مقالاتمقالات مختارة

أرصدتها بالأندلس 2.5 تريليون دولار ومولت “أغنى رجل” في التاريخ وأدارها صحابة ومسيحيون ويهود.. مؤسسة “بيت المال” الإسلامي

أرصدتها بالأندلس 2.5 تريليون دولار ومولت “أغنى رجل” في التاريخ وأدارها صحابة ومسيحيون ويهود.. مؤسسة “بيت المال” الإسلامي

بقلم مختار خواجه

تفيد التقارير الصحفية بأن الموازنة الأميركية في عام 2020 بلغت 4.5 تريليونات دولار، وهي ميزانية لدولة تقدم نفسها إمبراطورية مهيمنة في العالم منذ عقود؛ لكننا بقفزة تاريخية إلى الوراء نجد أن مؤرخا يتسم بالدقة في معطياته وتحليلاته التاريخية والاقتصادية هو المفكر الحضاري عبد الرحمن بن خلدون (ت 808هـ/1406م) يتحدث -في ‘المقدمة‘- عن أن أرصدة “بيت المال” في الدولة الأموية بالأندلس سنة 350هـ/964م كانت تفوق نصف هذا المبلغ، إذْ بلغت ما يعادل اليوم 2.5 تريليون دولار أميركي تقريبا!!

إن هذه المقارنة -رغم كل ما يعتريها من فروق وتقريبات- نجدها مهمة لفهم الأساس الاقتصادي الضخم الذي قامت عليه حضارة المسلمين باختلاف مراكزها. ولسنا بدعا في هذه المقارنة؛ ففي عام 2012م صدرت دراسة غربية اقتصادية تاريخية توصلت إلى أن سلطان إمبراطورية مالي المسلمة بغرب أفريقيا مَنْسَا موسى (ت 737هـ/1336م) هو “أغنى شخص عرفه التاريخ”!! حتى إنه تفوّق على الإمبراطور الروماني أغسطس قيصر (ت 14ق.م) المقدرة ثروته “بنحو 4.6 تريليونات دولار أميركي”!! ولا شك أن غنى هذا السلطان الأفريقي المسلم إنما استمده من ثراء “بيت المال” في سلطانه الذي امتد من شمال نيجيريا إلى الأطلسي.

وإذا كنا نتحدث عن “أصول نقدية” لمركز واحد من مئات المراكز الحضارية الإسلامية عبر التاريخ الإسلامي هو دولة الأندلس؛ فإن هذا الاهتمام الإسلامي البالغ بالثروة -الذي اتسم به المسلمون تاريخيا- كان وراءه فكر اقتصدي ورؤية تنموية، تمثلها مؤسسة “بيت المال” التي تمكن مقارنتها بوزارات المالية والبنوك المركزية والصناديق السيادية بلغتنا المالية اليوم، خصوصا عند الحديث عن أرصدة السيولة ومخزونات الذهب.

ولا نجد أوضح تعبيرا عن عمق هذا الفكر المالي الأخلاقي في العقل المسلم من عبارة لأحد كبار رؤساء هذه المؤسسة المسلمين؛ حين قال بتجرد وهو يواجه تدخلات السلطة السلبية في عملها: “نحن وإن كنا خُزَّان (= أمناء مالية) الأمير أبقاه الله فنحن [أيضا] خُزّان المسلمين”!!

إن هذه المقولة تُعدّ مفتاحية في استيعاب دلالات مفهوم “مال المسلمين” أو “المال العام”، إذ لا فرق بين المفهومين إطلاقا؛ وانطلاقا منها نظمت الحضارة الإسلامية -أحيانا كثيرة- قطاع “المال العام” في مسارات دقيقة وغاية في الإحكام والشفافية. وكان من اللافت أن التآليف الفقيهة والإدارية واكبت هذا المسار منذ لحظة انطلاقته الأولى مسدِّدةً الممارسةَ الحركية الواقعية؛ فكان فقه المعاملات والتمويل من أوسع أبواب الفقه ثراء وأولها تدوينا، بسبب الوفرة الاقتصادية والنهضة المالية والإنتاجية الكبيرة التي مرت بها أعصر الإسلام المتطاولة.

والحقيقة أنه لا يمكن فهم الحضارة الإسلامية إلا بدراسة تاريخ السلوك المالي للدول الإسلامية ومجتمعاتها، بدءا من عهد الخلفاء الراشدين وانتهاءً بالخلافة العثمانية؛ ومن هنا جاء هذا المقال ليكشف جوانب من روح حركية المال في تاريخ المسلمين عبر التطرق لملامح مؤسسة “بيت المال، والكشف عن مسارها التطوري، وسياساتها المتفاوتة إحكاما واختلالا، وآليات عملها المتباينة نجاعة وإخفاقا، والتعرف على وظائفها المجتمعية التنموية، وطاقمها الإداري الذي ضم كل ألوان الطيف الحضاري الإسلامي.

وعي مبكّر
أدرك المسلمون خطورة المال العام منذ العهد النبوي؛ فعندما حدثت واقعة جابي الزكاة ابنُ اللُّتْبية رضي الله عنه الذي جلب للنبي صلى الله عليه وسلم الصدقات لكنه احتجز لنفسه شيئا منها قائلا: “هذا لكم، وهذا لي أُهْدِي لي، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر، وقال: «ما بالُ العامل نَبعثه فيأتي، فيقول: هذا لك وهذا لي، فهلاَّ جلَس في بيت أبيه وأُمِّه، فيَنظر أيُهْدى له أم لا؟ والذي نفسي بيده، لا يأتي بشيء إلاَّ جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته»”؛ (رواه البخاري ومسلم).

أما على مستوى التنظير السياسي والإداري؛ فقد كان واضحا لممارسيه من قادة المسلمين وعلمائهم أن المال العام عصب الدولة وقوامها، إذ يروي الإمام الماوردي (ت 450هـ/1058م) -في ‘الأحكام السلطانية‘- خطبة للخليفة عمر الفاروق رضي الله عنه (ت 23هـ/644م)؛ فكان منها: “أَلَا وَإِنِّي مَا وَجَدْتُ صَلَاحَ هَذَا الْمَالِ إلَّا بِثَلَاثٍ: أَنْ يُؤْخَذَ بِحَقٍّ، وَأَنْ يُعْطَى في حَقٍّ، وَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ بَاطِلٍ، أَلَا وَإِنِّي فِي مَالِكُمْ كَوَلِيِّ الْيَتِيمِ إنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وَإِنِ افْتَقَرْتُ أَكَلْت بِالْمَعْرُوفِ”.

فخلاصة النظرة العُمَرية للمال العام هي ضرورة صيانة ارتباطه بمواضع الحق جباية وإنفاقا، وأن تكتفي القيادة منه بالحد الأدنى الكافي لضرورياتها لأداء مهمتها في رعاية مصالح البلاد وأهلها. وهي النظرة ذاتها التي يعبر عنها أول قاضي قضاة لعموم الدولة الإسلامية أبو يوسف القاضي (ت 182هـ/798م) في مقدمة كتابه ‘الخَرَاج‘ الذي تناول فيه الموارد المالية للدولة ونفقاتها، مبينا “أن صلاح الرعية.. بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ، وَرَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُمْ، وَالتَّظَالُمِ فِيمَا اشْتَبَهَ مِنَ الْحُقُوقِ عَلَيْهِمْ”.

توازي مؤسسةُ “بيت المال” قديما وزارةَ المالية في دول اليوم؛ حيث كانت هذا الجهاز الإداري يتلقى الجبايات من “ديوان الخراج” (إدارة التحصيل المالي) ويدعم “ديوان النفقات” المختص بمصروفات الدولة بما فيها نفقات “دار الخلافة”. وبذلك فإن بيت المال كان معنيا بحركة المال بصورة عامة في الدولة، وبالخزينة المركزية لها تحديدا، وبكفاءته تقاس قوتها وضعفها.

ويتحدث قُدَامة بن جعفر (ت 337هـ/948م) -في كتابه ‘الخَرَاج‘ وقد كان من كبار مسؤولين الماليين في الثلث الأول من القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي- عن مهام بيت المال؛ فيقول إنها تشمل ضبط “وجوه النفقات (= بنود الصرف) والإطلاقات (= أوامر الصرف الرسمية)، إذْ كان ما يرفع من الختمات (= التقارير المحاسبية الختامية) مشتملا على ما يرفع إلى دواوين الخراج.. من الحُمُول (= الإيرادات والعائدات)..، وما يرفع إلى ديوان النفقات مما يُطلق في وجوه النفقات”. ثم يؤكد قدامة المكانة المحورية لمن يتولى هذه الوظيفة فيقول إن “هذا الديوان إذا استوفيت أعماله كان مال الاستخراج بالحضرة (= مركز الدولة) والحُمول من النواحي (= الأقاليم) مضبوطا به”.

ويصف ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) -في ‘المقدمة‘- أهمية مؤسسة بيت المال واختصاصاته؛ قائلا: “اعلم أنّ هذه الوظيفة من الوظائف الضّروريّة للملك”، فمهمتها “القيام على أعمال الجبايات، وحفظ حقوق الدّولة في الدَّخْل (= الإيرادات) والخَرْج (= المصروفات)، وإحصاء العساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم (= رواتبهم)، وصرف أعطياتهم في إبّاناتها (= أوقاتها)، والرّجوع في ذلك إلى القوانين الّتي يرتّبها قَوَمَةُ (= مسؤولو المالية) تلك الأعمال”، حيث تكون مكتوبة “في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدّخل والخَرْج، مبنيّ على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلّا المَهَرة”.
نشأة متدرجة
نتيجة لذلك الإدراك المبكر لدور المال في بناء الدول وتطور الأمم؛ نشأت مؤسسة بيت المال في عهد الخليفة الصدّيق رضي الله عنه الذي “كان له بيت مال بالسُّنْح (= منطقة بالمدينة) معروف ليس يحرسه أحد، فقيل له يا خليفة رسول الله.. ألا تجعل على بيت المال مَنْ يحرسه؟ فقال..: «عليه قُفْلٌ»”؛ كما يروي محمد بن سعد (ت 230هـ/845م) في ‘الطبقات الكبرى‘.

ثم نُظمت هذه المؤسسة واستقلت تماما عن بقية وحدات الهيكل الإداري للدولة على يد الخليفة الفاروق رضي الله عنه، الذي صاغ في عام 15هـ/636م السياسات المتعلقة بـ”الخراج” ووضع “ديوان العَطاء”، وهو سجل يتضمن أسماء المستحقين والمبالغ المستحقة لهم؛ وفقا للطبري (ت 310هـ/922م) في تاريخه.

ويقول ابن الجوزي (ت 597هـ/1116م) -في كتابه ‘أخبار عمر‘- إن سبب وضع “ديوان العَطاء” هو قدوم أبي هريرة رضي الله عنه بمال من البحرين (معظم الساحل الشرقي للجزيرة العربية) سنة 20هـ/641م، وكان المبلغ 500 ألف درهم، فاستشار عمر رضي الله عنه الصحابة فاستقروا على هذا التدوين.

ويُنسب مقترح التدوين تحديدا -حسب رواية خليفة بن خياط (ت 240هـ/854م) في تاريخه- إلى هشام بن الوليد بن المغيرة (ت 41هـ/662م) الذي قال للفاروق: “يا أمير الْمُؤْمِنِين إني قَدْ رأيت هؤلاء الأعاجم يدوّنون ديوانا (= سِجلّ موظفين) يعطون الناس عَلَيْهِ”، وفي رواية “فدوّن ديوانا وجَنّد جندا”؛ فاستقر الأمر على ذلك. ويعتبر ابن خلدون -في ‘المقدمة‘- تدوين الديوان إدراكا من الصحابة لأهمية “إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق”.

ويروي الطبري أنه لما بُنيت الكوفة سنة 17هـ/639م جُعل بيت المال في القصر مقر الإمارة، وعندما تولى عليّ رضي الله عنه الخلافة نقل بيت المال المركزي إلى الكوفة، وكان ينادي “يَا ابْنَ التَّيَّاحِ (ت بعد 50هـ/676م): عَلَيَّ بِأَشْيَاخِ الْكُوفَةِ”! فكان يوزّع كلَّ ما في بيت المال على مستحقيه، وهو يردد “يَا صَفْرَاءُ (= الذهب) وَيَا بَيْضَاءُ (= الفضة) غُرِّي غَيْرِي”!! ثم يكنس بيت المال بنفسه دلالة على وفائه بحقه؛ وفقا لإسماعيل بن محمد الأصفهاني (ت 535هـ/1140م) في ‘سير السلف الصالحين‘.

وفي العهد الأموي انفصل “ديوان الخراج” عن “بيت المال”؛ فقد شهد عهد عبد الملك بن مروان (ت 86هـ/706م) تعريب الدواوين بصورة تدريجية، ضمن إجراءات استقلال مالي وإداري شملت أيضا سكّ عملة الدنانير الإسلامية سنة 75هـ/695م؛ طبقا لما أرَّخه ابن الجوزي في ‘المنتظم‘.

لقد كان ديوان المال والخراج بالفارسية في العراق وبـ”الرومية” [اللاتينية] في الشام، وكان ديوان الأعطيات في كل البلاد بالعربية؛ طبقا للمسؤول الإداري العباسي محمد بن عبْدوس الجَهْشَيَاري (ت 331هـ/943م) في كتابه ‘الوزراء والكتاب‘. ويروي المقريزي (ت 845هـ/1441م) -في ‘المواعظ والاعتبار‘- أن “ديوان مصر كان بالقبطية حتى عربه والي مصر عبد الله بن عبد الملك بن مروان (ت بعد 90هـ/710م) أمير مصر” سنة 87هـ/706م.

وكانت عملية التعريب الإداري تلك نقلة حضارية هائلة رصدها ابن خلدون بقوله إنه إثر حركة الفتوح “انتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأميّة إلى حذق الكتابة، وظهر في العرب ومواليهم مَهَرة في الكتاب (= الكتابة) والحسبان (= الحساب)”.

وقد أضاف العباسيون إضافات هامة فنيا وإداريا إلى مؤسسة بيت المال؛ فجعل وزيرهم الكبير خالد بن بَرْمَك (ت 165هـ/782م) أوراق الدواوين في دفاتر مجلدة، وفقا للجَهْشَيَاري الذي يفيدنا باستحداثهم خزائن أموال محمولة كما في قصة صرف الخليفة المهدي (ت 169هـ/786م) مالا لرجل في رحلة عندما “لحق بهما العسكر والخزائن”.

تبعية متذبذبة
يرى ابن خلدون أن بيت المال كان يتبع الخلفاء مباشرة في عهد بني أمية، بينما غدا تابعا في العهد العباسي “إلى مَنْ كان له النّظر فيه، كما كان شأن بني بَرْمَك وبني سهل بن نوبخت وغيرهم من وزراء الدّولة”، وذلك منذ بداية عهد المهدي كما في قول الجَهْشَيَاري: “ولما تقلد المهدي الخلافة ولَّى أبا عُبيد الله (معاوية ابن يسار الأشعري ت بعد 167هـ/783م) وزارتَه ودواوينَه سنة تسع وخمسين ومئة (159هـ/777م)”.

أما الدول التركية السلطانية في خراسان ونواحيها؛ فقد كان لهم خزانتان وفقا لما يرويه الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485هـ/1092م) في كتابه ‘سياست نامَهْ/سِيَر الملوك‘: “إِحْدَاهمَا الخزانة الأَصْل وَالْأُخْرَى خزانَة الْإِنْفَاق”، فخزانة الأصل تحتوي “الْأَمْوَال المتحصلة غَالِبا” ونادرا “مَا حولوها إِلَى الْأُخْرَى”، ويضيف أنها كانت لا يُنفَق منها إلا في الضرورات القصوى و”عَلى سَبِيل قرض يُعَاد اليها بعد ذَلِك”؛ تجنبا لاضطراب الدولة ماليا عند الطوارئ، فكأنها بهذا الاعتبار أشبه بـ”الصناديق السيادية” التابعة للدول في عصرنا هذا.

وفي ذلك العصر؛ أسمى العباسيون بيت المال “المخزن” أو “المخزن المعمور”، وأقدم نص تضمن هذه التسمية يرجع لعهد الخليفة القائم بأمر الله (ت 467هـ/1075م)؛ إذ يروي ابن الأثير (ت 630هـ/1233م) -في ‘الكامل‘- حكاية في “كرم” هذا الخليفة، يقول صاحبها: “دخلت المخزن فما بقي أحد لقيني إلا وأعطاني قصة (= ورقة صاحب حاجة)”!

وفي الغرب الإسلامي؛ بقي بيت المال بعيدا عن سيطرة الوزراء “في دولة بني أميّة بالأندلس والطّوائف بعدهم” وفقا لابن خلدون، بينما كان سلاطين دولة الموحدين يجعلونه ديوانا مستقلا يتولى مقرّه المركزي رجل “من الموحّدين يستقلّ بالنّظر”، إلا إن صاحب بيت المال صار “مرؤوسا للحاجب (= مدير تشريفات السلطان) وأصبح من جملة الجُبَاة”.

وفي ملمح قد يتصل بالثقافة التركية؛ انقسم بيت المال عند المماليك تبعا لإلغاء الوزارة عند المماليك، إذ يقول المؤرخ الإداري ابن فضل الله العمري (ت 749هـ/1349م) -في ‘مسالك الأبصار‘- متحدثا عن الوزارة: “ثم إن السلطان (= الناصر محمد بن قلاوون ت 741هـ/1340م) أبطل هذه الوظيفة.. وصار ما كان إلى الوزير منقسما إلى ثلاثة؛ إلى ناظر المال (= “ناظر الخزانة السلطانية” عند المقريزي) ومهمته: “أمر تحصيل المال، وصرف النفقات والكُلَف (= التكاليف)، وإلى ناظر الخاص تدبيرُ جملة الأمور وتعيين المباشرين (= الموظفين)”.

هيكلية صارمة
في الهيكل الداخلي لمؤسسة بيت المال؛ بدأ عدد موظفي بيت المال باثنين فقط بالمدينة المنورة في عهد عمر رضي الله عنه، هما مُعَيْقِيب بن أبي فاطمة الدوسي رضي الله عنه (ت قبل 40هـ/661م) -الذي هاجر الهجرتين- وعبد الله بن الأرقم رضي الله عنه (ت 44هـ/664م)؛ فكان أحدهما المسؤول الأول عن بيت المال فيدعى ‘صاحب بيت المال‘. كما نجده في خبر أورده ابن سعد (ت 230هـ/845م) -في ‘الطبقات الكبرى‘- عن التابعي مران بن عبد الله الخزاعي (ت بعد 93هـ/713م) أن “عمر بن الخطاب كان إذا احتاج أتى ‘صاحب بيت المال‘ فاستقرضه، فربما عسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه”!!

ولاحقا في عهد عثمان رضي الله عنه عين له حراس لكنهم لم يكونوا مسلحين؛ كما يروي ابن كثير (ت 774هـ/1373م) -في ‘البداية والنهاية‘- ضمن أحداث استشهاد الخليفة عثمان: “ثم تنادى القوم: أن أدركوا بيت المال لا تستبقوا إليه؛ فسمعهم حَفَظَة (= حراس) بيت المال فقالوا: يا قوم النجاء النجاء”!!

وفي العصر الأموي؛ تنوعت بنية بيت المال حسب قواعد كل دولة بعد بروز ظاهرة استقلال دول الأطراف منذ أواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي؛ يقول ابن خلدون: “وقد تُفْرَد هذه الوظيفة بناظر واحد ينظر في سائر هذه الأعمال، وقد يُفْرد كلّ صنف منها بناظر”، ثم يوضح أن ذلك “على حسب مصطلح الدّولة وما قرّره أوّلوها” من تراتيب إدارية.

ففي العهود الأولى من الدولة الإسلامية المركزية؛ كان الغالب أن يكون والي الولاية مسؤولا عن المال والإدارة وحسب، في حين انفصلت القيادة العسكرية عن نظيرتها المالية والإدارية، ويلخص الوزير عليّ ابن الفرات (ت 312هـ/ 924م) الغايةَ من ذلك بقوله إن “السيف (= المؤسسة العسكرية) تابع والقلم (= المؤسسة الإدارية/المدنية) متبوع، وقلّ سيف غلب القلم إلا كان داعية الخراب”!

وظل الأمر على ذلك حتى بداية تولي قادة الجيوش الولايات بالاستيلاء عليها، كما في تأسيس الدولة الطولونية بمصر منتصف القرن الثالث الهجري العاشر الميلادي، وكذلك الدولة السامانية في الجناح الشرقي من الخلافة أواخر القرن نفسه.

وكان من القلة الذين جمعوا المنصبين (العسكري والمالي/الإداري) في حقبة الفتوح الأولى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه (ت 43هـ/664م) في ولايته للبصرة؛ حسب خليفة بن خياط في تاريخه. وكانت ولاية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه (ت 55هـ/676م) مدنية فقط لم تتضمن القيادة العسكرية للفتوح، ثم صارت ولاية بيت المال مدنية؛ وفقا لرواية الطبري. واطّرد الأمر بجمع المسؤوليات كلها للولاة بمصر منذ عهد عمرو بن العاص (ت 43هـ/664م) حتى الحقبة الطولونية، فهذا الكِنْدي (ت 355هـ/961م) يروي -في كتابه ‘الولاة والقضاة‘- أن كل من حكم مصر “جُمِع له صلاتُها وخَراجُها”.

صلاحيات متعددة
وإذا أخذنا الدولة العباسية -في عهدها الأوسط- نموذجا للتنظيم الإداري لمؤسسة وزارة المالية؛ فسنجد أن الوزير -الذي هو عمليا بمثابة رئيس الوزراء- كان يأتي على رأس هرمية المؤسسة المالية، ويكون مسؤولا عن بيت المال أمام الخليفة عند العباسيين؛ وفقا للجهشياري.

ويروي الصابئ ما يفيد بانتباه مؤرخي الإدارة الإسلامية الأقدمين إلى محورية الانسجام بين مسؤولي مرافق الدولة السيادية، وتماثلهم في تميز الكفاءة والتسيير؛ فيحكي أن “مشايخ الكتّاب [كانوا] يقولون: إنه لم يجتمع في زمن من الأزمنة خليفة (= رئاسة الدولة) ووزير (= رئاسة الوزراء) وصاحب ديوان (= وزير مالية) وأمير جيش (= وزير دفاع) مثلُ [ما اجتمع في خلافة] المعتضد بالله (ت 278هـ/891م)”.

ثم إن هذه المؤسسة صارت جزأين منفصليْن منذ بداية القرن الرابع: فهناك “بيت مال العامة” (الخزانة العامة للدولة) الخاص بالمال العام وبنود إنفاقه، ويقابله “بيت مال الخاصة” (صندوق مخصصات رئاسة الدولة) الذي يغطي مصاريف الخليفة/السلطان وأسرته، ويصرف منه الجوائز لندمائه وشعرائه. وحسب الجَهْشَياري فإن “بيت مال الخاصة” ظهر في خلافة الهادي العباسي (ت 170هـ/786م)، وقد صار هذا الجهاز يُعرف في دولة المماليك بـ”ديوان المفرد”؛ طبقا للمقريزي في كتابه ‘السلوك‘.

وإذا كان “بيت مال الخاصة” اعتُبر خاصا بالخليفة أو السلطان ينفقه كيف شاء؛ فإن أكثر الخلفاء والسلاطين كانوا مطلقي اليد حتى في “بيت مال العامة” وفروعه المناطقية، فهذا ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) يروي -في ‘معجم الأدباء‘- أن خليفة الفاطميين “المستنصر (ت 487هـ/1094م) صاحب مصر بذل لأبي العلاء (المعري ت 449هـ/1058م) ما في بيت المال بالمَعَرّة (= معرة النعمان بسوريا) من الحلال فلم يقبل منه شيئا”!!

وبالنسبة للصلاحيات والإجراءات الخاصة بمؤسسة بيت المال؛ فإن قُدامة يفيدنا بأنها تتلخص في أنه إذا “أخرج صاحب دواوين الأصول وأصحاب دواوين النفقات ما يخرجونه في ختمات (= دفاتر المراجعة المالية الشهرية) بيت المال المرفوعة إلى دواوينهم..، [فإن] سبيل الوزير أن يُخرِج ذلك إلى صاحب هذا الديوان (= بيت المال) ليتصفحه ويخرج ما عنده فيه” من قرارات. أي أن الأموال كانت تراجع بصورة دورية وفقا للمكتوب في الدفاتر، فيطابق ما فيها بما عند صاحب بيت المال وموظفيه من مستندات.

يلي منصبَ الوزير في التراتبية الإدارية “صاحبُ بيت المال” الذي هو اسم وظيفي قديم، كما سبق نقله عن ابن سعد في ‘الطبقات الكبرى‘؛ ثم تغير لاحقا ليصبح “صاحب المخزن”. وصاحب بيت المال يطلق غالبا -في العصر العباسي- على رجلين هما: صاحبا “بيت مال الخاصة” و”بيت مال العامة”، وقد يجمعان لشخص واحد كما حدث في عهد المقتدر بالله (ت 320هـ/932م) حين وليَ بيوتَ الأموال الخاصة والعامة والنفقات أبو الحسن ابن هبنتي القُنّائي (ت بعد 312هـ/924م)؛ وفقا للصابئ.

خبرة فنية
وإذا كان بيت المال مسؤولا عن “حمْل حُمول المملكة إلى بيت المال والتصرف فيه تارة بالميزان وتارة بالتسبيب بالأقلام”، حسب السيوطي (ت 911هـ/1506م) في ‘حسن المحاضرة‘؛ فإن ذلك يعني أن موظفي بيت المال كانوا إما كتابا أو جهابذة، فالكتّاب هم المحاسبون وكتبة التقارير الذين يقومون بمهمة “التسبيب بالأقلام”، أي يتولون الجزء الإداري من عمل المؤسسة المالية.

أما “الجهابذة” فهم مستخدمو “الميزان” أو موظفو الجزء المالي الفني من وظائف بيت المال، بما فيه من حسابات وتدقيق، والجهابذة هم الخبراء الماليون والصيارفة الذين يميزون النقود الجيدة من الزائفة، إذ الجِهْبِذ “هو الفائق في تمييز جيد الدراهم من رديئها”؛ كما يقول النووي (ت 676هـ/1271م) في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘.

وكانت تُوكَل إلى هؤلاء الجهابذة الأعمال المحاسبية والقبض والصرف، وكانت “ختمة الجهبذ” هي علامة الجهبذ على أوصال ما صرفه، وقد يوكل الوزير بعض المهام التسييرية جباية وصرفا لجهابذته “دون صاحبيْ بيت مال الخاصة والعامة”؛ كما يقول الصابئ الذي يفيدنا بأن من ضمن إدارات بيت المال “ديوانيْ الفضّ والخاتم، وجاريهما (= راتب المسؤول عنهما) في كل شهر أربعمئة دينار (= اليوم 70 ألف دولار أميركي تقريبا)”!!

ومن اللافت كثرة الجهابذة من اليهود والمسيحيين خاصة في العهد الأموي الذي كانت الدولة تعاني فيه من قلة الكوادر الفنية المالية؛ فكان منهم منصور بن سرجون الرومي (ت بعد 78هـ/698م) الذي يقول خليفة بن خياط إنه تولى “الديوان كله” بالشام للخلفاء، منذ عهد معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ/680م) رضي الله عنه وحتى تعريب الدواوين. وعاصره مردانشاه بن زاذان فَرُّوخ (ت 82هـ/701م) مدير ديوان الخراج بالعراق، بدءا بعهد زياد بن أبيه (ت 53هـ/673م) وانتهاء بولاية الحَجّاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ/714م).

كما كثُر الجهابذة اليهود والمسيحيون في العصر العباسي؛ فكان من أبرزهم اليهوديان: يوسف بن فِنْحاس (ت بعد 296هـ/907م) وهارون بن عمران (ت بعد 309هـ/922م)، طبقا للصابئ؛ وابن سنكلا النصراني (ت بعد 329هـ/941م)؛ حسب الصولي. وفي العهد المملوكي تولى الحسابات عدة كتاب من اليهود السامرة كما يروي أبو بكر بن أيبك الداوداري (ت 736هـ/1334م) في “كنز الدرر”.

ومن الكتّاب من كان يترقى وظيفيا في السلم الإداري لمؤسسة “ديوان بيت المال” حتى يتولون رئاستها، كما حصل لسليمان ابن مخلد (ت 332هـ/944م) الذي جمع “دواوين الأزمة والنفقات وبيت المال”، وكان تحته كتبة يربطونه بصاحب بيت المال (مسؤول الخزانة العامة)؛ حسب هلال بن المحسن الصابئ (ت 448هـ/1057م) في ‘تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء‘.

إجراءات دقيقة
ونحن نجد معطيات عن الدورة الإدارية لإجراء أي اعتماد صرف من بيت المال؛ إذْ يحدثنا ياقوت الحموي -في ‘معجم البلدان‘- أن الأديب عيسى ابن دأب الليثي (ت 171هـ/787م) كان نديما مفضلا عند الخليفة العباسي الهادي، فـ”أمَر له ليلة بثلاثين ألف دينار”، فلما أراد قبضها قيل له: يجب التوجه إلى “صاحب التوقيع ليُخرج لك كتابا إلى الديوان، فتديره هناك ثم تفعل به كذا وتفعل به كذا”!

ويحدثنا الصابئ أيضا عن إجراءات التوظيف بمؤسسة بيت المال في عهده؛ فيروي في إحدى وقائع تثبيت موظفين جُدُد أن الوزير “عُرضت الكتب (= مستندات التوظيف المالية) عليه فأمر بإخراج نسختها إلى الديوان وضربها بالعلامات (= الأختام)، وردها إليه بعد ذلك..، وأعيدت إليه فوقّع فيها وأمر بختمها” وإرسالها إلى المكلفين بالصرف المالي.

كما يقرر قدامة بن جعفر أنه من الإجراءات المعتمدة رسميا أن “يكون لصاحب هذا الديوان (= وزير المالية) علامة على الكتب (= التقارير) والصكاك (= الأول المالية) والإطلاقات (= أوامر الصرف)، يتفقدها الوزير (= رئيس الوزراء) وخلفاؤه ويراعونها، ويطالبون بها إذا لم يجدوها، لئلا يتخطى أصحابها والمدبرون هذا الديوان فيختل أمره ولا يتكامل العمل فيه”.

أما عن إجراءات الجباية؛ فإنه كان منها أن لكل صنف من أصناف الأموال موظفا مختصا بجبايتها، وقد أوصى أبو يوسف القاضي الخليفة بإسناد ولاية الزكاة خاصة إلى رجل أمين ليتولى “جَمِيعِ الصَّدَقَاتِ فِي الْبُلْدَان”. وكان هناك موظفون للشؤون الجمركية على الحدود في العهد الأموي؛ طبقا لابن سعد في ‘الطبقات الكبرى‘.

ومن أهم مهام الكتاب مراجعة الحسابات وضبطها وإصلاح خلل السجلات؛ حسبما تفيده رسالة “قرار توظيف” كتبها عبد الحميد ابن أبي الحديد (ت 655هـ/1257م) رئيس كتّاب الخزانة العامة ببغداد في القرن السابع الهجري/الـ13م. فقد وضحت الرسالة أن من مهام الكاتب المالي أن “يشرع في تحقيق حساب المعاملات المذكورة، وإصلاح ما عساه يجده فيه من الخلل”، ليرجع الحساب “إلى الطريقة المسلوكة”، ثم يُجري “المقابلة بها لتذاكر الأعمال” (= التقارير السابقة) لاستدراك الحسابات الفائتة، ويراجع كذلك “الرُّوزات” أي الأوصال/الفواتير اليومية.

ومن أهم صفات الكتّاب المتميزين الجمعُ بين الأخلاق والمهارة في العمل؛ فقد جاء في الوصية السياسية الشاملة التي القائد العباسي طاهر بن الحسين (ت 207هـ/823م) لابنه الأمير ابنه عبد الله (ت 230هـ/844م) حين ولّاه المأمون بعض البلاد، نصحُه إياه بتولية “ذَوِي الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ، وَالتَّجْرِبَةِ وَالْخِبْرَةِ بِالْعَمَلِ، وَالْعِلْمِ بِالسِّيَاسَةِ وَالْعَفَافِ”؛ طبقا للطبري في تاريخه. أما مؤرخ الإدارة الإسلامية القلقشندي (ت 821هـ/1418م) فيؤكد -في ‘صبح الأعشى‘- أهمية وظيفة منتسبي وزارة المالية، فيقول إنها يجب أن “لا يليها إلا ذو العدالة البارزة من أهل العلم والديانة”.
أسبقيات إدارية
وقد كتب الفقهاء أيضا في هذا الباب؛ فتناول أبو يوسف القاضي صفات موظفي جباية الزكاة: “فَلْيُوَجِّهَ فِيهَا أَقْوَامًا يَرْتَضِيهِمْ وَيَسْأَلُ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ وَطَرَائِقِهِمْ وَأَمَانَاتِهِمْ”، كما ربط الفقهاء بين الاختصاص والصلاحيات وصفات الكاتب، يقول الجويني (ت 478هـ/1085م) في ‘الغياثي‘: “فَأَمَّا الْأَمْرُ الْخَاصُّ فَهُوَ كَجِبَايَةِ الصَّدَقَاتِ (= الزكوات)”، وَيضيف: “يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُوَلَّى مُسْتَجْمِعًا خَصْلَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: الصِّيَانَةُ وَالدِّيَانَةُ. وَالثَّانِيَةُ: الشَّهَامَةُ وَالْكِفَايَةُ اللَّائِقَة”.

كان وزن المال الوارد لمعرفة عيار ذهبه وفضته أول إجراء قام به الصديق رضي الله عنه معتمدا على وزّان كان يعمل في المدينة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. كما قام هذا الوزّان بأول جرد لبيت المال عند وفاة الصدّيق رضي الله عنه، وفقا لرواية ابن سعد في ‘الطبقات‘؛ حيث تسلمه عمر رضي الله عنه والصحابة ففتشوا فيه “فلم يجدوا دينارا ولا درهما”، وعثروا على “خيشة للمال نفضت فوجدوا فيها درهما”، فسألوا الوزان عن المال الوارد لبيت المال، فقدّره بـ”مئتي ألف”.

كما قام الصدّيق بأول إبراء ذمة مالي؛ إذ يروي ابن الجوزي -في ‘مناقب عمر‘- أن الصدّيق رضي الله عنه طلب من أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ/679م) رضي الله عنها تسليم الأشياء التي استخدمها على حساب بيت المال إلى خليفته الفاروق رضي الله عنه. ولضبط تواريخ القبض والصرف وضع عمر رضي الله عنه التاريخ الهجري؛ وكان سبب ذلك -حسب رواية ابن الجوزي- أن عمرَ وصله صكٌّ مالي محدد موعد صرفه بشهر شعبان، فسأل: “شعبان هذا الذي مضى؟ أم الذي هو آتٍ؟ أم الذي نحن فيه؟”، ففكر المسلمون في تحديد التقويم ومبدئه.

ومع تأسيس بيت المال وتنظيم سجلاته بدأ ضبط راتب أمير المؤمنين (رأس الدولة)، فاكتفى عمر رضي الله عنه بطعام المتوسط والكسوة، كما روى ابن الجوزي. وكان عمر -كما سبق القول- يستسلف من بيت المال حتى يخرج عطاؤه فيسدد، وقد كتب خليفته عثمان رضي الله عنه لعبد الله بن عمر (ت 73/693م) رضي الله عنه براءة بسداد ديون والده بعد أسبوع من وفاته وأشهد عليها.

كما ألزم عمر رضي الله عنه ولاتَه بتدوين أموالهم في إجراء سابق لما يُعرف اليوم بـ”التصريح بالذمة المالية”؛ فقد روى ابن سعد “أَنَّ عُمَرَ كَانَ إِذَا اسْتَعْمَلَ عَامِلا كَتَبَ مَالَهُ”. وأخذ نصف أموال ولاته التي كسبوها أثناء الولاية فردّها في بيت المال العام؛ فقد “أَمَرَ عُمَّالَهُ فَكَتَبُوا أَمْوَالَهُمْ.. فَشَاطَرَهُمْ عُمَرُ أَمْوَالَهُمْ فَأَخَذَ نِصْفًا وَأَعْطَاهُمْ نِصْفًا”. ولعل هذه المقاسمة كانت لدرء أي شبهة انتفاع هؤلاء الولاة بنفوذ مناصبهم بصورة غير مباشرة.

وقد يلجأ الخليفة لإبراء ذمته أمام الناس بسبب شائعاتهم؛ فابن كثير يروي أنه كثر كلام الناس بشأن إنفاق الوليد بن عبد الملك (ت 96/716م) فقال له أحد حراسه: “يا أمير المؤمنين، إن الناس يقولون: أنفق الوليد أموال بيت المال في غير حقها”! فأمر بجمع الناس في المسجد الأموي وصارحهم بما بلغه، وطلب خزائن بيت المال كاملة وأفرغها الخزنة “وأمر بوزن المال كله، فإذا هي تكفي الناس ثلاث سنين مستقبلة وفي رواية: ست عشرة سنة مستقبلة لو لم يدخل للناس شيء بالكلية، ففرح الناس وكبّروا”!!

تخصص واستقلالية
ومع العهد الأموي، أصبح لكل بند من الأموال الواردة صندوقه، فقد دفع الإمام التابعي مكحول (ت 112هـ/731م) لبيت المال، فوُضعت في “تابوت الصدقة (= الزكاة)”؛ وفقا لابن عساكر (ت 571هـ/1176م) في ‘تاريخ دمشق‘.

وكانت رواتب الموظفين تُصْدَر بصكوك (قسيمة راتب) تسلم إليهم؛ ومن صيغها ما ورد عند الكندي في ‘الولاة والقضاة‘: “بسم اللَّه الرَّحْمَن الرحيم، من عيسى بْن أَبِي عَطاء (الشامي ت بعد 131هـ/750م) إلى خُزَّان (= أمناء) بيت المال، فأَعطوا عبد الرحمن بْن سالم القاضي رِزقه لشهر ربيع الأول وربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين ومئة (131هـ/750م) عشرين دينارًا (= اليوم 3000 دولار أميركي تقريبا)، واكتبوا بذلك البراءَة؛ وكُتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأوَّل سنة إحدى وثلاثين ومئة”.

أما عملية الاستلام والتسلم للعهدة المالية بين الموظفين فتنوعت إجراءاتها لطفا وعنفا؛ فعند انتهاء الدولة الأموية تسلم أبو جعفر المنصور (ت 158هـ/776م) ديوان العراق من يزيد بن عمر بن هبيرة (ت 132هـ/750م) بهدوء “فتقدم بختم بيوت الأموال”، كما يروي الطبري في تاريخه، وعندما توفي السفاح وتولى المنصور الحكم “وَكَانَ عِيسَى بْنُ مُوسَى (= الأمير العباسي ت 155هـ/783م) قَدْ أَحْرَزَ بُيُوتَ الْأَمْوَالِ وَالْخَزَائِنَ وَالدَّوَاوِينَ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَرٍ، فَسَلَّمَ الْأَمَرَ إِلَيْهِ” كما يقول ابن الأثير في الكامل.

وقد يحدث التسلم بصورة غير سلسلة عند اتهام الوالي أو الكتبة؛ فقد اعتقل عمر بن مِهْران (ت بعد 176هـ/793م) والي مصر زمن الرشيد واليها السابق عليه عيسى بن موسى (ت بعد 176هـ/793م) لظلمه، وقبض على كتابه بكمين، وتسلم ديوانيْ بيت المال والخراج و”ختم عليهما”.

كما ظهر مصطلح “ختمة الجهبذ”، ولعل أقدم نص وردت فيه حوار بين المنصور العباسي وشاعر تسلم منه جائزة بعشرة آلاف درهم، فقال المنصور له: “احتفظ بها فليس لك عندنا غيرها”، فرد بأنه سيبقيها بـ”ختمة الجهبذ”؛ طبقا للسيوطي في تاريخ الخلفاء.

وقد يرفض أمناء المالية سداد المبلغ المطلوب لأنه مخالف لضوابط الإنفاق المعتمدة؛ فقد رفض خزان “بيت مال العامة” في الأندلس سداد جائزة للمغني زرياب الموصلي (ت 243هـ/858م) أمر له بها الأمير عبد الرحمن الأوسط (ت 238هـ/852م)؛ وفقا لرواية ابن القوطية (ت 367هـ/978م) في ‘افتتاح الأندلس‘. فقد ردوا على الأمير قائلين: “نحن وإن كنا خُزَّان (= أمناء مالية) الأمير أبقاه الله فنحن خُزّان المسلمين” أيضا، مشيرين إلى أن مال المسلمين ينفق في مصالحهم فقط.

وكان الوزير هو الذي يحدد بداية سنة الجباية المالية، ففي محرم سنة 324هـ/936م قرر الوزير “أن يفتتح الخراج (= يبدأ السنة المالية) في هذا الشهر”؛ طبقا للصولي (ت 336هـ/ 946م) في كتابه ‘أخبار الراضي والمتقي‘. ويبدو أن ذلك العام كان آخر عام مالي رسمي منضبط الإجراءات والتسيير، فبعده وصف ابن الأثير -في كتابه ‘الكامل‘- الحال بقوله: “وَبَطَلَتِ الدَّوَاوِينُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَبَطَلَتِ الْوِزَارَةُ، فَلَمْ يَكُنِ الْوَزِيرُ يَنْظُرُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأُمُورِ..، وَصَارَتِ الْأَمْوَالُ تُحْمَلُ إِلَى خَزَائِنِهِمْ (= الأمراء) فَيَتَصَرَّفُونَ فِيهَا كَمَا يُرِيدُونَ، وَيُطْلِقُونَ لِلْخَلِيفَةِ مَا يُرِيدُونَ، وَبَطَلَتْ بُيُوتُ الْأَمْوَالِ” المُحْكَمة التسيير كما كان.

مواكبة علمية
اهتمت كتب الفقه ببيان موارد بيت المال ومقدار المجبي منها لصالحه؛ ودون الدخول في التفصيلات الكثيرة المتعلقة بعدد هذه الموارد وتعريفاتها ومشمولاتها؛ فإنه يمكن اختصار أهمها في الموارد الخمسة التالية: 1- الغنيمة: ويعرفها أبو يوسف القاضي -في كتابه ‘الخراج‘- بأنها “ما يُصِيبُـ[ـه] الْمُسْلِمُونَ مِنْ عَسَاكِرِ أَهْلِ الشِّرْكِ” إثر انتهاء القتال، ويكون خُمُسها (= 20%) لبيت مال الدولة. ومن مشمولات الغنيمة عموما “الفَيْء” الذي يعرفه الماوردي بأنه “كُلَّ مَالٍ وَصَلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ”، والفيء يكون ماله جميعا ملكا لخزانة الدولة.

2- الرِّكَاز: أي الثروة المعدنية للدولة، ويعرفه أبو يوسف القاضي بأنه: “كُلِّ مَا أُصِيبَ فِي الْمَعَادِنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ”. 3- الخراج: وهو ضريبة استغلال المواطنين للأراضي الزراعية التابعة للدولة. 4- العشور: وهو الضريبة المأخوذة من تجارة غير المسلمين القادمين من بلادهم. 5- الزكاة: وتشمل الثروة التجارية من البضائع والنقديْن (الذهب والفضة) والثروة الحيوانية والثروة الزراعية، وهي وإن كانت تشرف الدولة على جبايتها من أغنياء المواطنين الواجبة عليهم فإن مصارفها مختلفة عن مصارف بقية الموارد الأخرى.

وفقا لرواية أبي يوسف القاضي؛ فإن الخليفة الصدّيق رضي الله عنه اعتمد سياسة التسوية في مخصصات الناس الاجتماعية، فقد بدأ بسداد ما في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعود للأشخاص، أما ما تبقى من أموال عامة فقد “قَسَّمَهَا بَيْنَ النَّاسِ بِالسَّوِيَّةِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَالْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى. فَخَرَجَ عَلَى سَبْعَةِ دَرَاهِمَ وَثُلُثٍ لِكُلِّ إِنْسَانٍ”، وفعل ذلك بكل مال جاءه طوال خلافته.

أما سياسة خليفته عمر فقد قامت على خيار التفضيل بين الناس في المخصصات؛ ولذا يقول ابن سعد -في ‘الطبقات‘- إنه “أَنْزَلَهُمْ عَلَى قَدْرِ مَنَازِلهمْ من السوابق” في اعتناق الإسلام والتضحية فيه، وحسب القرابة من النبي صلى الله عليه وسلم. أما عليّ رضي الله عنه فقد كان في خلافته يقسم كل ما في بيت المال؛ كما سبق القول.

وحين جاء الخليفةُ الأموي عمر بن عبد العزيز (ت 101هـ/720م) اتّبع سياسة التسوية بين الناس في المخصصات المالية، كما كان يميز بين ذمته الشخصية وذمة بيت المال حتى إنه “أمر ألّا يُسَخَّن ماؤه الذي يتوضأ به ويغتسل به في مطبخ العامة” الذي تعدّ فيه الأطعمة للمحتاجين. وقد أدت هذه السياسة للنتيجة الآتية: “فَلَقَدْ رَأَيْتُ مَنْ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ لَهُ إِبِلٌ فِيهَا صَدَقَةٌ”؛ كما لدى ابن سعد في ‘الطبقات‘.

كما قام بعدة إصلاحات يرويها محمد بن سعد في ‘الطبقات الكبرى‘، منها أنه عيّن أبا بكر بن محمد ابن حزم (ت 120هـ/739م) ليتولى التفتيش المالي، وأمره قائلا: “اسْتَبْرِئِ الدَّوَاوِينَ (= الإدارات المالية)، فَانْظُرْ إِلَى كُلِّ جَوْرٍ جَارَهُ مَنْ قَبْلِي مِنْ حَقِّ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ فَرُدَّهُ” إليه أو إلى ورثته. ثم ردّ المظالم لبيت المال حتى إنه نفد رصيد بيت مال الكوفة بسبب ردها؛ حيث قال صاحب بيت مال الكوفة التابعي أبو الزناد ابن ذكوان (ت 130هـ/748م): “فَرَدَدْنَاهَا حَتَّى أَنْفَدْنَا مَا فِي بَيْتِ مَالِ الْعِرَاقِ وَحَتَّى حَمَلَ إِلَيْنَا عُمَرُ الْمَالَ مِنَ الشَّامِ”.

ويقول الحموي -‘معجم البلدان‘- إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة قال: “إني أرى في أموال مسجد دمشق كثرةً قد أنفِقتْ في غير حقها (= في الزخرفة ونحوها)، فأنا مستدرِكٌ ما استدركتُ منها، فرُدّت إلى بيت المال”.

تباين لافت
أما السياسات المالية العباسية؛ فقد تنوعت بين تدقيق المنصور وبذخ المهدي كما يذكر الجَهْشَياري، وبرزت محاولة التنظير عبر كتاب الخراج للقاضي أبي يوسف. ثم صار الوزراء -مع ضعف مكانة الخلفاء- هم واضعي السياسات المالية، وتفاوتوا في ذلك؛ فقد اشتهر الوزير العباسي عليّ ابن الجراح (ت 335هـ/946م) بالتدقيق المفرط في المال.

أما السلاجقة فكان منظّرَهم الأبرز وزيرُهم البارع نظام الملك الذي عُرف بتشجيعه على التدبير المالي والاقتصاد في النفقة، إلا أن الرشا ومنع المظالم والتعديات كانت تلجئ بعض العمال لاسترضاء حاشية السلطان أو الوزير بالهدايا، وكانوا يضيفون تكاليف فائضة على المشاريع الحكومية لتمريرها؛ فمما يرويه الصابئ عن تدقيق الوزير ابن الجراح في دواوين مصر المالية أنه اكتشف أن أحد الجسور يكفي لصيانته سنويا عشرة دنانير فقط، بينما “العمال يحتسبون عنه على السلطان ستين ألف دينار كل سنة”!!

أما في أندلس الدولة الأموية؛ فقد اتبع عبد الرحمن الناصر (ت 350هـ/960م) سياسة مالية واضحة المعالم ومتوازنة التخطيط، وفقا لرواية ابن عذاري المراكشي (ت 695 هـ/1295م) الذي يقول في ‘البيان المُغْرِب‘: “كان الناصر قد قسم الجباية على ثلاثة أثلاث: ثلث للجند، وثلت للبناء، وثلث مُدَّخَر”.

يوضح ابن خلدون أن الدولة في أولها لا تفرض “المكوس” (الضرائب) لقلة الإنفاق، ولكن مع تزايد النفقات وتعدد الوظائف وترف الطبقات الحاكمة تزيد الدولة الضرائب، فيؤثر هذا سلبا على الأسواق فيختل العمران وتضطرب أمور الدولة. وقد اختلفت السياسة المالية العامة للدولة الإسلامية تاريخيا حسب نظرة الخليفة ورجاله وكفاءتهم، وحسب قوة الموارد وشحها وإجادة توزيعها أو إساءتها.

ويخبرنا المقريزي -في ‘المواعظ والاعتبار‘- بأن المهدي العباسي هو “أوّل من وضع على الحوانيت الخراج في الإسلام” وكان ذلك سنة 167هـ/793م، وأن “أوّل من أحدث مالا سوى مال الخراج بمصر أحمد بن محمد بن مدبر لما ولي خراج مصر بعد سنة خمسين ومئتين”. ثم زادت الضرائب كثيرا طبقا لكلام ابن خلدون “في أخريات الدّولة العبّاسيّة والعُبيديّة (= الفاطمية) كثيرا، وفُرِضت المغارم حتّى على الحاجّ في الموسم”، وكذلك “وقع بالأندلس لعهد الطوائف”.

وفي المقابل؛ ألغى السلطان يوسف بن تاشفين (ت 500هـ/1106م) بالمغرب والأندلس، واعتبر الأمير عبد الله بن بُلُقِّين/بُلُكِّين الصنهاجي بلكين (ت بعد 483هـ/1090م) -في مذكراته ‘الإحاطة‘- أن العوام في الأندلس أحبوا المرابطين لإسقاطهم المكوس عنهم. كما ألغى السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت 589هـ/1193م) الضرائب في دولته “جملةً وأعاضها بآثار الخير”؛ حسب ابن خلدون.

أما آخر محاولات الخلفاء العباسيين للإصلاح المالي في بيت المال؛ فكانت قبيل سقوط بغداد في أيدي التتار سنة 656هـ/1258م، وتُنسب للخليفة الظاهر بأمر الله (ت 623هـ/1220م) الذي يروي عنه ابن الأثير إصداره تعميما بتخفيض ضرائب الدولة بنسب تجاوزت 80%، رغم احتجاج مسؤولي المالية قائلين: “إن هذا القدر يصل إلى المخزن، فمن أين يكون العوض؟”.
موارد متزايدة
تعكس محتويات بيت المال حالة الدولة من القوة الإدارية والتوسع، واللافت أنها بلغت في بعض عهود الدول الإسلامية مستوى هائلا من الضخامة. فبينما كانت إيرادات بيت المال في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه 200 ألف درهم (فضِّي = اليوم 250 ألف دولار أميركي تقريبا)، كما يذكر ابن سعد في ‘الطبقات‘؛ نمت هذه الإيرادات في عهد عمر فبلغ الوارد من منطقة البحرين فقط في سنة واحدة 500 ألف درهم، أما الوارد من العراق فقد بلغ في عهده حسب الماوردي في ‘الأحكام السلطانية‘: “مِئَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَم (120 مليون درهم)ٍ”.

ويخبرنا ابن عساكر بأن أرصدة بيت المال وصلت -في إحدى سنوات حكم الوليد بن عبد الملك الأموي- إلى 300 مليون درهم، كما بلغ عند وفاة المنصور العباسي 900 مليون درهم؛ وفقا للجهشياري. بينما يروي الذهبي (ت 748هـ/1347م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أن محتوى بيت المال عند بيعة المقتدر العباسي بلغ سنويا 15 مليون دينار ذهبي (= اليوم 2.5 مليار دولار أميركي تقريبا).

أما أرصدة بيت المال بالأندلس الأموية فقد وصلت معدلات هائلة جدا خلال النصف الأول من القرن الرابع؛ إذ ينقل ابن خلدون –في ‘المقدمة‘- عن “الثقات من مؤرخيها (= الأندلس) أن عبد الرحمن الناصر خلّف في بيوت أمواله خمسة آلاف ألف ألف دينار مكررة ثلاث مرات (= 15 مليار دينار ذهبي)”، ويعادل هذا المبلغ اليوم 2.5 تريليون دولار أميركي تقريبا!!

أما الأموال الواردة إلى بيت المال؛ فإنها كانت تصرف غالبا في بنود أهمها: رواتب الموظفين المدنيين والجيش (النظامي والمتطوعة)، ونفقات الضمان الاجتماعي للطبقات الضعيفة، ومصالح البلاد العامة من خدمات (تعليم وصحة) ومرافق العمارة (طرق وجسور وأسوار وقلاع)، إضافة طبعا إلى أوجه الصرف الاستهلاكية من بذخ القصور وفساد الطبقة الحاكمة.

ورغم أن بيت المال لم يكن على احتكاك مباشر بجماهير الناس؛ فإنه كان معنيا بحل مشاكل معينة تتعلق بالإنفاق وتعديل سياساته، فكان بيت المال مكلفا بسد احتياجات الناس دون تمييز وخاصة في العهود الراشدة. فقد روى أبو يوسف القاضي -في كتاب ‘الخراج‘- حكاية اليهودي الأعمى الذي كان يتسول لسداد الجزية، فسأله عُمَرُ الفاروق رضي الله عنه: “مِنْ أَيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنْتَ؟ فَقَالَ: يَهُودِيٌّ، قَالَ: فَمَا أَلْجَأَكَ إِلَى مَا أَرَى؟ قَالَ: أَسْأَلُ الجِزْيَةَ وَالحَاجَة وَالسِّنّ”!

فأخذ عمر -رضي الله عنه- هذا اليهودي إلى منزله “فَرَضَخَ لَهُ بِشَيْء مِنَ الْمَنْزِلِ”، ثم أمر خازن بيت المال قائلا: “انْظُرْ هَذَا وَضُرَبَاءَهُ (= أمثاله)؛ فَوَاللَّهِ مَا أَنْصَفْنَاهُ أَن أكلنَا شبيبته ثُمَّ نَخُذُلُهُ عِنْدَ الْهَرَمِ”!! ثم ألغى الجزية عنه وعن أمثاله وخصص لهم رواتب ثابتة.

مصارف خدمية
ونجد لدى الصابئ بنودا محددة بالصرف على المرافق العامة كما أثبِـتت في سجلات مالية، فكان منها: “جاري (= راتب شهري) المؤذنين.. والأئمة والبوابين، وثمن الزيت للمصابيح والحُصُر..، والماء والخلوق (الطيب والعطور)..، من جملة 100 دينار في كل شهر، 3 دنانير وثلثاً (يوميا)”. وكذلك “نفقات السجون وثمن أوقات المحبسين” والخدمات المقدمة: 1500 دينار شهريا، 50 دينارا يوميا. ونفقات البيمارستان الصاعدي” وتشمل الأطباء بتخصصاتهم ومشرفي الطعام والطباخين: 450 دينارا في الشهر: 15 دينارا يوميا.

وفي الحقبة ذاتها؛ أجريت إصلاحات صحية للسجون وحملة طبية في السواد بأمر الوزير علي بن عيسى بن الجراح، فيما يرويه جمال الدين القفطي (ت 646هـ/1248م) -في ‘إخبار العلماء بأخبار الحكماء‘- في ترجمة سنان بن ثابت الحراني (ت 332هـ/943م) حيث أمره الوزير “بإنفاذ متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون فِي السواد”، وشملت تلك الحملة المسلمين وغيرهم من أهل الأديان جميعا.

كانت القدرات الحسابية والكتابية والذهنية الهائلة هي الصورة الذهنية عن الكتّاب والجهابذة. ومن بين مختلف أنواع كتّاب الدولة كان كتّاب بيت المال ضمن “كتّاب الخراج” الذين يتوقع منهم العلم التام “بِالشُّرُوطِ.. والحساب والمساحة” وغيرها من متعلقات المحاسبة الزراعية، بينما يختص الكتاب الباقون بالأعمال القضائية أو الشرطية أو العسكرية أو الإنشاء، وذلك وفقا لنص في “الفرج بعد الشدة” للقاضي المحسن التنوخي (ت 384هـ/994م).

ويروي الصابئ عن الوزير علي ابن الفرات قوله: “من وازن من الكتاب المحاسبة، وأوضح الحجة في المكاتبة، وألزم العامل الواجب في المعاملة، كان حقيقياً بما انتسب إليه”؛ أي أن الإداري الناجح يتقن الموازنة والمحاسبة وضبطها، ويكتب رأيه بأدلة واضحة، ويضبط واجبات الموظفين والعمال في إدارته.

كانت مراجعة الحسابات تكشف الاختلالات المالية بما فيها من تلاعب واختلاسات؛ فقد طالب الخليفةُ عمر بن عبد العزيز والي خراسان يزيد بن المهلب (ت 101هـ/720م) بإرجاع ستة ملايين درهم مستحقة عليه لبيت المال المركزي، وراسله قائلا: “لا أجد في أمرك إلا حبسك، فاتق الله وأدِّ الأمانة التي قبلك” ثم حبسه حين رفض إرجاع المال؛ وفقا للجَهْشَياري.

وقد يجري التحقيق الإداري بالتفتيش المفاجئ على العامل في ناحية ما، ويسمى المتولي لهذا الأمر “المُسْتَحِثّ” أو “المُسْتَخرِج” الذي يكلف بالجرد والتحقيق، وفي العادة يتولى ذلك أحد الكتاب ولا يتولاه وزير؛ طبقا للقاضي التنوخي لما ذكره -في ‘الفرج بعد الشدة‘- من قصة “مُسْتَحِثّ [مُرْسَل] من الوزير [إلى والٍ] يطالبه بحمل الأموال”.

اختلالات ظرفية
ومع ضعف الخلفاء وتهاونهم في مراجعة التصرفات المالية للوزراء؛ تلاعبوا ببيت المال واختلسوا منه مباشرة أو عبر إضافة بنود جديدة، فقد اختلس علي ابن الفرات 700 ألف دينار وفقا لرواية الصابئ. كما كان لترهل الوزارة دور في اختلال الضبط المالي للدولة.

ومن ذلك ما يحكيه مسكويه (ت 421هـ/1031م) -في ‘تجارب الأمم‘- عن ضعف إدارة الوزير أبي علي الخاقاني (ت 312هـ/924م) وابنه، وأنه كانت تأتيهما تقارير الحسابات “فلا يقرأها أحد منهما إلا بعد فوت الأمر الذي وردت فيه الكتب (= التقارير)، وتبقى الكتب بالحمول (= الإيرادات) والسَّفاتِج (= سندات قبض مالية) في خزانتهما، لا تُفَضُّ ولا يُعْرَف حال ما فيها؛ ففسدت الأمور.. وضاعت”!!

ومن حوادث اختلاس المسؤول الأول عن بيت المال التي ترتب عليها إعدام مرتكبها ومصادرة ممتلكاته؛ ما أورده الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- ضمن وقائع سنة 512هـ/1118م من أنه “قُبض على ‘صاحب المخزن‘ أبي طاهر بن الجزري (ت 512هـ/1118م) وأعْدِم، وأخذ من داره أربعمئة ألف دينار (= اليوم 67 مليون دولار أميركي تقريبا) مدفونة” فيها.

وفي العصر المملوكي، يروي صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ/1363م) -في أعيان العصر- اتهام بعض أعيان دمشق صاحب بيت المال شمس الدين غبريال المسلماني (ت 734هـ/1333م) بالاختلاس، فسئل ناظر خزانة الشام والمحتسب عز الدين ابن القلانسي (ت 736هـ/1336م) فقال: “كيف أشهد؟ وهو في كل شهر يصرف له جامكية (= راتب) عشرة آلاف درهم؟”، مشيرا لطول خدمته، فخسر ابن القلانسي الحسبة وبُرئ غبريال وبقي على الخزانة حتى سنة 732هـ/1332م حيث عُزل بتهمة الفساد وصودرت أمواله فـ”أدى ألفي ألف درهم وأهين وصودر أهله من بعده”؛ وفقا للذهبي في ‘العِبَر‘.

في البدايات المبكرة كان التعيين والإقالة يتمّان بتسليم المفتاح وسحبه أو بالمشافهة، وربما تكون أقدم الاستقالات هي استقالة عبد الله بن الأرقم ومُعَيْقِيب رضي الله عنه من مسؤولية بيت المال زمن عثمان رضي الله عنه لكبر سنهما؛ حسب المُحِبُّ الطبري (ت 694هـ/1295م) في ‘الرياض النضرة في مناقب العشرة‘.

أما أول إقالة استطعنا رصدها فكانت إقالة والي الكوفة عُبيد الله بن زياد (ت 67هـ/687م) لخازن بيت مالها شقيق بن سلمة (ت 82هـ/701م) لاعتراض الأخير على كثرة المصاريف في مطبخ الوالي، فقال له عبيد الله: “ضع المفتاحَ واذهب حيث شئتَ”؛ حسب ابن الجوزي في ‘مناقب عمر‘.

وفي العهود اللاحقة صار التعيين في بيت المال يصدر برسالة واضحة تعرف بـ”التوقيع” ويوصف صدوره بعبارة: “خرج التوقيع” بكذا، ويتضمن خطاب التعيين -كما يحصل اليوم في قرارات التوظيف- ذكر مهام ومهارات المسؤول وتحديدا لراتبه، كما في رسالة تعيين لكاتب أصدرها ابن أبي الحديد: “والمفروض له في هذه الخدمة كذا وكذا”. وقد يعاقب صاحب بيت المال وتصادر أمواله وتهدم داره عند اتهامه، كما حدث للحسن بن نصر ابن الناقد (ت 604هـ/1207م) الذي عوقِب “فاستأصله الخليفةُ وخَرَّب دارَه وحبسه”؛ وفقا لعبارة الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘.

(المصدر: الجزيرة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى