أرطغرل كافر والعثمانيون دواعش.. لماذا يكرهون الأتراك؟
بقلم عبد الحليم عباس
تقول الحكمة الإسكندنافية القديمة “إن لم يكن لك تاريخ.. فلتصنع واحداً. فالأمة التي لا تاريخ لها، حاضرها بائس ومستقبلها مجهول”. مقولة تدلل بلا شك على أهمية التاريخ في ضمائر الشعوب ودوره في صياغة الحاضر وبناء المستقبل، ذلك أن محاولة التعمق في فهم الحضارات سيقودنا إلى نتيجة مفادها أن للتاريخ دور فاعل في راهن أبنائها. لذلك دأبت كثير من الأمم -المتقدمة منها خاصة- على استحضار تاريخها السحيق على الرغم من مناقضته لحاضرها المتطور، في محاولة لاستلهام تجارب الماضي المضيئة والحفاظ عليها في ذاكرة أجيال الحاضر والمستقبل. وعلى الرغم من أن تاريخ الأمم والحضارات بشكل عام لا يخلو من التشويه والمبالغة وإفتقار للموضوعية والحيادية، فإن الشعوب غالباً ما تميل إلى التمسك بالمحطات المضيئة والشخصيات الملهمة من تاريخها ونبذ ما سوى ذلك من حقب مظلمة أو شخوص جدلية.
وعلى العكس من ما سبق ذكره عن علاقة الأمم بتاريخها، فإن نظرة العرب لتاريخهم في ظل حكم العثمانيين تتسم بكثير من الظلم والجهل وقليل من الموضوعية والمعرفة، وذلك على الرغم من قرب عهد الدولة العثمانية من ذاكرة الشعوب العربية كونها آخر خلافة حكمت العرب والمسلمين. ومع أن تدوين تاريخ العثمانيين لم يخل من التزييف والتشويه شأنه في ذلك شأن الكثير من تواريخ الأمم والحضارات، إلا أن الباحث عن الحقيقة يدرك أن التزييف كان ممنهجاً، والتشويه كان متعمداً. ولا أدل على ذلك من محاولات طمس معالم الخلافة العثمانية المشرفة أو تغييبها مع الإصرار على إبراز بعض سلبياتها أو أخطائها والتركيز عليها، الأمر الذي يطرح تساؤلات جدية عن الهدف من وراء ذلك.
كان الدافع وراء كتابة هذا المقال هو ما جاء في برنامج تبثه قناة سعودية قيل فيه أن أرطغرل والد مؤسس الدولة العثمانية كان كافراً، وأن الفكر الداعشي الإرهابي مستلهم من العثمانيين أنفسهم. قد لا تتجاوز هذه الإدعاءات في شكلها حدود الفرقعات الإعلامية أو النكايات السياسية، لكن خطورتها تكمن في اتساق جوهرها وتناغمه مع سياسة تشويه الحقبة العثمانية والإساءة لرموزها أو تغييبها والتي بدأت خلال الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية ونشوء فكرة الدويلات القومية المتفرقة كبديل عن الخلافة الإسلامية الجامعة واستمرت حتى وقتنا هذا.
يجمع المؤرخون والدارسون على أن أكثر من ثمانين بالمائة من تاريخ العثمانيين قد دون بأيادٍ غير عربية ولا إسلامية، وأن جل ما نعرفه عن الخلافة العثمانية قد أرخه الأوروبيون أنفسهم. وأن أكثر من نصف المراجع المعتبرة المعنية بسير بني عثمان وأخبارهم قد وضعت بعد سقوط دولتهم على قاعدة أن المنتصر هو من يكتب التاريخ. وعليه فإنه من السذاجة بمكان أن يتوخى المرء المصداقية والموضوعية في تاريخ نسجه أعداء الدولة العثمانية أو من افتتن بنهجهم. فالذاكرة الأوروبية متخمتة بمشاهد مؤلمة ومهينة ظهر فيها العثمانيون بمظهر الظافر والمنتصر، كفتح القسطنطينية ومعارك كوسوفو الأولى والثانية وموهاكس وحصار فيينا وبلجراد ونيكوبولس وفارنا وغيرها الكثير من الفتوحات والانتصارات التي بدا واضحاً أنها تركت جرحاً غائراً في ذاكرة الأوروبيين وتاريخهم، انعكس كذباً وتزويراً في تأريخهم للحقبة العثمانية. لم يكن ذلك هو المسبب الوحيد الذي أدى إلى العبث بتاريخ العثمانيين وإرثهم، بل إن مسببين آخرين أحدهما سياسي والآخر عاطفي كانا وراء ذلك أيضاً.
وضعت فرنسا وبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى نصب عينيهما مخططاً يرمي إلى تقسيم إرث الدولة العثمانية، وإنشاء دولة قومية للعرب بالإتفاق مع الشريف حسين الذي قاد ما سمي حينها الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين. لكن ذلك المخطط اصطدم باحتمال رفض العرب الإنكفاء في حدود قومية بعد أن استظلوا قروناً في خلافة إسلامية، وبدا أن شكوك الفرنسيين والبريطانيين ومخاوفهم حيال قبول العرب دولتهم المزمعة والتزامهم بها قد انعكس على خطاباتهم التي أعملت في تاريخ العثمانيين تشويهاً وتزويراً. ولا أدل على ذلك من خطاب وجهه الجنرال كلايتون للعرب قال فيه: “إن نير الترك كبل أعناقكم ٩٠٠ عام لأنكم أتبعتم أهواءكم ولم تكونوا متحدين أبداً.. والآن بيدكم الفرصة التي إذا أضعتموها فلن يغفر الله لكم.. إن من الأفضل أن يكون المرء طاهياً في السرية العربية من أن يكون وزيراً خاضعاً للأتراك”. نجح الفرنسيون والبريطانيون بتحريض العرب ضد العثمانيين عبر تشويه صورة الخلافة وماضيها القريب في عيون من كانوا في يوم رعاياها. وبدا أن العبث في التاريخ قد أتى أكله في استمالة العرب ومن ثم خداعهم ليصبحوا بين عشية وضحاها أيتام الخلافة تتقاذفهم دويلات عربية في القلب منها وطن اليهود المزعوم.
لعبت الأنظمة السياسية التي حكمت الدول العربية بعد حقبة الإستعمار دوراً رئيسياً في تشويه تاريخ الدولة العثمانية وتهميشه. فمع الوهن الذي أصاب الأنظمة العربية وتراجعها السياسي والحضاري وفشلها في معالجة قضايا مصيرية وفي مقدمتها قضية فلسطين، بدا واضحاً أن استحضار تاريخ العثمانيين بفتوحاتهم وعلو شأنهم يسبب حرجاً للأنظمة وحكامها بل وخطراً عليها من شعوبها التي قد تقارن بين الحال الذي كانت عليه في ظل الخلافة العثمانية قبل مائة عام، والحال الذي آلت إليه تحت حكم الدول القومية. فكان أن غيب تاريخ العثمانيين من جل المناهج الدراسية، وهمشت رموزه من سلاطين وقادة فتوحات، وعتم على منجزات الخلافة الحضارية والعمرانية وإسهاماتها الإنسانية التي بقيت آثارها شاهدة عليها حتى وقتنا الراهن. وفي المقابل بدا أن استحضار أخطاء الدولة العثمانية وعثراتها وسيلة الأنظمة الحاكمة لسلخ الشعوب عن تاريخها المشرف القريب. فنشأت أجيال لم تكن جاهلة بالخلافة العثمانية فحسب، بل ناقمة عليها أيضاً باعتبارها دولة احتلال شأنها في ذلك شأن غيرها من المحتلين. وفي نفس السياق، كان استعداء تركيا الحديثة من قبل بعض الأنظمة العربية ومن سار على نهجها جزء من تشويه التاريخ أيضاً. فالدولة التي كسبت قلوب ملايين العرب والمسلمين بسياستها وقيادتها وإعلامها بدت وكأنها تصحح المفاهيم المغلوطة التي زرعت في عقول العرب وتستنفر عاطفتهم صوب تاريخ خلافة مجيد كانت فيه تركيا المنبت والمنشأ.
التاريخ شاهد.. يشهد بالحق.. ولأن شهادة الحق مؤلمة، فقد أريد للتاريخ أن يشهد بالباطل في سبيل غايات مشبوهة وأهداف خبيثة لا تخدم سوى صناع واقعنا المرير من مستعمرين وحكام مستبدين. زوروا التاريخ وما زالوا، لأنهم يريدون إغراقنا في يأس حاضرنا بعيداً عن أمجاد ماضينا.. لأنهم يريدوننا عبيداً في دويلات متفرقة لا تملك من أمرها شيئاً بعد أن كنا رعايا في دولة ملكت الأرض وأصقاعها.. لأنهم يريدوننا أن نصمت على قهرنا وذلنا و حتى جوعنا بينما كان أجدادنا يضعون الطعام على رؤوس الجبال كي لا يجوع طير في بلاد المسلمين. زوروا التاريخ وما زالوا لأنهم لا يريدون لصرخات عبد الحميد أن تصل أسماعنا وهو يقول: لن أبيع فلسطين ولو بقي في عروقي قطرة من دماء.
(المصدر: مدونات الجزيرة)