مقالاتمقالات مختارة

أخطار التطبيع العربي مع العدو الصهيوني

بقلم عبد القدوس الهاشمي – مدونات الجزيرة

هل غادر الشعراء من متردم؟ لا ولا كثيرٌ من الكتّاب. كان عنترة في قصيدته يتسائل ما الذي تركه الأول للآخر؟ ومعنى مطلعه ” هل تركت الشعراء موضعا مسترقعا إلا وقد رقعوه وأصلحوه؟ وهذا استفهام يتضمن معنى الإنكار ، أي لم يترك الشعراء شيئا يصاغ فيه شعر إلا وقد صاغه فيه”

وفي هذا دلالة على أن الناس تأخذ قريبًا من قريب وتقع الفكرة من السماء في أذهان كثير من الناس على سواء فمنهم من يبادر بالتعبير عنها ومنهم من تنقصه الموهبة أو النشاط فتبقى أسيرة ذهنه. ألا ترى أنك تقرأ كتابًا فتقول “هذا المؤلف يكتبُ من صدري). وقد كنتُ أخطط للكتابة عن هذه المرحلة البائسة التي انتهيت إليها قضيتنا الفلسطينية ومجاهرة دول الخليج بالتطبيع مع العدو الصهيوني لنتردى في دركة أخفض مما كنا فيه على مستوى قضيتنا الأم. ثم إني قرأتُ مقالًا جيدًا للأستاذة دانا الكرد وهي طالبة دكتوراه في العلوم السياسية في جامعة تكساس على موقع المركز العربي للأبحاث والدراسات كتبته بالإنجليزية تحت عنوان ” The Dangers of Arab Normalization with Israel”  فلما قرأته قلتُ: هذا كثيرٌ مما كان يتردد في ذهني ولكنه في قد نُظم ورتّب على طريقة حسنة، فبادرتُ بترجمته. على أنها ليست ترجمة حرفيةً فذلك شيء يضجرني. ولكن كل أفكاره للسيدة دانا.

قالت دانا:

لا يزال الجدل قائمًا في الإعلام حول التطبيع العربي مع إسرائيل، فبين فترة وأخرى تطل علينا أمثلة مختلفة لعملية التطبيع كزيارة مجموعة من الكويتيين للأراضي المحتلة، مرورًا بالتنسيق الأمني بين الإمارات العربية والمتحدة والحكومة الإسرائيلية، وانتهاءً بتمويل مؤسسة الدوحة للأفلام بتمويل مخرج إسرائيلي. كان الجدل محدودًا و الأمر مختلفًا قبل ولادة السلطة الفلسطينية -وقد وُلدت شيخة- (هذه من عندنا، قال شاتوبريان عن باسكال: “وُلد رجًلا” أما السلطة الفلسطينية فقد وُلدت وعصا الشيخوخة في يدها) بالنسبة لما يُعتبر تطبيعًا. أما الآن فمع الالتباس والإبهام في إدارة الأراضي الفلسطينية ومع الرسائل المختلطة من الفلسطينيين أنفسهم بات التطبيع مفتقرًا إلى إعادة تعريفٍ وتقويم.

في هذا المقال سنبيّن أن التطبيع سياسة قاصرة وضارة للقضية الفلسطينية ولنا نحن العرب على مستوى الحكومات والشعوب. ويتلخص ضرر التطبيع الذي ندير عليه مقالتنا في تهديد الاستقرار في الوطن العربي، و تغذية التطرف، وزيادة النفوذ الإيراني. هذا بالنسبة للعرب، أما للقضية فإنه يتيح لصناع القرار في الولايات المتحدة تقديم حلولٍ جائرة لحل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.

حجج التطبيع: مباشرة وغير مباشرة.

يمكننا تعريف التطبيع على أنه ممارسة سياسات (على مستوى الحكومات) أو أفعال (على مستوى الأفراد والجماعات) للتعامل مع إسرائيل أو الإسرائيليين على أنهم جزء طبيعي في الوطن العربي، وتجاهل ممارسات الحكومة الإسرائيلية والإسرائيليين في إبادة وتشريد الفلسطينيين. ويسعى “التطبيع” إلى إنشاء علاقات مع إسرائيل و تجاوز الجرائم الإسرائيلية بحق الفلسطينيين من غير تحميلهم مسؤولية تلك الجرائم.

اعلم أن حجج التطبيع عند المطبّعين منقسمة إلى نوعين: صريحٌ وخفي. فالمطبّعون الصريحون ينادون بضرورة إنشاء علاقات بين الحكومات العربية وإسرائيل من أجل أهداف استراتيجية. وأما المستترون فمع زعمهم معارضة السياسات الإسرائيلية إلا أنهم يرون أن زيارة الأراضي الفلسطينية لا تعتبر عملًا تطبيعيًا. وفيما يلي بيان الحجتين وفسادهما.

حجة التطبيع الصريح:

تقوم هذه الحجة الداعية لضرورة التطبيع الصريح مع إسرائيل على تقدير وجود مخاوف استراتيجية مشتركة بين العرب وإسرائيل، وغالبًا ما يستخدم الخطر الإيراني كمستند لهذه الحجة. فتدخل إيران في شؤون داخلية لعدة دول عربية كسوريا و العراق وغيرها، والعداء التاريخي بين ملكيات الخليج وإيران يوحي بانطباع على وجود وحدة في المصالح بين الحكومات العربية و إسرائيل.

وعلى أية حال فمع التسليم بالتدخل الإيراني الصارخ في شؤون داخلية لدول عربية فإن ذلك لا يعني بالضرورة أن الخطر الإيراني هو الخطر الأكبر على الوطن العربي. إن زعمًا كهذا (كون إيران هي الخطر الأكبر الذي ينبغي أن يقربنا من إسرائيل) يتناسى الإرث التاريخي لتدخل اسرائيل في المنطقة منذ نشوءها في عام 1948 على حساب الشعب الفلسطيني. ويتناسى صورة إسرائيل ككيان معتدٍ مولع بالصراع شن اعتداءات على ثمان دول عربية في فترة زمنية قصيرة هي مصر والعراق و الأردن و لبنان وليبيا والسودان وسوريا وتونس. كما أن هذه الحجة أيضا تهمل تأثير اسرائيل المباشر في عسكرة الدول المحيطة وأثر ذلك على تطورها السياسي، فالاستراتيجية الاسرائيلية تقتضي الاستمرارية في التفوق العسكري على جيرانها وهذا يجعل الدول المجاورة تعاني في المحافظة على استقرارها الداخلي.

عدِّ عن تلك المخاوف المزيفة  وتعال بنا إلى لغة الأرقام. فالغالبية الساحقة من الشعوب العربية لا يرون في إيران أكبر خطر على منطقتهم، ولكنهم يرون إسرائيل كذلك حسب مؤشر الرأي العربي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث والدراسات. ويشير الاستبيان إلى أن أكثر من 84% من العرب يرفضون الاعتراف بإسرائيل أو إقامة علاقات دبلوماسية معها.

إن تبني الحكومات العربية للتطبيع مع إسرائيل في هذا الوقت مؤذنٌ بأخطار على مستوى الإستقرار الداخلي للدول العربية لمصادمة الحكومات بتطبيعها لموقف شعوبها من الكيان الغاصب، كما أنه يعطي شرعيةً للجماعات المتطرفة في المنطقة بادعائها أنها الراعي الوحيد والممثل للقضايا العربية والإسلامية، زد على ذلك أثر التطبيع على عزل الحكومات العربية عن شعوبها وإضعاف قوتها الناعمة وشرعيتها في المنطقة، وبهذا يكون التطبيع قد خدم النفوذ الإيراني وأتاح له مساحة أكبر في الواقع أكثر من تقديمه لأي أهداف استراتيجية أو مكاسب مع التحالف مع الحكومة الإسرائيلية.

حجة التطبيع الخفيّ:

وهذه الحجة أكثر لطافة في التعبير عن التطبيع. كثير ممن يستخدمون هذه الحجة لا يرون في زيارة الضفة أو القطاع خاصة مع وجود دعوة من الفلسطينيين أو السلطة الفلسطينية تطبيعًا، ويحاول البعض من خلال هذه الحجة عقلنة زيارة الأراضي المحتلة كما فعل الجنرال السعودي المتقاعد أنور عشقي في تبريره لزيارته لإسرائيل في صيف 2016.

وهذه ذريعة فاسدة، إذا لا وجود لحكومة فلسطينية مستقلة بحدود معلومة وثابتة. كانت اتفاقية أوسلو التي تم توقيعها في 1995 بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل قد قسمت الأراضي إلى أراض فلسطينية وإسرائيلية ومشتركة، مع الحسبان أن الأراضي الإسرائيلية والمشتركة ستكون مؤقتة إلى أن تكوّن السلطة الفلسطينية حكومة في 1999. وعليه تم تقسيم الأراضي إلى مجموعة أ ومجموعة ب ومجموعة ج، حيث تكون مجموعة (أ) للسكان الفلسطينين وإدارة السلطة الفلسطينية، و المجموعة( ب) للسكان الفلسطينين وإدارة إسرائيل، و المجموعة (ج) تحت وصاية كاملة للإسرائيلين وبإدارة إسرائيلية. كان هذا على الورق الفاخر. أما في الواقع فكانت الأراضي التي تخضع للإدارة الإسرائيلية (ب،ج) تتمدد كخلايا السرطان بسرعة كبيرة من خلال عمليات الاستيطان والتي يختنق بها الوجود الفلسطيني في المنطقة (ب). أما أراضي المجموعة (أ) والتي يفترض أن تكون خالصة إداريا للسلطة الفلسطينية فلم يسلم الفلسطينيون فيها من غارات وتدخلات من الجيش الإسرائيلي.

أضف إلى ذلك أن حدود الأراضي الفلسطينية تحت إدارة كاملة من قوات الاحتلال الإسرائيلي. وعلى أي زائر للضفة الغربية من الحدود الأردنية أن يتعامل مع الضباط الإسرائيليين. وقل مثل ذلك في التنقل الداخلي بين الأراضي الفلسطينية حيث نقاط التفتيش الإسرائيلية -الدائمة والمؤقتةــ  تنتشر انتشار البثور في الوجه المجدور(المصاب بالجدري). وعليه فإنه في الواقع لا وجود لإرض تحت السيادة الفلسطينية، فالحقيقة أن الزوّار العرب للأراضي الفلسطينية يخضعون أنفسهم للرقابة والإشراف المباشر من قِبل قوات الاحتلال الصهيوني.

في أحيان كثيرة يزعم الزوار للأراضي الفلسطينية بدعوة من الفلسطنيين أنهم قادمون لدعم مشروع الدولة الفلسطينية أو لزيارة المسجد الأقصى ومسجد الصخرة وتسجيل الحضور الإسلامي في تلك المناطق. وهذه حجج واهية. فزيارة الأراضي تحت حجة التعاطف يفتح مجالًا لاستمراء انتهاكات خطيرة. فهؤلاء الزوار الذين لا صلة لهم بالهوية الفلسطينية ولا الجواز الفلسطيني تتاح  لهم حرية التنقل داخل الأراضي الفلسطينية لا يتمتع بها الفلسطينيون أنفسهم. وتتيح لهم الحكومة الإسرائيلية التنقل في الأراضي التي تسيطر عليها، وفتح هذا المجال للزوار العرب للأراضي المحتلة يمهد لسوابق خطيرة، كما أنه لا سبيل للتأكد من أهداف هؤلاء الزوّار الذين يزورون تحت مسمى التضامن والتعاطف مع القضية.

أما حجة تسجيل الحضور الإسلامي فقد تناولته دانا بشكل أكثر تفصيلًا في مقالتها العربية التي نشرتها في شهر أبريل بالعربية وننقل لك نصها: “إضافة إلى كل ما تقدّم، لنتحدث عن الآثار العملية لهذا “التضامن”. إذا كان الحفاظ على الوجود الإسلامي يشكل، في أحيان كثيرة، ذريعةً للزيارات الدينية للقدس، وهو العذر الذي تقدمه شركة الطيران الكويتية لقرارها أخيرا، فكيف تساعد، على سبيل المثال، صلاة الكويتي في المسجد الأقصى الفلسطينيين؟ بمعنى آخر، ما هو التأثير الملموس من الناحيتين، المادية واللوجستية، لتلك الزيارات؟ الجواب: في الواقع، لا يوجد أي تأثير.

صحيح أن الحضور في الأقصی آخذ في التراجع، لكن ذلك لا يعود إلى ضعف الوجود الإسلامي داخل فلسطین، بل إلى سياسة إسرائيلية منظمة لخنق المدينة القديمة في القدس وتهويدها. ولا تشكل زيارات المسلمين من العرب، أو من جنسيات أخرى، أي فارق يذكر، لأن تلك الزيارات فردية، ولا تتعدى كونها تضامنا رمزيا، لا يعالج أو حتى يواجه السياسات الإسرائيلية بأي شكل. بل ما يحصل أن تلك الزيارات تضفي شرعيةً للسيطرة الإسرائيلية على المساحات الإسلامية. وللتوضيح، لا شيء يحدث من دون موافقة إسرائيل في فلسطين، ما يعني أن السلطات الإسرائيلية لن تقبل زيارات عربية أو إسلامية إلى الأقصى، إذا لم تستفد منها بطريقة أو أخرى. ويجب أن يقود ذلك أي شخص عاقل إلى أن هذه الزيارات والخطوات تحصل بتساهل، وأحيانا تعاون، إسرائيلي يحجب أهدافا أخرى شائنة.

إذا كان العرب، أو غيرهم من المسلمين، مهتمين بـ “الوجود الإسلامي” في المناطق ذات البعد والرمزية الدينيين في فلسطين، فيمكنهم المساعدة من خلال دعم حملات إبقاء المقدسيين في منازلهم، أو عن طريق تمويل عمليات تجديد هذه المواقع الدينية وإصلاحها، أو عدد من الاستراتيجيات الأخرى البديلة التي تغني عن الزيارات الرمزية غير المجدية للأماكن المقدسة.

على سبيل المثال، توجد منظمات عديدة غير حكومية، مثل جمعيتي التعاون ومركز برج اللقلق المجتمعي ومؤسسة داليا التي تعمل على تنمية أرصدة مختصة للقدس وبرامج تساعد مباشرة على إبقاء العائلات المقدسية في منازلها في مواجهة العدوان الإسرائيلي، والتهديدات الاستيطانية، بالإضافة إلى برامج أخرى مصممة لمساعدة الفلسطينيين في كفاحهم ضد المشروع الصهيوني. يشكل التبرّع لهذه المنظمات إذا بديلا مناسبا للزيارات الرمزية التي تفتح المجال أمام التطبيع مع العدو الإسرائيلي”.

 خاتمة:

 على الحكومات العربية المختارة للتطبيع أن تدرك خطر قصور هذه السياسة وإحتمالية أثرها العكسي من خصومها الإقليميين و من شعوبها. ففي الوقت الذي أصبح فيه الكثير من الفلسطينيين متعبين من حالة العزلة ومحاولة التواصل مع أشقاءهم من العرب فإن سياسة التطبيع مؤذنة بتعزيز منزلق خطير لهذا الشعور بإغفالها نتائج المدى البعيد لهذه السياسة بإتاحة الفرصة لأولئك الفلسطينيين الذين لديهم نيّات شائنة بالتعامل مع الإسرائيليين والمؤسسات الإسرائيلية. هذه المشاركة والتعامل سواء كانت بوعي أو بغير وعي هي اعتراف فعلي بسياسات إسرائيل وأسسها الأيديولوجية.

إن خيار التطبيع ليس خيارًا بعيد المدى حتى لدور السلطة الفلسطينية، فسياسة التطبيع  تكسر الحاجز النفسي لدى العرب في التعامل مع الأراضي المحتلة في ظل بقاء المحتل، وقد تؤدي لاحقًا إلى تجاوز الحاجز النفسي في التعامل مع المحتل ذاته وإهمال حقوق الشعب الفلسطيني.

أخيرًا، من المرجح أن يمنح التطبيع الولايات المتحدة ذريعة لتقديم مبادرات سلام أكثر جورًا للفلسطينيين. فالإدارة الأمريكية ترى التطبيع كقبول تام من الحكومات العربية لإسرائيل على حساب الفلسطينين، خاصة في ظل تفاقم الموقف العدائي للحكومة الأمريكية الحالية ضد الفلسطينيين. وستمهد سياسة التطبيع للحكومات العربية لصناع القرار الأمريكي تبني حلول مناسبة للإسرائيليين فحسب.

لم يبق للحكومات العربية من أوراق المفاوضة مع العدو الصهيوني سوى رفض التطبيع، وبتطبيعهم يكونون قد أعلنوا عن تخليهم التام عن القضية الفلسطينية بشكل رسمي في الوقت الذي يؤمن فيه ثلاثة أرباع الشعوب العربية بأن القضية الفلسطينية هي قضيتهم الأم، ويتركون الفلسطينيين في موقف أضعف على طاولة المفاوضات مما يقود إلى زيادة التعنت والعدوان الإسرائيليين، أو التوصل إلى حل غير مقبول وغير قابل للاستمرار للنزاع. وبالتالي، فإن التطبيع لا يؤدي إلا إلى تصعيد الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، الذي يبشر بضعف جميع الأطراف المعنية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى