بقلم أ. أسامة شحادة
من المعلوم ما لِبيت المقدس من مكانة عالية في الإسلام، فقد كان هو القبلة الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم، ولمدة تزيد عن 13 سنة، قبل أن تتحول إلى مكة المكرمة “قد نرى تقلّب وجهك في السماء فلنولينّك قبلة ترضاها فوَلِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فَولّوا وجوهكم شطره” (البقرة: 144)، كما أنه قد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بسنة تقريباً إليه من مكة المكرمة “سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله” (الإسراء: 1)، ومن هناك وفي نفس الليلة عُرج به صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى فوق السماء السابعة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وقد أشار القرآن الكريم للمعراج النبوي في قوله تعالى عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام على حقيقته: “ولقد رآه نزلةً أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى” (النجم: 13-15).
ولمكانة بيت المقدس القيمة رحل الخليفة الفاروق رضي الله عنه بنفسه من المدينة المنورة إليها ليتسلم مفاتيحها سنة 15هـ، ولم يفعل ذلك مع مدينة غيرها، وقد كان رهبان القدس وأحبارها امتنعوا عن تسليمها إلا لمنهو مكتوب عندهم صفته، وهي صفة الفاروق رضي الله عنه!
وقد بقيت بيت المقدس منذ تلك اللحظة محل التقدير والاهتمام بعمارتها ورعايتها، حيث قام الفاروق بتأسيس المسجد القبلي وتنظيف الصخرة من القمامة التي راكمها الروم عليها، ودخل كنيسة القيامة ولم يصلّ بها حتى تبقى ملكا للنصارى، وهو الأمر الذي استمر منذ ذلك الوقت، إلا مدة قصيرة أيام الفاطميين سنشير لها بعد قليل، وبعد استرداد بيت المقدس على يد صلاح الدين تم إعادة كنيسة القيامة للنصارى وفاءً للعهدة العمرية، ولكن بسبب تفرّق النصارى واختلافهم إلى طوائف متعددة، وتحسبًا لنشوب الصراعات بينهم حول من هو أحق بمفاتيح الكنيسة، عهِد صلاح الدين بمفتاح الكنيسة إلى عائلتين مسلمتين هما عائلة جودة وعائلة نسيبة، واللتان تقومان بفتح أبواب الكنيسة وإغلاقها كل يوم منذ ذلك الوقت وإلى اليوم.
وفي دولة بني أمية أضيف لبيت المقدس أهمية سياسية -مع مكانتها الدينية- حيث كان الخلفاء يجتمعون بولاتهم فيها، وكان الخليفة يؤمّ الناس في المسجد الأقصى بنفسه، وكانت الخطوة الكبرى في الاهتمام ببيت المقدس بِناء الخليفة عبد الملك بن مروان قبة الصخرة في سنة 66هـ، والتي أتمّها ابنه الوليد سنة 72هـ، والتي بقيت لليوم معلما فريداً تدلّ على مكانة وتميز وفرادة بيت المقدس عن سائر المدن في المعمورة.
وفي عهد العباسيين أصدر الخليفة أبو جعفر المنصور تقليدا يُلزم الخلفاء العباسيين بزيارة القدس -ولو لمرة واحدة- في تعبيرٍ عن أهميةبيت المقدس ومكانتها وشرفها.
ظل بيت المقدس محل الرعاية والاهتمام على تعاقب الخلافات والدول والإمارات والسلطنات التي حكمته إلا في زمن الدولة الفاطمية التي شذّت عن تلك السياسة، وهو ما سنبيّنه في النقاط التالية:
1- الدولة الفاطمية هي دولة شيعية إسماعيليةقامت سنة 297هـ/ 910م في تونس، وهي دولة عقائدية سعت إلى نشر فكرها وهدم الخلافة العباسية، ثم توسعت فاستولت على مصر سنة 358هـ/ 969م، على يد جوهر الصقلي، بعد حملات عسكرية فاشلة سنتي 301هـ و 306هـ، والتي استبدلت بحملة غزو ديني عبر دعاة الفاطميين الشيعة، والذين تمكنوا من نشر دعوتهم في مصر واستقطاب الكثير من أهلها وقادتها للتبعية للفاطميين مما سهّل سقوطها في حض جوهر الصقلي دون قتال!
وفي نفس العام (358هـ) تحرك جوهر الصقلي نحوبلاد الشام للسيطرة عليها ومدّ سلطان الفاطميين هناك لتحقيق مطامعها، وفعلاً تمكن من الاستيلاء على فلسطين ودمشق في 360هـ، ومن هنا بدأ الحكم الفاطمي على الشام، والذي استمر لمدة قرن تقريبا، وشهد خلال ذلك مدّا وجزا بحسب الصراعات مع الخلافة العباسية والدول والإمارات والقوى الموجودة بالشام حتى سنة 465هـ حيث طردهم السلاجقة من القدس.
2-ومنذ استيلاء الفاطميين على فلسطين والشام ومصر بدأوا في نشر عقيدتهم وفكرهم الشيعي برغم أنهم تعهّدوا لأهل مصر أن لا يتدخلوا في شؤونهم الدينية، لكنهم -فور تمكنهم– غيرّوا الأذان وأضافوا له “حيّ على خير العمل” وفرضوه على الجماهير بالقوة، وفي زمن الحاكم بأمر الله الفاطمي أضيف للأذان أيضا “أشهد أن محمداً وعلياً خير البشر”، وتُورد الموسوعة الفلسطينية قصة الفقيه الزاهد أبي القاسم الواسطي الذي تجاهل هذه العبارة في الأذان في المسجد الأقصى فتمّت معاقبته بالسجن وقطع لسانه!!
ويسجّل خليل عثامنة في كتابه (فلسطين في خمسة قرون) أن الفاطميين منعوا صلاة التراويح في ليالي شهر رمضان المبارك، وأمروا بسبّ الشيخين أبي بكر الصديق وعمر الفاروق، رضي الله عنهما، علناً، وكتابة ذلك السبّ على جدرانبيوت السنة، وتخيلوا مدى الجريمة التي يأمر بها الفاطميون أن الفاروق رضي الله عنه (فاتح بيت المقدس) يؤمر بسبّه في بيت المقدس نفسها، وسائر بلاد الشام ومصر!
ومن المهم أن نتنبه إلى أن هذه الممارسات الطائفية التاريخية يتم تكرارها اليوم في تغيير الأذان ومنع صلاة التراويح من قبل الحوثيين في صنعاء عقب احتلالهم لها! وفي العراق يتم قصف مساجد السنة والاستيلاء عليها وعلى كثير من الأوقاف السنية، وفي دمشق تُقام الطقوس الشيعية علنًا وبطريقة مستفزة في المسجد الأموي!
3- كان تعامل الفاطميين مع أهل الشام سيئاً، ويقوم على البطش والتنكيل، فعندما سيطر الفاطميون على مدينة الرملة نهب جنودهم المدينة، فقام الإمام أبو بكر النابلسي بالذهاب إلى قائد الفاطميين وطلب منه أن يكف رجاله عن ذلك فاستجاب له، وعندما لم يتوقف النابلسي عن التصدي لظلم الفاطميين طاردوه من الرملة إلى دمشق حتى قبضوا عليه، وأرسلوه إلى مصر فسُلخ جلده وهو حيّ ثم ملئ تبنًا وعُلّق على جدار القصر في (داعشية) مبكرة! وذلك بعد أن ثبت في وجههم وصرّح لهم بقوله: لو كان معي عشرة أسهم لرميتُ أهل الكفر بسهمٍ، ورميت بالباقي الفاطميين”.
ولم يرضخ أهل الشام لظلم الفاطميين فكانوا يثورون ويحتجّون على بطشهم وظلمهم، وأورد المقريزي أنه في مرةٍ طلبوا من زعيم الفاطميين التخفيف من قمعهم وتنكيلهم فقال لهم: “ما أعفو عنكم حتى تخرجوا إليّ ومعكم نساؤكم مكشوفات الشعور، فيتمرغن في التراب بين يديّ لطلب العفو”!! وهو موقف لا يختلف كثيراً عن موقف محافظ درعا قبيل قيام الثورة السورية حين طلب من أهل درعا إحضار نسائهم!!
3- ومع اعتداء الفاطميين على دين الناس وعقائدهم وعلى أموالهم وأعراضهم وأرواحهم قاموا بتأسيس دار للعلم مهمّتها بث الدعوة الإسماعيلية والعقيدة الشيعية بين الناس، فالدولة الفاطمية دولة دعوية قامت على نشر فكرها بين الناس وسخرت لذلك جهازا إعلاميا كبيرا قاده داعي الدعاة في القصر الفاطمي.
وبسبب ذلك الجهد الدعوى الفاطمي تقلص عدد زوار القدس وقلّ عدد العلماء فيها، وخلا المسجد الأقصى من الجماعات ومجالس العلم، ولم تعد القدس منارة للعلم كعادتها على مر العصور قبل الفاطميين وبعدهم.
4- ولم يقتصر البطش الفاطمي في القدس على المسلمين السنة، بل شمل ظلمهم النصارى واليهود أيضاً في سنة 395هـ، وتصاعد ذلك في سنة 403هـ حين أصدر الخليفة الفاطمي أمراً بأن يعلق النصارى في أعناقهم صلباناً من الخشب، طول الواحد منها ذراع وعرضه ذراع، ووزنه خمسة أرطال! وأن يعلق اليهود في رقابهم قرامي من الخشب (بمثابة رأس العجل الذي عبدوه) وزن الواحد منها خمسة أرطال أيضاً!!
وكان الحاكم بأمر الله الفاطمي في سنة 399هـ، أمَر بهدم بعض كنائس القاهرة وكنيسة القيامة في القدس وأمر كاتبَه النصراني ابن عبدون بكتابة ذلك الأمر! فهُدمت كنيسة القيامة سنة 400هـ، وبقيت مهدمة سنوات طويلة حتى رضخ الفاطميون لضغط البيزنطيين سنة 419هـ وسمحوا بإعادة بنائها، وهذا الهدم لكنيسة القيامة هو اعتداء على العهدة العمرية التي أقرّتها وحمتها عبر القرون قبل أن يكون اعتداءً على الكنيسة نفسها، والتي كان هدمها أحد مبررات وأسباب الهجوم البيزنطي على بلاد الشام والحملات الصليبية التي نجحت لاحقاً في احتلال القدس.
5- وبعد أن تمكّن السلاجقة من طرد الفاطميين من القدس سنة 465هـ، بقيت خلاياهم تعمل لصالحهم، ولما انشغل السلاجقة بمقاتلة طلائع الصليبيين الزاحفة على بلاد الشام ومقاومة نشوء الإمارات الصليبية في الرها وأنطاكيا والدفاع عن المدن الإسلامية في شمال الشام، استغل الفاطميون ذلك بتواطؤ مع أتباعهم في القدس وهاجموها سنة 491هـ، واستولوا عليها في موقف غادر بالمصلحة الإسلامية، ويزداد الغدر دناءة حين نعرف أن الفاطميين كانوا قد تفاوضوا مع الصليبيين من قبل على إقامة حلف معهم ضد السلاجقة، نعرف مقدار جريمتهم ومشاركتهم في ضياع بيت المقدس واحتلالها حيث لم يتصدوا للصليبيين ولم يساندوا المقاومين والمدافعين من السلاجقة، بل خذلوهم وقاتلوهم، كحال محور المقاومة والممانعة اليوم الذي يتفرج على احتلال القدس ويطلق لها التغريدات والشعارات، ويطلق على أهل الشام الصواريخ والبراميل المتفجرة!
بل يتّهم ابنُ الأثير الفاطميين بأنهم هم من حرّض الصليبيين على مهاجمة الشام نكايةً بخصومهم السلاجقة، ولما نجح الصليبيون بإلحاق الهزيمة بالسلاجقة، نقضوا اتفاقهم مع الفاطميين وتوجهوا لبيت المقدس الذي كان بيد الفاطميين وردّوا وفدهم، ورغم مرور أشهر على النقض واستنجاد والي القدس الفاطمي بخليفته الفاطمي ووزيره الأفضل لنجدته والذي كان في وضع جيد وتمكن من صد هجوم الصليبيين أكثر من 40 يوماً، لم تصل نجدة الخليفة الفاطمي أبداً للقدس، بل وصل الأفضل لعسقلان بعد 20 يوما من سقوط القدس بيد الصليبيين، والذين قضوا أسبوعاً كاملاً يقتلون فيه المسلمين، رجالاً ونساءً وأطفالا، حتى بلغ عدد القتلى أكثرمن 70 ألفا!
ولذلك كانت أولوية نور الدين زنكي وصلاح الدين لتحرير بيت المقدس القضاء على الدولة الفاطمية لتوحيد المسلمين وتوحيد مصر والشام والتخلص من الاطماع الطائفية والخيانات مع الصليبيين.
هذه هي أبرز المحطات في تاريخ القدس زمن الفاطميين، والتي لا يدركها كثير من المقدسيين والفلسطينيين والعرب والمسلمين، وما لم ندرك تاريخ القدس ومحطاته ونفحص دروسه وعظاته لن نتمكن من نصرته والدفاع عنه في حاضرنا ومستقبلنا.
(المصدر: مجلة الأمة الالكترونية)