أدب الإسلام في حوار بين الغزالي ومحب الدين الخطيب
بقلم الشيخ عبد الآخر حماد الغنيمي
للشيخ محمد الغزالي رحمه الله ( 1917-1996م) كتاب من بواكير كتبه عنوانه : ( في موكب الدعوة ). وقد صدرت طبعته الأولى عام 1954م ، وهو عبارة عن تجميع لمقالات كان قد نشرها في بعض المجلات الإسلامية قبل ذلك . ومن ضمن فصول هذا الكتاب استوقفتني مقالات ثلاث [ من ص: 109 ،وحتى ص: 125] ،وهي تتضمن حواراً بينه وبين الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله (1886- 1969م) . والخطيب هو لمن لا يعلم عالم وأديب من أصل سوري عاش في مصر ،وشارك في نهضتها الأدبية والفكرية ،وأنشأ صحيفتي الزهراء والفتح ، وكان من مؤسسي جمعية الشبان المسلمين . كما تولى رئاسة تحرير مجلة الأزهر في الفترة من 1952 وحتى 1958م ، كما أنشأ المطبعة السلفية ومكتبتها بالمنيل ،والتي اضطلعت عبر عدة عقود بنشر كتاب التراث الإسلامي ، وكان له عناية خاصة بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم . كما كان له دور مهم في الرد على عقائد الفرق المنحرفة ، وبخاصة الشيعة الاثنى عشرية ،الذين كان البعض يروج في تلك الفترة للتقارب معهم من خلال ما سمي بجمعية التقريب بين المذاهب الإسلامية.
وأما بخصوص الفصول المشار إليها فإنها تتضمن نقاشاً علمياً حول مسألة من مسائل السياسة الشرعية ،تتعلق بكيفية تولية الحاكم في الإسلام . وقد شدني في هذا الحوار ما لاحظته في لهجة الرجلين من حسن الأسلوب ،والحرص على أن يكون الاختلاف في حدود أدب الإسلام ، كما سيأتي تفصيله بعد قليل .
كانت البداية أن نشر الشيخ الغزالي مقالاً بعنوان : (الأمة والفساد الملكي ). وكان مما جاء فيه انتقادُه لبعض ما ذكره القاضي أبو بكر بن العربي في كتابه : ( العواصم من القواصم )، وهو كتاب كان محب الدين الخطيب قد حققه وقام بطبعه ونشره في تلك الفترة . وكان مجمل انتقاد الغزالي متوجهاً لما اعتبره انحيازاً من ابن العربي لتقاليد الحكم الملكي المطلق ، حيث دافع ابن العربي عن يزيد بن معاوية ، واعتبر أن ما فعله معاوية -من استخلاف ابنه يزيد وعدم ترك الأمر شورى – لا يزيد على كونه تركاً للأفضل . وقد علق الغزالي على هذا الكلام بقوله : ( وهذا الكلام الذي يقوله ابن العربي كلام فارغ لا وزن له في الإسلام ، فالعدول عن الشورى ليس عدولاً عن الأفضل ، بل عدولاً عن الواجب ). ثم قال الغزالي بعد أن نقل فقرة أخرى من كتاب ابن العربي : ( وهذا قول كان ينبغي أن يظل مطموراً ،فما يساء إلى الإسلام بنشره في أيام توضع فيها الشرائع لقمع الحكام وإلزامهم حدود الأدب .ولكن الإسلام المتعب من كيد أعدائه ، يقوم فريق من بنيه بنشر هذه السخافات دعاية له ).
والذين يعرفون الشيخ الغزالي ،يعرفون أن من أهم سمات شخصيته رحمه الله ، أنه كان محباً للحرية ،كارهاً لما يراه من ظلم الحكام واستبدادهم ، ولعل في ذلك ما يفسر هذه اللهجة الشديدة في رده على القاضي ابن العربي رحمه الله .
ولما كان محب الدين الخطيب هو محقق كتاب ابن العربي ،وناشر ذلك الكلام ،الذي ينتقده الغزالي ،فقد كتب مقالاً عنوانه : (هل الحكم الشرعي كلام فارغ ؟ ) ،يرد فيه على ما جاء في مقال الغزالي السابق . وقد كان مقال الخطيب منصباً على بيان أن ما ذكره ابن العربي في كتابه هو الحكم الشرعي في هذه المسألة ، وأنه ليس اجتهاداً خاصاً بابن العربي ، وإنما هو القول الذي قرره أهل العلم من قبل ابن العربي ومن بعده . ثم نقل عن بعض أهل العلم كالماوردي وابن حزم ما يؤيد ما ذهب إليه . وقد كان من إنصاف الغزالي أنه نشر في كتابه المشار إليه مقال الخطيب كاملاً قبل أن يشرع في الرد عليه بمقال عنوانه : ( هل هو حكم شرعي؟ ).
والحقيقة أني لا أريد هنا أن أخوض في تفاصيل الخلاف الفقهي بين الشيخين ، ولا كيف انتصر كل منهما لقوله ، وذلك حتى لا أبتعد عن الغرض الأساسي من كتابة هذه السطور .ألا وهو بيان تلك الصورة المضيئة التي أشرت إليها من صور الخلاف الراقي ،المتسم بأدب الإسلام العظيم والذي نفتقده كثيراً في أيامنا هذه . ولذا سأكتفي بنقل مقدمتي هذين المقالين .
أما الأستاذ محب الدين الخطيب رحمه الله فقد استهل مقاله بقوله : ( لو سألني سائل عن الصحف الدورية الحبيبة إليَّ الأثيرة عندي٬ لكان أول ما يخطر ببالي في الجواب عليه أنها صحيفة “الدعوة “و “المسلمون” . ولو سألني أن أُسمِّيَ له عشرةً من الكتاب هم في طليعة من أحبهم٬ وأحترم إخلاصهم٬ وأُكْبرُ جهادَهم ،لكان من هؤلاء العشرة- الذين أرجو الله أن يكونوا من أهل الجنة- الأستاذ محمد الغزالي٬ والأستاذ سيد قطب. وأعترف بأنى إذا وصلتني ” الدعوة” فأول ما أقرؤه من فصولها مقالتا هذين الأخوين الفاضلين. وقد صُدمت في هذا الأسبوع صدمة آلمتني في أمتع ناحية من عواطفي ،وأدناها من قرارة المحبة والطمأنينة والسعادة. عندما قرأت لأخي الشيخ الغزالي مقاله الأخير “الأمة.. والفساد الملكي” . ولو غيره قالها ممن يُسفِّهون أحكام الإسلام ،ويتعمدون تشويه جمال ماضيه. لأدرت القول معه من ناحية “حق الله” ،وما يجب على المسلم من الدفاع عنه والمحافظة عليه. ولكن الشيخ الغزالي-فيما قرأت له من نفثات قلمه- أرعى منى لحق الله٬ وأشجع مني في الدفاع عنه٬ وأيقظ مني في المحافظة عليه. ثم إنه رجَّاع إلى الحق. قوَّام بأحكام الشرع ،يسره أن يكون تاريخ المسلمين -ولاسيما في صدره الأول- نقياً في الواقع مما يصمه به المغرضون. لذلك أصبح من الواجب عليَّ أن أدير القول مع الأخ الحبيب من ناحية “حق المسلم على أخيه المسلم” لتكون يدى بيده٬ وهما في طريقهما إلى الهدى إن شاء الله ) . ثم شرع الخطيب في رده الذي أشرتُ إلى أني لا أريد الدخول في تفاصيله .
وأما الغزالي رحمه الله فرغم ما أشرنا إليه من شدته في نقد كلام ابن العربي ، والذي نظن أن باعثه عليه لم يكن سوى خوفه من أن يستغل هذا الكلام في تبرير ظلم الظالمين واستبدادهم ،إلا أنك تجد في حواره مع الخطيب نوعاً من الرفق واللين ،واعترافاً جميلاً بفضل من سبقوه في الدعوة والجهاد . فقد استهل مقاله المعنون : “هل هو حكم شرعي ..؟ ” بقوله : ( من حق أستاذنا الجليل السيد محب الدين الخطيب أن نقرأ ما يكتبه بعناية وتدقيق٬ وأن نتلقى رأيه باحترام وتقدير٬ فإنَّ له من دراسته الطويلة٬ وسبقه البعيد ما يجعله إمامًا في الأدب والنقد. وسوف أذكر له بالإكبار أنه- من قبل أن أُولَد- حمل قلمه٬ ودافع عن بيضة الإسلام ضد هجوم الملاحدة من أذناب الغرب المستعمر. ومثلى لا يجحد حق الذين شاخوا في خدمة الإسلام٬ ولا يزالون قدوة للشباب في الدأب على الدرس والتوجيه! والأستاذ محب- إن أصاب- فهو أهل الصواب٬ ومنه نستزيد علمًا بديننا وتاريخنا .وإذا خالفته في فهم- وقلما يحدث ذلك- فكما ذكر ابن القيم أن الهدهد قال لسليمان: ( أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين) .وسليمان هو سليمان النبي الحكيم٬ والهدهد هو الطائر التافه الضعيف. ولن أزال- بعد أن أعود إلى شرح موضوع البحث- في وضعي من الأستاذ محب٬ أي في موضع الطالب للعلم من شيخه الكريم ) . ثم أخذ الغزالي بعد ذلك في الدفاع عن وجهة نظره في اعتبار أن ما قرره ابن العربي ليس حكماً شرعياً .
والحقيقة أني لا أستطيع أن أكتم إعجابي بمثل هذه الكلمات الطيبة من الطرفين . فإن محب الدين الخطيب يكبر الغزالي بأكثرَ من ثلاثين عاماً ،ومع ذلك نجده يشيد به وببراعة قلمه ، ولا يستنكف أن يقول عنه : ( أرعى منى لحق الله٬ وأشجع مني في الدفاع عنه٬ وأيقظ مني في المحافظة عليه) .وانظر في المقابل إلى أدب الغزالي وحسن اختياره للألفاظ ،وبخاصة حين أراد أن يشير إلى أن الأستاذ محب الدين بشر يخطئ ويصيب ، فإنه حين تكلمه عن إصابته قال : ( إن أصاب، فهو أهل الصواب٬ ومنه نستزيد علماً ) . لكنه حين تكلم عن احتمال خطئه لم يقل : ( وإن أخطأ فهو كذا ) ، بل قال : ( وإذا خالفته في فهم- وقلما يحدث ذلك …). ثم انظر إلى تواضعه حين شبَّه موقفه مع الأستاذ الخطيب بموقف الهدهد مع سليمان عليه السلام . كما أن في نقله ذلك عن ابن القيم ما يفيد أن الغزالي رحمه الله كان -ومنذ بداياته المبكرة – بعيداً عن التعصب الذي كان يوجد في كتب بعض المتأخرين ،ضد ابن تيمية وابن القيم ،واعتبارهما من أهل البدعة والضلالة .
رحم الله هذين العالمين الجليلين ، ورزقنا وإياكم الاقتداء بهما في حسن الخطاب ،ومراعاة أدب الخلاف .
(المصدر: رابطة علماء المسلمين)