أخصر المختصر في ملامح النظام السياسي الإسلامي (2)
بقلم أ. محمد إلهامي
أواصل عرض الأفكار التي أرى أن عموم المسلمين في حاجة لاستيعابها جيدا في ملامح النظام السياسي الإسلامي، وقد عرضت في مقال سابق ثلاثة عشر فكرة، وإليكم باقي الأفكار ليكتمل العقد:
14- تتمثل المعضلة الأساسية في الواقع المعاصر في أن الاستعمار الأجنبي والأنظمة التي أنشأها في بلادنا قد أزاحت هيمنة الدين من واقعنا، لتحل محلها هيمنة الدولة، وعملت الدولة بكل طاقتها على أن يتحول الدين إلى شأن شخصي وطقوس شعائرية لا دخل لها في المجال العام، إلا أن يكون هذا التدخل في خدمة الدولة، وبالتالي يصير الدين خادما للدولة بدلا من أن تكون الدولة خادمة للدين.
15- وحيث جرت إزاحة الدين فقد ارتكبت هذه الدولة الكثير من الجرائم في حق الأمة، ولكن هذه الجرائم كانت تُقَدَّم باعتبارها حداثةً وتطورًا وسياسات دنيوية. ومن هذه الجرائم التعدي على كرامة الناس وحريتهم بالتدخل المتغول في شؤونهم ومنعهم من التنقل ومن الزواج ومن التجارة ومن البناء ومن التدريس ومن أي نشاط بدون تصريح مسبق، وإجبارهم على أنشطة اقتصادية وتعليمية وثقافية تحددها هي، ومنها التعدي على أموال الله كالأوقاف وفرض الضرائب عليهم وهو عدوان على أموال الناس بغير حق، فضلا عن إشاعة الفاحشة والانحلال والتفلت الأخلاقي، وغير ذلك كثير. إلا أن المشكلة الأساسية أنه لا يمكن تقييم هذه الأفعال على أنها جرائم إلا بوجود الميزان الإسلامي، فإذا فُقِد هذا الميزان أو أزيح فإن هذه الأفعال تُصَوَّر باعتبارها سياسات حديثة!
16- وهذه الدولة التي صنعها الاستعمار هي ذاتها وحدة في شبكة دولية أسس لها هذا الاستعمار الأجنبي وسمَّاها “النظام العالمي”، وفي هذا النظام العالمي يتجسد معنى الطغيان الذي حاربه الإسلام، فقد وضع المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية جملة من الوثائق والقواعد والنظم التي ترسخ هيمنتهم على العالم، وقدموها باعتبارها “النظام العالمي” و”الثقافة العالمية” و”القانون الدولي” و”الشرعية الدولية”، وأعطوا لأنفسهم حق معاقبة الخارج عليها بأنواع العقوبات التي تبدأ بعدم الاعتراف وتمر بالحصار وتنتهي بالاحتلال العسكري.
17- بُني النظام السياسي الإسلامي على نظريته السياسية، وكان تطبيقا عمليا لها، وقد وقع فيه سائر ما يقع في أي عمل إنساني، وهو وجود مسافة بين التنظير والتطبيق ناتجة عن الخطأ والقصور الذي يصيب أي عملية بشرية، ولكنه مع ذلك ظل أفضل نموذج تطبيقي لتجربة سياسية في التاريخ {كنتم خير أمة أخرجت للناس}، وبينما تمثلت لحظته النموذجية في عصر النبوة ثم عصر الخلافة الراشدة، فقد بدأ النقصان التدريجي مع عصر الدول الأموية والعباسية والعثمانية، ثم انهار مع سقوط الخلافة الإسلامية (1924م).
18- تمثلت أهم ملامح النظام السياسي الإسلامي في التطبيق العملي لكون الأمير وكيلا عن الشعب، يأتي لهذا المنصب باختيار الأمة وتفويضها، ويظل تحت مراقبتها ولها حق نصحه وتقويمه، وحق مقاومته وعزله إن خرج عن الشريعة، ومع أنه قد حصل انحراف مبكر لمسألة اختيار الحاكم، إلا أن ذلك لم يتحول أبدا إلى عمل مشروع في كتب الفقه والسياسة الشرعية بل ظل هو خلاف الأصل وجائزا للضرورة، ولم يستطع ملك أو سلطان مهما كانت إنجازاته أن يبدل الأساس العقدي –الفكري والنظري- فيجعل نفسه مكتمل الشرعية وقد جاء بالتغلب.
19- كذلك تمثلت في كون النظام السياسي الإسلامي قد حقق أكبر قدر معروف من التمكين المجتمعي في أي نظام سياسي، لقد كان من آثار العبادات والمعاملات الإسلامية أن حققت تلاحما عظيما وقويا بين أبناء الأمة مما جعل الطغيان عليهم لا يقارن بالطغيان الذي وقع على أمم أخرى في فارس والهند والصين وأوروبا، ولم يوجد في العالم الإسلامي قط طبقية أو عبودية على النحو الذي وُجِد في الأمم الأخرى، بل ولا حتى وُجِد في الديمقراطية المعاصرة. لقد كانت الصلاة والزكاة والصيام والحج تزيد يوميا وشهريا وسنويا من التلاحم الإنساني بين عناصر الأمة، وكانت تعاليم صلة الرحم وحسن الجوار والتكافل والإنفاق بالصدقة وإقامة الأوقاف وعمل الخير وتقديم المعونة تزيد من التكتل الجغرافي والقبلي لأبناء الأمة ليكونوا مجتمعا متماسكا. وهذا كله يجعل الطغيان على هؤلاء والاستبداد عليهم عملية صعبة على أي مستبد، ومحفوفة بالمخاطر.
20- وحقق النظام الإسلامي أكبر قدر معروف في تقليص صلاحيات السلطة، فلم تكن السلطة في الحضارة الإسلامية تتغول على أنشطة المجتمع العلمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ولم يستطع حاكم مسلم مصادرة الأوقاف التي كانت تمثل تمويلا ذاتيا واستقلالا ماليا للمجتمع، كما أن ما فُرِض من الضرائب والمكوس في فترات ما لم يتمتع أبدا بالشرعية ولم يستقر لفترة طويلة، وظل المجتمع حتى في حالات الضعف والانهيار العسكري قادرا على مواصلة العطاء الحضاري.
21- هذه الملامح العامة، التي نضطر لشرحها لعموم الجهل بها في الواقع المعاصر، ترسم ملامح النظام السياسي الذي نطمح إليه، فهو النظام الذي يقلص مساحات السلطة وتغولها، ويعيد تمكين المجتمع ويقويه، وهو ما يترتب عليه بالضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية والتوزيع الطبيعي للثروة، كما يتحقق به وقف التغول السلطوي على النشاط المجتمعي.
22- وهذا النظام الذي نطمح إليه لا يمثل إنقاذا لأمتنا وحدها، بل نحن نقدمه لكل العالم إنقاذا لهم، ونرى أن كل مجهود المجتمع المدني في الديمقراطيات المعاصرة، وكل الأفكار التي قامت عليها النقابات والجمعيات الأهلية والأنشطة الاجتماعية لا تحقق جزءا بسيطا من التلاحم والتماسك الذي يحققه النظام الإسلامي، فنحن نؤمن أن هذا النظام ينقذ كل البشر من الاستبداد والطغيان الذي يهيمن عليهم، والذي يتزخرف ويتزين بشرعية شعبية وهمية من خلال عملية انتخابات مزيفة تجري تحت التحكم الكامل لأصحاب النفوذ والتأثير.
23- وعلى هذا فالنظام السياسي الذي نأمله هو الذي تقل فيه صلاحيات السلطة إلى الحد الأدنى، ويزداد فيه تمكين المجتمع إلى الحد الأقصى، ونرى أن تطبيق القيم والنظام الإسلامي هو السبيل الوحيد الكفيل بالوصول إلى هذا الهدف.
24- نرى أن السلطة السياسية يجب أن تتقلص إلى وزارات محدودة تنظم قطاعات: الجيش والشرطة والقضاء والمالية والخارجية. وهي القطاعات التي تقوم بمهمتي حفظ الأمن والدفاع وما يتعلق بهما. بينما يوكل تنظيم قطاعات التعليم والإعلام والثقافة والصحة والزراعة والصناعة وبقية النشاطات إلى العمل المجتمعي والأهلي والخيري.
25- ومع ذلك، فإن القطاعات التي تتولاها السلطة لا تُنْتَزَع من المجتمع كلية، وإنما المجتمع مساند لها وداعم بمجهوده في وجودها، فمثلا:
– الشعب يجب أن يكون مسلحا ومدربا، فانتشار التسليح والقدرة على استعماله يعصم الأمة من استبداد وطغيان الحكام في الداخل كما يجعل عملية احتلالهم الأجنبي عملية بالغة الصعوبة، ويساعد انتشار السلاح في استتباب الأمن وانخفاض الجريمة، وهذا يرفع عبئا كبيرا من أعباء الجيش والشرطة والقضاء.
– وأعيان الشعب وزعماؤه يجب أن يكون لهم الحق في حل الخصومات والنزاعات من خلال القضاء العرفي والأهلي الذي يقضي بالشريعة، فهذا يعزز الأمن الاجتماعي ويقضي على كثير من أسباب التحايل وهضم الحقوق وبطء التقاضي.
26- كما أن القطاعات التي يتولاها المجتمع، يمكن للسلطة أن تساهم فيها بالتوجيه والتخطيط والمشاركة لكن دون هيمنة واحتكار:
– فيمكن للسلطة أن تبني المستشفيات وتنشيء المدارس والجامعات والأندية الرياضية والنشاطات الثقافية وغيرها، تنشيء ذلك وتموله من فائض الموارد المالية الشرعية التي ترد إليها.
– كما يمكن أن تشير في كل هذه الأنشطة بالتوجيه والإرشاد لرؤوس الأموال نحو بناء مستشفى بعينها أو في مكان بعينه لحاجة المجتمع لذلك، أو الاستثمار في منطقة بعينها أو مجال بعينه. يمكن لخريطة اقتصادية تضعها السلطة أن تصنع التوازن بين مجالات النشاط الاجتماعي الذي يقوم به المجتمع نفسه.
27- ويجب أن يكون واضحا أن من مهمات السلطة حراسة الدين ورعايته، ومن ضمن ذلك تعهدها بإقامة الشعائر ورعايتها كالصلاة والزكاة والصيام والحج وغيرها، وهي أمور تزيد من تماسك المجتمع وصلابته.
28- ولا يجوز للسلطة فرض ضرائب إطلاقا، فهذا من الكبائر في الإسلام، وهناك الكثير من البدائل التي يمكن بها سد عجز ضروري في الموارد كالاقتراض والمشاركات أو إعطاء مزايا بعينها لمن يستثمر في مجال ما لا تتشجع له رؤوس الأموال، فإن لم يكن فقد أجاز العلماء فرض الضرائب على الأغنياء دون الفقراء بقدر الحاجة والضرورة وبشكل استثنائي مؤقت.
29- والسلطة بالأساس لا يحوزها إلا من اختارته الأمة بإرادتها الحرة، ولها الحق في نصحه ومحاسبته وعزله، وآليات الانتخاب والمراقبة والعزل متروكة لأهل الزمان والمكان طالما كان ذلك في إطار الشرع لا خارجا عنه. سواءٌ أطلق على هذا اسم “الديمقراطية” أو أي اسم آخر، فالعبرة بالمعاني والمسميات.
30- استقلال الأمة وتحررها هو الهدف الأول والأكبر والأعظم أمام كل مشروع تغيير، ولا يمكن تحقيق أدنى تمكين قبل تحقيق هذا الاستقلال، الاستقلال السياسي والاقتصادي، وهذا الاستقلال السياسي والاقتصادي لا يمكن أن يتم دون قوة العقيدة والفكرة المهيمنة على عموم الأمة -وفي الطليعة منها: العاملون والقادة- ولا يمكن أن يتم دون قوة عسكرية تنتزع هذا الاستقلال انتزاعا ثم تحميه وتحرسه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)