أزمات التيار الإسلامي المصري
في مصر تنتشر خارطة التيار الإسلامي جغرافيا لتشمل كل مدن وقرى مصر تقريبا، وقد برزت هذه الظاهرة إلى الوجود عقب سقوط الخلافة الإسلامية العثمانية، وتمدد الاستعمار الغربي في البلدان الإسلامية، لكن مصطلح التيار الإسلامي تحديدا لم يظهر إلا في حقبة السبعينات.
وتضم تشكيلة القوى الإسلامية التي تمثل هذا التيار جماعات دعوية (التبليغ والدعوة) وإصلاحية وثورية وأحزاب سياسية، كما أن منها جماعات تتسع لتشمل العمل الدعوي والخيري والسياسي مثل جماعة الإخوان المسلمين والجماعة الإسلامية ولحقت بهما بعد ثورة يناير الدعوة السلفية، وجماعات سلفية أخرى.
تعرض التيار الإسلامي المصري في غالبه لأزمة وجودية بعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو 2013، حيث شن النظام الجديد عليه حرب اجتثاث لا هوادة فيها، لم يستثن منها سوى الدعوة السلفية في الإسكندرية (حاضنة حزب النور الذي شارك في مراسم إعلان الانقلاب العسكري). وحتى الجماعات الدعوية والخيرية البعيدة عن السياسة، مثل جماعة التبليغ والدعوة والجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنّة، لم تسلم من الأذى، وإن كان بدرجات أقل مما تعرض له الإخوان وبقية الجماعات والأحزاب الإسلامية الأخرى. كما أن رؤوس الأموال والاستثمارات التي يشتبه في انتماء أصحابها لهذا التيار تتم مصادرتها تباعا.
كان واضحا أن النظام حاول من البداية التمييز بين الإخوان وباقي الحركات والجماعات الإسلامية الحركية، لكن غالبية هذه الحركات والجماعات رأت أن الانقلاب لم يتم على الإخوان أو الرئيس المنتمي إليهم فقط، بل هو انقلاب على الثورة والمسار الديمقراطي الذي سمح لهذه الجماعات بحرية الحركة لأول مرة
ليس غريبا أن تستهدف معركة النظام الصفرية بشكل أساسي جماعة الإخوان باعتبارها الجماعة الأكبر، والتي تمكنت من إيصال أحد أبنائها (د. محمد مرسي) إلى سدة الحكم كأول رئيس مدني لمصر عبر تاريخها، وهو ما عده العسكر افتئاتا على حقهم التاريخي في حكم مصر كما يعتقدون.
وكان واضحا أن النظام حاول من البداية التمييز بين الإخوان وباقي الحركات والجماعات الإسلامية الحركية، لكن غالبية هذه الحركات والجماعات رأت أن الانقلاب لم يتم على الإخوان أو الرئيس المنتمي إليهم فقط، بل هو انقلاب على الثورة والمسار الديمقراطي الذي سمح لهذه الجماعات بحرية الحركة لأول مرة منذ تأسيسها، كما أيقنت أن النظام يريد فقط الانفراد بالإخوان في المرحلة الأولى، لكنه لن يترك باقي تلك الجماعات التي كان لها دور مشهود أيضا في ثورة يناير وفي فوز أول رئيس مدني ينتمي للتيار الإسلامي.
في مواجهة الحرب الصفرية التي يخوضها النظام المصري ضد التيار الإسلامي، والتي يقدم بها نفسه لمناهضي هذا التيار داخل مصر وخارجها (وخاصة الكيان الصهيوني)، تنوعت مواقف الحركات والأحزاب والجمعيات الإسلامية. فمنها ما آثرت السلامة، وتجنبت تماما ما يزعج النظام، ومنها ما جمدت نشاطها بعد اعتقال قياداتها ورموزها، ومنها ما خففت نبرة حديثها وتجنبت الدخول في القضايا الحساسة.
ولكن رغم ضراوة الحرب على التيار الإسلامي إلا انه يظل التيار الأكثر تجذرا في المجتمع، والأكثر قدرة على مواجهة الاستبداد، خاصة إذا تمكن من إعادة تنظيم صفوفه ولملمة أشلائه، وتطوير رؤاه وخططه.
لا يمكن القول أن قوى التيار الإسلامي من جمعيات وحركات وأحزاب هي الحامي الوحيد للدين والقيم في مصر، إذ توجد هيئات إسلامية أخرى رسمية وغير رسمية وطرق صوفية، وفوق ذلك يوجد الأزهر بمعاهده ووعاظه. ولكن من الإنصاف أيضا رصد أثر غياب أو تغييب الجماعات الإسلامية الحركية عن المجتمع عبر بروز الكثير من الظواهر السلبية على المستوى القيمي والسلوكي، مثل انتشار ظاهرة المخدرات في القرى المعروفة بأنها محافظة بطبعها، وانتشار الزواج العرفي والتحرش.. الخ، حيث كانت تلك الجماعات تمثل عنصر ضبط اجتماعي مهم.
توجد هيئات إسلامية أخرى رسمية وغير رسمية وطرق صوفية، وفوق ذلك يوجد الأزهر بمعاهده ووعاظه. ولكن من الإنصاف أيضا رصد أثر غياب أو تغييب الجماعات الإسلامية الحركية عن المجتمع عبر بروز الكثير من الظواهر السلبية على المستوى القيمي والسلوكي
إحدى المشكلات الكبرى للتيار الإسلامي هي عزله عن الشعب، وتشويه صورته عبر حشد من الأكاذيب أو حتى بعض الحقائق، وعبر عشرات المسلسلات والأفلام والمقالات والبرامج، وبالتالي فإن هذا التيار يواجه تحديا كبيرا في التواصل مع عامة الشعب في الوقت الحالي، بما في ذلك الجماعات والجمعيات التي تعمل من داخل مصر وتحت سقف النظام. لكن هذه العزلة القسرية لا تلبث أن تختفي مع عودة الحريات للمجتمع، كما حدث مع الإخوان في الخمسينات والستينات، ثم عودتهم للمجتمع بدءا من منتصف السبعينات عقب خروجهم من السجون..
حرب الاستئصال التي يتعرض لها التيار الإسلامي تقع مسئوليتها الكبرى على النظام العسكري، ولكن لا يمكن تبرئة هذا التيار من الأخطاء أيضا، وحري بمكونات هذا التيار، كبيرها وصغيرها، مراجعة النفس وتحديد مسئولياتها عن بعض الأخطاء التي أوصلت مصر إلى هذا المصير. فالقرآن الكريم عاتب بعد هزيمة أحد من هم أفضل من هذه الجماعات: “أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (آل عمران: 165)، فالمراجعة والتقويم هي ضرورة لتصويب المسار وتجنب المزيد من الأخطاء.
الاستئصال التي يتعرض لها التيار الإسلامي تقع مسئوليتها الكبرى على النظام العسكري، ولكن لا يمكن تبرئة هذا التيار من الأخطاء أيضا، وحري بمكونات هذا التيار، كبيرها وصغيرها، مراجعة النفس وتحديد مسئولياتها عن بعض الأخطاء التي أوصلت مصر إلى هذا المصير
المجموعات الإسلامية المهاجرة قسرا خارج مصر تحتاج وبشدة لمراجعة مساراتها، وحسن توظيف المناخات والفرص المتاحة أمامها. وبما أن هذه الجماعات تعتبر الدعوة عملها الأصيل، فإن الدعوة لا تتوقف عند حدود مصر، فكل بلاد الله هي مجال للدعوة، وهناك الكثير من الشعوب التي تحتاج إلى دعاة يأخذون بأيديها إلى الخير، وخاصة في أفريقيا وآسيا. وإذا أحسنت تلك الجماعات المهاجرة توظيف طاقاتها في هذا المجال، فهي تسير على الطريق الصحيح الذي ترجو به رضا ربها.
من واجبات الوقت على هذه الجماعات أيضا التنافس في احتضان الشباب المهاجر ورعايته، وتوجيهه في المسارات التي تفيد وطنه وأمته، فهؤلاء هم الذخيرة التي ستحدث فارقا حال سمحت الظروف بالعودة إلى مصر وممارسة الأنشطة العامة فيها. وحسنا فعل الكثير من الشباب باتجاههم للتحصيل العلمي فنالوا درجات الماجستير والدكتوراه، خصوصا في العلوم الإنسانية التي كانت الحركة الإسلامية في مصر تفتقر إليها، لكن يظل هذا الأمر اجتهادا فرديا منهم، ويمكن تعظيم ذلك حال تبنيه ضمن أطر تنظيمية جماعية تتولى التوجيه والرعاية والدعم.
استعذاب المحنة لن يسمح بالتقدم خطوات للأمام، ولكن الصمود الحقيقي هو في ابتكار مسارات جديدة للعمل في حدود ما تسمح به القوانين والأعراف، وهي تسمح بالكثير، لكن المشكلة هي غياب العقل المنظم، وانشغاله بمعارك تنظيمية تؤخر ولا تقدم.
(المصدر: عربي21)