أحمد الريسوني خليفة للقرضاوي: تصدير التجربة المغربية
إعداد محمد توفيق
في اجتماع الجمعية العامة الخامسة للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، بمدينة إسطنبول، أعلن الدكتور يوسف القرضاوي عزمه ختم مسيرته في رئاسة الاتحاد هذا العام، وهو الأب الروحي والمؤسس للاتحاد وفكرته.
وانتقلت رئاسة الاتحاد من الدكتور يوسف القرضاوي، من المشرق العربي، إلى الدكتور أحمد الريسوني من المغرب الغربي، وفق انتخابات تمت خلال اجتماع الجمعية، وهو الانتقال الذي بدا سلسًا ومرنًا من دون خلافات واضحة وبنسبة كبيرة فاقت 93% لصالح الريسوني.
ولد الدكتور أحمد عبدالسلام محمد الريسوني سنة 1953م بقرية أولاد سلطان بناحية مدينة القصر الكبير، بالمملكة المغربية، وبهذه المدينة تابع تعليمه الابتدائي والثانوي، ثم حصل على الإجازة في الشريعة من جامعة القرويين بفاس سنة 1978م. وأتم دراسته العليا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية «جامعة محمد الخامس» بالرباط، فحصل منها على شهادة الدراسات الجامعية العليا سنة 1986م، ودبلوم الدراسات العليا (ماجستير) سنة 1989م، ثم حصل على دكتوراه الدولة سنة 1992م.
عمل الريسوني عدة سنوات كمحرر قضائي بوزارة العدل (1973 – 1978)، وعمل عدة سنوات أستاذًا بالتعليم الثانوي الأصيل (1978- 1984)، كما عمل أستاذًا لعلم أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ بجامعة محمد الخامس، وبدار الحديث الحسنية ـ بالرباط من عام 1986 إلى عام 2006. وعمل كخبير أول لدى مجمع الفقه الإسلامي بجدة والمدير التنفيذى لمعلمة القواعد الفقهية.
كان الريسوني عضوًا مؤسسًا للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعضوًا سابقًا بمجلس أمنائه، وعضو المجلس التنفيذي للملتقى العالمي للعلماء المسلمين برابطة العالم الإسلامي، كما عمل كمستشار أكاديمي لدى المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
ترأس الريسوني حركة التوحيد والإصلاح بالمغرب منذ عام 1996ـ إلى عام 2003. وكان المدير المسؤول لجريدة التجديد اليومية في الفترة ما بين عام 2000 و2004. كما ترأس مركز المقاصد للبحوث والدراسات بالرباط، بالإضافة لتقلده، مؤخرًا، منصب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
تميز الدكتور الريسوني بقلم حمل هم الفقيه وهم الواقع، واشتبك من خلال كتاباته ولقاءاته بالواقع الفكري والسياسي بصورة إيجابية وهادئة، ووظف ببراعة عدته الأصولية وحسه المقاصدي وخبرته الفكرية في إنتاج مؤلفات وفتاوى حملت قدرًا من الرؤى التجديدية التي ندرت في عالم المسلمين الراهن.
لقد كان الدكتور القرضاوى مثالًا حيًا للفقيه الذي يعمل في فضاء الواقع، ويراعي بحذر إكراهات الواقع الحداثي الذي نعيشه، وكثيرًا ما خولف القرضاوي وشنع عليه في آراء ثبت بعد ذلك بعد نظره فيها. لم يكن من الممكن أن نجد وريثًا للقرضاوي أفض من الريسوني، إذ الأخير ناصع الذكر في أمانته العلمية والعملية، ولم يخذل الكثير من الشباب والضعفاء في مواقف النصرة والتأييد من ثورات الربيع العربي، ووقف بقوة أمام استبداد النظم العربية المختلفة، ولم يحابِ الإسلاميين كونه إسلاميًا، بل وقف مواقف نقدية جريئة وصريحة تجاه إخفاقات بعض الحركات الإسلامية وعيوبها التنظيمية.
حفلت مسيرة الريسوني التصنيفية بالتنوع الفكري والشرعي، صدرت له العديد من الكتب والأبحاث منها: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، مدخل إلى مقاصد الشريعة،الفكر المقاصدي قواعده وفوائده، الاجتهاد: النص والمصلحة والواقع، الفكر الإسلامى وقضايانا السياسية المُعاصرة، التعدد التنظيمى للحركة الإسلامية: ما له وما عليه.
ويظهر في جهود الريسوني قربه للواقع الإسلامي واشتباكه معه بصورة كبيرة، وتتضمن كتاباته وفتاويه درجة متميزة من الوعي بالواقع الفكري والسياسي، ولم ينجرف في سياق تيار المقاصديين الفاقدين للتأسيس الأصولي الحاكم للاستنباط، وهو ما جعل رؤيته المقاصدية منضبطة ومتسقة دون جنوح أو شذوذ.
نظرية مقاصد الشريعة عند الريسوني
لعل من أبرز ما يتميز به الريسوني في سياق صحوة الحركة المقاصدية في المغرب العربي؛ هو الانضباط المنهجي الصارم لديه في اجتهاداته المقاصدية، إذ ينطلق الريسوني من رحم التأسيس الشاطبي الأولى لمقاصد الشريعة في كتاب «الموافقات»، وفق رؤية منهجية منطلقة من نصوص الكتاب والسنة، وليست منبتة الصلة عنهما.
ينتقد الريسوني حركية الفكر المقاصدي المعاصر لأنها «تتسم بالكثير من الآفات والمنغصات، مثل العشوائية في النمو، والذاتية في التفكير والتعبير، والاختلاف الواسع في القضايا والأبواب والمصطلحات والاجتهادات»، ويرى أنه «مما يعمق هذه الآفات ويوسع مداها؛ الإنتاج الغزير والمتسارع، وكونه يأتي من خلفيات ومرجعيات علمية وفكرية متنوعة، وأحيانًا متباعدة».
«نرى مقاصد الشريعة اليوم يخوض فيها ويستعملها كثيرون من غير المختصين، أو من المختصين غير المؤهلين، أو من المغرضين التحريفيين، فيأتوننا بالغرائب والعجائب والنظريات والفتاوى المخرّجة تخريجًا مقاصديًا، حتى أصبح كثير من الناس يظنون أن الفتاوى المقاصدية هي التي تتجاوز النص استنادًا إلى المقاصد…».
ويرى الريسوني «أنه ليس هناك مقاصد للشريعة سوى مقاصد الكتاب والسنة، وكل ما هو خارج عن نصوص الكتاب والسنة وليس له نسب فيها؛ فليس من مقاصد الشريعة في شيء… ومن هنا فإن من لا يعولون على النصوص الشرعية، منفردة ومجتمعة، ولا يدمنون النظر والتنقيب في معانيها ومراميها متحدة متضافرة، ولا يستخرجون مقاصد الشريعة من خلالها؛ لا يمكن اعتبارهم من أهل المقاصد ولا من أصحاب التوجه المقاصدي في فقه الشريعة».
هذه الرؤية المقاصدية التي يتبناها الريسوني تجعله من فقاء الشريعة المتضلعين من فلسفة الشريعة والتشريع والمقاصد، وتَصرِفُه من خانة التوجه المقاصدي الحداثي أو التنويري فاقد العدة الفقهية والأصولية اللازمة إلى خانة المؤهلين لاستخراج المقاصد والاعتماد على العلل التشريعية.
النقد الذاتي للحركة الإسلامية
يثني الدكتور فريد الأنصاري – رحمه الله – على الدكتور الريسوني قائلًا:
رجل الدعوة الإسلامية، والفكر الإسلامي، الذي لا يستوعبه حزب ولا جماعة… لا يمكنك أن تحسبه علميًا على جهة ما أبدًا، فهو صاحب الرأي وصاحب النظر… وهو مع هذا التجدد الدائم، يمضي على ثبات راسخ في شيء واحد، هو المنهج الأصولي الذي يعتمده في تفكيره واستنباطه.
أجرى الدكتور الريسوني الكثير من المراجعات والانتقادات الداخلية للحركة الإسلامية المغربية، وفي باقي الأقطار العربية، إذ مارس التنظير العلمي لمشروعية التنوع التنظيمي كما في كتابه «التعدد التنظيمي للحركة الإسلامية»، وعمد إلى تقييم مسيرة الحركة الإسلامية المغربية في كتابه «الحركة الإسلامية المغربية: صعود أم أفول»، واشتبك مع مستجدات الحالة الإسلامية فيما بعد الربيع العربي وانتكاساته.
حَمَدَ الريسوني لحركة النهضة التونسية قرارها في الفصل بين الدعوي والسياسي حيث يرى «أن إقدام حركة النهضة التونسية على الفصل التنظيمي بين السياسي والدعوي خطوة موفقة وسديدة رغم تأخرها في ذلك. كما أن نجاح هذه التجربة سيبقى رهينًا بكيفية تصريفها وتحقيقها وتوجيهها، فإذا جعل العمل الدعوي تابعًا وخادمًا للسياسة والحزب السياسي، فهذا سيعني اضمحلال الشق الدعوي، لأن السياسة عادة ما تجتاح العمل الدعوي وغيره كالعمل الثقافي والعلمي».
ويرى الريسوني «أن السياسة وإن كانت فرعًا من الدعوة الأصل، فإنها تبقى «كائنًا مفترسًا»، وهو ما استشهد فيه بتجربة حركة النهضة وتخليها عن العمل الدعوي والتربوي منذ أمد بعيد، وبتجربة الإخوان المسلمين سنة 2011، لذلك لابد من التأمين والحماية للأعمال الإصلاحية الأخرى».
كما وجه الدكتور الريسوني انتقادات عدة لجماعة الإخوان في مصر في مسيرتها واختياراتها السياسية بعد ثورة يناير، خاصة فيما تعلق بترشيح الدكتور مرسي للرئاسة وما تلاه، وكانت له ملاحظات متوازنة تجاه تجربتهم، ساقها بصورة متوازنة أقرب ما تكون للنقد الذاتي، إذ يرى الريسوني نفسه إخوانيًا من حيث المعنى العام لا التنظيمي.
الريسوني في المواجهة
لا يمكن بحال اعتبار حال الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في حالة صحية ومستقرة، إذ يواجه تهمًا بالإرهاب من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، في سياق صراعات زعاماتية بين الدول الأربعة وبين قطر.
فنائب القرضاوي السابق، الشيخ عبد الله بن بيه الموريتاني الأصل، خرج عن هذا الخط وانضم لخط النموذج الإماراتي الأزهري المتمثل في «مجلس حكماء المسلمين»، وبات في خط المنافسة التي تحتدم في المنطقة العربية بين المؤسسات الدينية التي تتحارب من أجل كسب الشرعية الجماهيرية، وهي إحدى أدوات الممولين لها في توجهاتها السياسية.
يستقبل الريسوني منصبه الجديد في ظل واقع خليجي مضطرب، وأزمات فكرية حادة تمر بها الحركات الإسلامية، وواقع سياسي مهترئ وهزيل بصورة كبيرة. وسيواجه الريسوني تحديات فقهية وفكرية ونوازلية كبيرة، فهل يمكن للاتحاد تجاوز هذه المرحلة الصعبة وتحدياتها؟
(المصدر: موقع “إضاءات”)