أساس الحريَّة الأخلاقية بين التفكير الفلسفي والتفكير الإسلامي (3)
بقلم مقداد يالجن
أما درجات الجبرية فهي ثلاثة:
الدرجة الأولى: جبرية مطلقة وهي ميتافيزيقية وطبيعيَّة في نفس الوقت وهي آخر الحدّ من القهريَّة لايمكن للإنسان أن يفلت منها أو أن يخرق حدها مثل حتمية الموت المقضي على كل إنسان فكل إنسان لابدَّ من أن يموت ولا يستطيع انقاذ نفسه منه وكذلك البعث فكل إنسان مجبور أن يبعث بعد الموت لأنَّ هذا قضاء سابق لابدَّ من أن ينتهي إليه بحكم القضاء السابق وبحكم طبيعة الخلقة.
وهذه الجبرية تعتبر ميتافيزيقية من حيث أنها قضاء سابق على وجود الإنسان وتعتبر كذلك حتميَّة طبيعيَّة من حيث إنها تتم بواسطة القوانين الطبيعيَّة التي لا تتخلف.
الدرجة الثانية: جبريَّة طبيعيَّة وهي أقل صرامة من الأولى إذ من الممكن تعدي حدودها وقوانينها إلى حين يشكل من الأشكال مثل حاجة الإنسان الطبيعيَّة إلى التغذيَّة فكل إنسان لابدَّ من أن يتغذى بالأكل والشرب ليحيا، فاذا امتنع عن التغذية كلِّية فسيموت بعد حين، لكن للإنسان قدرة على أن يمتنع حتى الموت ويقضي على نفسه. هنا نجد للإنسان مجالاً لحريَّة الإرادة إذ أنَّ الإنسان يستطيع أن يختار أحد الأمرين وينفذ اختياره بين ادامة الحياة بالتغذية والقضاء عليها بالكفّ عنها.
وليست له هذه الحريَّة والقدرة في الجبريَّة الأولى، وهنا يقول الخيام في رباعياته تعبيراً عن الجبرية الأولى (جئت إلى هذه الحياة من غير إرادة وسأنتقل عنها أيضاً من غير إرادة ولا أدري كيف جئت وكيف أنتقل) (1).
وليست قوانين الطبيعة من الناحية الحتمية في درجة واحدة إذ أنَّ بعضها أقل صرامة أو حتمية مما ذكرنا مثل غريزة الأمومة والأبوة وغريزة الجنس إذ من الممكن مخالفة هذه القوانين باستمرار في الحياة مع تحمل الأضرار الناتجة عنها.
الدرجة الثالثة: أو القسم الثالث من الجبرية هي جبرية القوانين الأخلاقية (2)
وهذه القوانين تستمد سلطتها وجبريتها من ثلاث جهات: الأولى من جهة اتصالها بالقوانين الطبيعيَّة، والثانية من جهة اتصالها بالأمر الإلهي، والثالثة من جهة اتصالها بالعرف والعادات الاجتماعية أي السلطة الاجتماعية.
وأما درجات الحريَّة فهي تتحدد بالدرجات الجبرية السابقة إذ لا حرية أمام الدرجة الأولى من الجبريَّة كما قلنا، والحريَّة موجودة أمام الدرجة الثانية ولكنها صعبة وضيِّقة للغاية، وخاصة أن الأمر متوقف – ازاء بعض القوانين الطبيعيَّة على حريَّة الاختيار بين الحياة أو عدم الحياة، ولكنها على أية حال ممكنة ومتعلقة بإرادة الإنسان أما نطاق الحريَّة أمام النوع الثاني من قوانين الطبيعة مثل الاتصال الجنسي كقانون طبيعي فمجال الحريَّة هنا أوسع، إذ من الممكن أن يحيا الإنسان بدون تطبيقه لهذا القانون وغيره من القوانين التي من هذا القبيل. لكن درجة سعادة الحياة أو شقاوتها تقاس بمدى تكييف الإنسان حياته مع تلك القوانين بصورة عامَّة فإنَّ مخالفة تلك القوانين في الحياة نتيجتها الشفاء ونهايتها الموت المحتم.
أما الحريَّة أمام الدرجة الثالثة من الجبرية وهي جبرية القوانين الأخلاقية فهي متفاوتة، وكما أنَّ درجات القوانين الطبيعيَّة متفاوتة فكذلك درجات القوانين الأخلاقية متفاوتة من حيث الجبرية ومن حيث الحريَّة أيضاً يقاس ذلك بمدى إلزامية كل قانون ثم بمدى الإحساس الأدبي أو الضمير الأدبي الذي يتمتع به كل فرد.
وسوف نعالج ذلك في مقام آخر بعنوان الإلزام الأخلاقي وعلى أي حال فإنه كلما تصاعدت أو قويت درجات الجبر في الناحية الأولى كلما قلت درجات الحريَّة في الناحية الثانية.
والآن بالنظرة العامَّة إلى كل ماسبق نستطيع أن نلخص أسس الحريَّة الأخلاقية في النقاط الآتية:
الأساس الأول: وجود حريَّة الإرادة في الإنسان وقد تختلف درجة هذه الحريَّة من ميدان إلى آخر ومن مجال إلى مجال آخر في الحياة العامَّة.
الأساس الثاني: وجود القدرة والاستعداد لتطبيق حريَّة الإرادة.
الأساس الثالث: وجود الحريَّة ازاء تطبيق القوانين الأخلاقية ولكن بدرجات متفاوتة.
الأساس الرابع: أنَّ حريَّة الإنسان العملية ليست حريَّة مطلقة، إذ أنَّ هذه الحريَّة تحدها القوانين الطبيعيَّة والميتافيزيقية والسيكولوجية والاجتماعية.
لا جبر ولا تفويض بل…
الناس في القدر على ثلاثة أوجه:
رجل يزعم أن الأمر مفوض إليه فقد وهن الله تعالى في سلطانه ، فهو هالك ، ورجل يزعم أن الله جل وعز أجبر العباد على المعاصي وكلفهم ما لا يطيقون فقد ظلم الله في حكمه ، فهو هالك ، ورجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا يطيقون فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء أستغفر الله فهذا مسلم بالغ (الإمام الصادق عليه السلام)
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
المصدر: مجلة الهادي، سنة 1352 – العدد 8
الحلقة الثانية هـــنا
==========
(1) رباعيات الخيام: ترجمة أحمد رامي ص ??، 95 ط ?.
(2) التعبير عن الضرورات الأخلاقية والعوامل الطبيعيَّة بالحتمية والجبرية لا يخلو عن تسامح، فإنَّ الحتمية لا يمكن أن تجتمع مع الإختيار في أيّ درجة من درجاتها، ولا يمكن التخلف عنها، وإلا لم يكن حتماً. وليس شيء من القضايا الثلاثة المتقدمة حتماً عدا الأول وهو من القضاء الحتم، ولكنه غير مرتبط بقضايا السلوك والحريَّة الأخلاقية.
ولا يخلو هذا البحث – على أصالته – من موارد أخرى من التسامح في التعبير من الناحية الفلسفية والاعتقادية، ولا تعتبر المجلة مسؤولة عنه، ولأهمية هذا البحث وضرورته سوف نتابع الحديث عنه بأقلام مختلفة انشاء الله تعالى
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)