ذلك بعد تهيئة الرأي العام لذلك، رغم كونه لا يحتاج لذلك (ذروني أقتل موسى)، وهذا السيناريو يكرره طغاة اليوم مع علماء الأمة ودعاتها والمصلحون فيها وشعوبها (ذروني) أعطوني تفويضاً (أطلب تفويضاً بمواجهة العنف والإرهاب والتطرف وفرض حالة الطوارئ)، يريدون أن يُصوروا أنَّ فعلتهم وبطشهم ببعض الناس ما كان إلا بتفويض من عامة الشعب، بأمر منهم، يزينون باطلهم بتقمص دور الناصح الأمين، وهذا ديدن الطغاة المتجبرين ألا لعنة الله على الظالمين .

ثبات المصلحين

في كل محنة تقع على الأمة تجد من يُثبت الله قلبه، من يقف في وجه الظلم والجور ناصحاً ومحذراً من عاقبة ذلك، لما كان كفار قريش يتقصدون النبي صلى الله عليه وسلم ويضعون على ظهره الأوساخ والأقذار، كان الصديق أبوبكر رضي الله عنه يقف لهم بالمرصاد ويحذرهم من التعرض للنبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يخشى بطشهم ولا عاقبة فعلهم، فالمصلح الذي يعلم أن واجبه أن يُبيَّن الحق ولا يكتمه لا تخيفه السياط ولا تصرفه صنوف العذاب، يعلم يقيناً أنَّه قد يناله الأذى لكن في نفس الوقت يتذكر أنَّ عليه كلمة ينبغي أن يُبلغها. لما اجتمع قوم فرعون ليبطشوا بموسى عليه السلام وخططوا لذلك ودبروا، حكى الله قصة رجل مصلح لم تأخذه في الله لومة لائم، لم يخف وعيد الطاغية فرعون فتكلم بشموخ المؤمن “أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ” فذكر بهذا الموقف وخُلد ذكره به، وقد رأينا في زماننا من الذين نوَّر الله بصيرتهم نصحوا لحكامهم والظالمين في بلدانهم، وبينوا لقومهم ولم تأخذهم في ذلك لومة لائم، ولم يصرفهم وعيد ظالم. فكان عاقبة أمرهم أن سجنوا وعذبوا واتهموا وصنفوا، كما فعل بأسلافهم، لكن بقي ذكرهم حسناً على ألسنة الناس وبقيت مواقفهم شاهدة على شموخهم وعزهم، نسأل الله أن يفرج عنهم، في حين حفظ لآخرين مداهنتهم لأهل الظلم ووقوفهم بجانبهم، ومدحهم إياهم، لسان حالهم: وما أنا إلا من غزيّةَ إن غـوَتْ.. غوَيتُ وإن ترشدْ غزيّةُ أرشـــدِ. والتاريخ لا يرحم، والمواقف لا تنسى، وكل أمرئ يُذكر بين الناس بفعله إن خيراً أو شراً.

وما كيد الظالمين إلا في تباب

في ظل الصراع الدائم بين الحق والباطل، وتسلط الظالمين وأذنابهم من المنافقين على أهل الصلاح والإصلاح، يبقى قول الله عز وجل “وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ” هو الذي يتعلق به المصلحون، يطمئن به المستضعفون أن للظالمين نهاية وإن طال ليلهم، فكل فرعون يتسلط على قومه مصيره إلى زوال وعاقبته إلى خسران، لكن يبقى السؤال متى يتحقق ذلك ؟ أجاب الله تعالى في كتابه أنَّه وعد عباده بالتمكين في الأرض وتبديل الحال من بعد الخوف أمناً “وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا” ووضع شرطاً لذلك إن تتحقق نال المصلحون والمستضعفون ما وعدوا “يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا” فواجب على الأمة أن تُصلح حالها، أن ترحم ضعفاها وأن تجمع كلمتها، لتزيل عنها تسلط الظالمين وتنال حريتها وتنعم بأمنها.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى