أحكام المرأة والمبالغة في “سدّ الذّرائع”.. أسبابُها وآثارُها
“سدّ الذرائع” المعنى والحجيّة والأثر العام
ويمكن تعريف قاعدة سدّ الذّرائع أنّها “القول بمنع الفعل الجائز الذي يتمّ التوصّل به إلى فعلٍ غير جائز”، وهذا ما دارت عليه عبارات عموم الأصوليين والفقهاء في تعريف سد الذّريعة.
فيعرّفها الإمام القرافي المالكي: “والذريعة الوسيلة للشيء؛ ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد دفعاً له، فمتى كان الفعل السّالم عن المفسدة وسيلةً إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل”.
ويعرّفها ابن تيمية: “هي الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلةٌ إلى فعل المحرم”.
أمّا الشّاطبي فيعرّفها: “التوسّل بما هو مصلحة إلى ما هو مفسدة”.
وابن القيّم: “المنعُ من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل ما لا يجوز”.
إذن فنحن نتعامل مع قاعدةٍ تمارس الحالة الاحتياطيّة منعاً للوقوع في المحظور، فيتمّ منع الفعل الجائز بطريقة استباقيّة قبل أن يؤدّي القيام به إلى ارتكاب الفعل المحظور.
ومن الأمثلة الواضحة على تطبيقات هذه القاعدة؛ القول بحرمة سبّ أصنام المشركين لأنّ ذلك سيؤدّي إلى مفسدةٍ، وهي أن يقوم المشركون بسبّ الله تعالى. فسبّ الأصنام في أصله جائزٌ، ولكنّه غدا محرّماً لأنّه يوصل إلى نتيجة محرّمة، وقد جاءت الآبية القرآنيّة تبيّن العلّة في سبب الحرمة فقال تعالى: “وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ”.
يقول ابن جزي المالكي في تفسيره “التّسهيل لعلوم التّنزيل” معلّقاً على الآية: “أي لا تسبّوا آلهتهم فيكون ذلك سبباً لأن يسبّوا الله، واستدلّ المالكيّة بهذا على سدّ الذرائع”.
ومن الأمثلة على سدّ الذّرائع القول بحرمة بيع السّلاح للمتقاتلين في الحروب الأهليّة، فأصل بيع السّلاح غير محرّم، لكنّ حين يغدو وسيلةً للمحرّم وهو الاقتتال الدّاخلي يصبح محرّماً.
ولكنّ الفقهاء وضعوا شروطاً لإعمال قاعدة سدّ الذّرائع؛ أهمها أن تكون الوسيلة المباحة موصلةً إلى المفسدةٍ على وجه القطع أو غلبة الظنّ، أما إذا كان إفضاء الفعل المباح إلى المفسدة نادراً أو قليلاً فلا عبرة بهذه المفسدة، وكذلك إن كانت المفسدة التي تترتّب على الفعل المباح كثيرةً لكنّها لا تصل إلى القطع اليقينيّ أو غلبة الظنّ، فلا عبرة بها أيضاً عند بعض الفقهاء.
الغلوّ في القول بسدّ الذّريعة في أحكام المرأة
من المؤسف أنّ قاعدة سدّ الذّريعة تمّ التوسّع فيها والاعتساف في تطبيقها في أحكام عدّة في الفقه الإسلاميّ، غير أنّ هذا الغلوّ في التّطبيق بدا ظاهراً في أحكام المرأة.
فاتُّخذت قاعدة سدّ الذّريعة مستنداً لمنع العديد من الأحكام المتعلّقة بالمشاركة الاجتماعيّة للمرأة في الواقع، فراح فريقٌ يؤصّلُ للمنع بمجرد وجود المفسدة ولو كانت يسيرةً، على أنّ نصوص الشرع لم تمنع النّشاط العام للمرأة تحت عنوان سدّ الذّريعة.
فالإسلام لم يمنع الرّجل من رؤية المرأة سدّا للذريعة، ولكنّه وضع الضوابط التي تحمي من الوقوع في المفسدة، فقال تعالى: “قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ”، وقال تعالى: “وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ”.
وكذلك لم يمنع الإسلام من الحديث والتّواصل بين الرجال والنّساء سدّاً للذّريعة، بل وضع ضوابط تحول دون وقوع المفسدة، فقال تعالى: “فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً”.
وكذلك لم يمنع الإسلام المرأة من ممارسة حياتها الطّبيعية، ولم يمنعها من الخروج والانطلاق في شعاب الحياة والمشي في شوارعها سدّاً للذريعة، ولكنّه وضع لذلك ضوابط تقلّل حدوث المفاسد؛ فقال تعالى: “وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ”.
وكذلك لم يمنع الإسلام المرأة من الذّهاب إلى المؤسسات العامّة سدّاً للذّريعة، على الرّغم من حدوث ووقوع بعض الأحداث غير الأخلاقيّة في الواقع الاجتماعيّ في صدر الإسلام، ومن ذلك ما أخرجه الترمذي وأحمد عن وائلِ بنِ حُجرٍ “أنَّ امرأةً وقعَ عليْهِ رجلٌ في سوادِ الصُّبحِ وهي تَعمدُ إلى المسجدِ عن كُرهِ نفسِها، فاستغاثَتْ برجلٍ مرَّ عليْها وفرَّ صاحبُها، ثم مرَّ عليْها قومٌ ذَوو عددٍ فاستغاثَتْ بهم فأدركوا الذي استغاثَتْ به وسبقَهمُ الآخرُ؛ فأتَوْا به النبيَّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ فأخبرَتْهُ أنَّهُ وقعَ عليْها وأخبرَهُ القومُ أنَّهُم أدركوهُ يَشتدُّ؛ فقال: إنَّما كنْتُ أغثْتُها على صاحبِها فأدركني هؤلاء فأخذوني..”.
في هذا القسم من الحديث واقعة مأساويّة لامرأةٍ ذاهبةٍ إلى المسجد في صلاة الفجر، ومع ذلك لم يأمر النبيّ صلى الله عليه وسلّم بمنع النّساء من الذّهاب إلى المسجد الذي هو أهم مؤسّسةٍ في الإسلام؛ سدّاً للذّريعة.
بل أكثر من ذلك، حاول بعض التّابعين ومنهم بلال بن عبد الله بن عمر بن الخطاب أن يتّخذ سدّ الذّريعة سبيلاً للتّضييق على المرأة، فكان له أبوه بالمرصاد. فقد أخرج مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: “لا تَمْنَعُوا النِّساءَ مِنَ الخُرُوجِ إلى المَساجِدِ باللَّيْلِ، فَقالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ: لا نَدَعُهُنَّ يَخْرُجْنَ فَيَتَّخِذْنَهُ دَغَلاً” – أي خداعاً يخدعنَ به أزواجهنّ – فأقْبَلَ عليه عبدُ اللهِ: فَسَبَّهُ سَبّاً سَيِّئاً ما سَمِعْتُهُ سَبَّهُ مِثْلَهُ قَطُّ، وقالَ: أُخْبِرُكَ عن رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ وتَقُولُ: واللَّهِ لَنَمْنَعُهُنَّ”.
وفي تعليقه على هذه الحادثة يقول الشّيخ عبد الحميد بن باديس؛ مؤسّس جمعيّة العلماء المسلمين في الجزائر: “هذا الذي وقع من بلالٍ كثيراً ما يقع مثلُه أو نحوه من أهل الجهل والبدعة الذين شبّوا عليهما وشاخوا، حتى صارت السّنّة عندهم بدعة والبدعة سنّة، فإذا ذكرتَ لهم الحكم الشّرعيّ بدليله من الكتاب والسّنّة صدّوا ونفروا وأبَوا واستكبرُوا وصارحوا بالمخالفة، أو سكتُوا وأضمروا الخلاف، وما هذا من شأن المؤمنين”.
وبسبب التوسّع في سدّ الذّريعة فُرضت العزلة على المرأة من شريحةٍ من الفقهاء والدّعاة باسم الفقه، ومنعت المرأة من العمل، ومن الخروج من منزلها لممارسها أنشطتها الحياتيّة والاقتصاديّة، ومنعت من ممارسة المهن والأعمال المختلفة كالتّجارة والبيع والشّراء، ومُنع الشّاب من رؤية المرأة قبل خطبتها في بعض المجتمعات بمباركة من بعض دعاة تلكم المجتمعات تحت عنوان سدّ الذّريعة، كما مُنعت المرأة من التعلّم والانتساب إلى المدارس والجامعات – لا سيما المختلطة – بذريعة سدّ الذّريعة في بعض البيئات والأزمنة.
ومن باب سدّ الذريعة تمنع المرأة من الوقوف في متجرٍ وممارسة البيع والشّراء؛ سدّاً لذريعة الفتنة، ولكَ أن تتخيّل – على سبيل المثال – حال امرأةٍ تدخلُ محلاً لبيع الألبسة الدّاخليّة ويكون البائع فيها رجلاً ويسألها عن تفاصيل ما تريد، فهل هذا أبعد عن الفتنة، أم لو كانت الواقفة لبيع البضاعة امرأة ولو كانت غير محجّبة؟! ومثل هذا كثيرٌ في سوق العمل الذي يختصّ بالنّساء الذي مُنعت منه المرأة سدّاً للذريعةِ، واضطرت للتّعامل في هذه القضايا الخصوصيّة مع الرّجال.
أسباب الغلوّ في استخدام قاعدة سدّ الذّريعة في قضايا المرأة
على مساحة خمس وثلاثين صفحة في كتابه المتميّز “تحرير المرأة في عصر الرّسالة”، يستقرئ عبد الحليم أبو شقّة أسباب الغلوّ في استخدام قاعدة سدّ الذّريعة في قضايا المرأة، ويفصّل الشّرح فيها، وهي ستّة عوامل بحسب ما يراه:
الأوّل: الغفلة عن شروط قاعدة سدّ الذّريعة
ويؤكّد أنّه رغم وضوح التّقريرات التي جاء بها علماء الأصول والفقه إلا أنّ بعض الخلف غفل عنها، وأسفرت هذه الغفلة عن غلوّ في سدّ الذّريعة في الأحكام المتعلّقة بالمرأة.
وهذا الذي أشار إليه “أبو شقّة” دقيقٌ، إذ المشكلة لا تكمن في أصل قاعدة “سدّ الذّرائع” التي هي قاعدةٌ عمل بها عموم الفقهاء على مرّ الأزمنة وإن كان المالكيّة هم الأكثرٌ عملاً بها، غير أنّ الإشكال الحقيقيّ يكمن في الخروج عن القواعد التي قرّرها علماء الأصول والفقه في تطبيق هذه القاعدة، والتوسّع في تطبيقها توسّعاً اعتسافيّاً لا ضوابط فيه.
والثّاني: سوء فهم معنى فتنة المرأة
وفي هذا العامل يؤكّد “أبو شقّة” أنّ الشّارع لم يقطع كلّ سببٍ للتّواصل بين الرّجل والمرأة، بل أراد أن يكون بينهما جسور بهدف تعمير الأرض، وتأكيداً لهذه الجسور سنّ الشّارع للمرأة أن تشارك في الحياة العامة وأنشطتها.
ثمّ يقسم الفتنة إلى مستويين؛ المستوى الأول: “الفتنة العابرة”، وهي الفتنة التي تعرض للإنسان فيقابلها بغضّ البصر، وهي موجودة في أطهر المجتمعات كمجتمع النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وهذا المستوى من الفتنة هو المحتمل وقوعه خلال لقاء الرّجال والنّساء على الوجه الذي يتمّ على وفق ما شرعه الله. وهذا النّوع من “الفتنة العابرة” قد وقع فعلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم ولم يحرم من أجله اللّقاء، ولا منعت بسبب الأنشطة سدّاً للذّريعة.
وأما المستوى الثّاني من الفتنة فهو “الفتنة العارمة” المؤدية للفاحشة، فوقوعها مع اللّقاء المشروع أمرٌ بعيد، وإذا وقع فهو شاذ والشّاذ لا حكم له.
ويلفتُ “أبو شقّة” انتباه الغيورين على أعراض المسلمين، إلى أنّ “الإسراف في اجتناب لقاء الرّجال النّساء يثمرُ خللاً في التصوّر النّظري للفتنة، أي يثمر توهّم الفتنة حيث لا فتنة، كما يثمر التوجّس البالغ منها قبيل حدوث اللقاء، ثمّ شدّة معاناة الفتنة عند اللّقاء، أما الاعتدال في المشاركة واللّقاء مع الالتزام بالآداب الشرعيّة فيثمر الاستقامة في تصوّر الفتنة، كما يثمر الاعتدال في الاحتراز منها قبيل اللّقاء، والاعتدال في معاناتها عند اللقاء”.
والثّالث: سوء الظنّ بالمرأة واستضعافها
وبفصّل “أبو شقّة” في هذا وقد جعله من ثمرات اعتبار المرأة إحدى فتن الحياة الدّنيا التي ابتلى الله الخلق بها، وعلى الرّغم من وجود فتن عديدة في الحياة غير المرأة، فإنّ الإسراف كان في مواجهة فتنة المرأة أكثر من باقي الفتن. ويعلّل أبو شقّة ذلك بكونها العنصر الأضعف، فيقول:
“في المجتمع المسلم يعيشُ الرّجال مع أولادهم ويتعاملون بالمال ويعانون على الدّوام فتنة الأولاد والأموال، ومنهم من يتقي الله وينجو من تلك الفتن، ومنهم من يعصي الله ويقع في الفتن قليلاً أو كثيراً، ولم يقل أحد – سدّاً لذريعة فتنة الأولاد – بمنع الزّواج بأكثر من واحدة حتّى لا يتعرّض المسلم لفتنة محاباة أبناء إحدى الزّوجات دون غيرها”.
ولي أن أؤكّدَ أنّ استضعاف المرأة في المجالات المختلفة هو من تجليّات أخلاق الجاهليّة التي تتسرّبُ إلى المجتمع كلّما ابتعد عن الهدي والرّشاد، وكلّما استنكفَ عن الاستقاء من مشكاة الوحي التي تهذّبُ الطّباع إلى جانب كونها تهدي للتي هي أقوم.
ففي صحيح البخاريّ ومسلم ضمن حديثٍ طويل يرويه ابن عبّاس رضي الله عنهما، “قالَ عُمَرُ: واللَّهِ إنْ كُنَّا في الجَاهِلِيَّةِ ما نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أمْراً، حتَّى أنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ ما أنْزَلَ، وقَسَمَ لهنَّ ما قَسَمَ، قالَ: فَبيْنَا أنَا في أمْرٍ أتَأَمَّرُهُ، إذْ قالتِ امْرَأَتِي: لو صَنَعْتَ كَذَا وكَذَا، قالَ: فَقُلتُ لَهَا: ما لَكِ؟ ولِما هَاهُنَا؟ وفِيمَ تَكَلُّفُكِ؟ في أمْرٍ أُرِيدُهُ، فَقالَتْ لِي: عَجَباً لكَ يا ابْنَ الخَطَّابِ! ما تُرِيدُ أنْ تُرَاجَعَ أنْتَ وإنَّ ابْنَتَكَ لَتُرَاجِعُ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يَظَلَّ يَومَهُ غَضْبَانَ”.
والرّابع: الغيرة المريضة على العرض
والغيرة على العرض نوعان؛ “غيرة فطريّة” سويّة معتدلة تعين على صيانة العرض وحمايته من الابتذال والاعتداء، وهناك “غيرة محظورة” وهي مسرفة مريضة تعذّب النّفس وترمي التّهم بالباطل، وهي تُذهب العقل وتقود إلى الاعتداء على الأبرياء، وفوق ذلك فهي تعطّل الانطلاق النّشط في الحياة.
يقول أبو شقّة: “وهناك أقوالٌ لبعض العلماء الأجلاء نلمس فيها نوعاً من الإسراف في اتّقاء الغيرة، وقد ساندوا إسرافهم – كما قلنا – بآثار ضعيفة أو موضوعة ومخالفة لما ثبت في الأحاديث الصّحيحة، بل في أعلى درجات الصّحّة إذ اتفق عليها البخاريّ ومسلم، ومن ذلك قول أحدهم، وهنا ينقل أبو شقّة نصّاً من كتاب إحياء علوم الدّين للغزالي:
“والطريق المغني عن الغيرة أن لا يدخل عليها الرّجال، وهي لا تخرجُ إلى الأسواق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم لابنته فاطمة عليها السّلام: أيّ شيء خيرٌ للمرأة؟ قالت: أن لا ترى رجلاً ولا يراها رجل، فضمّها إليه وقال: ذريّةً بعضها من بعض، فاستحسن قولها. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسدّون الكُوَى والثّقب في الحيطان لئلّا تطّلع النّسوان إلى الرّجال، ورأى معاذ امرأته تطّلع في الكوّة فضربها، ورأى امرأتَه قد دفعت إلى غلامه تفّاحة قد أكلَت منها فضربها. وقال عمر رضي الله عنه أعروا النساء يلزمن الحجال، وإنما قال ذلك لأنّهنّ لا يرغبن في الخروج بالهيئة الرّثّة، وقال: عوّدوا نساءكم “لا”. وكان قد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلّم للنساء في حضور المسجد، والصّواب الآن المنع إلا للعجائز”.
وعموم الأخبار والأحاديث في هذا المقطع لا تصح فهي بين شديدة الضّعف وبين الوضع، فضلاً عن كونها تخالف صريح ما في الصّحيحين.
وهذا النّص يمثّلُ نموذجاً للتّعسّف في استخدام سدّ الذّريعة نتيجة الإسراف في الغيرة في غير موطنها، وعلى خلاف حقيقتها المحمودة.
والخامس: دعوى فساد الزّمان
ويرى “أبو شقّة” أنّ هذه الدّعوى المسرفة تبذر اليأس في قلوب العباد، وتثبطهم عن محاولة الإصلاح، وتزهّدهم في الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وهي فوق ذلك كلّه تمثّلُ مدداً قويّاً للإسراف في سدّ ذريعة الفتنة، فإنّه مع كثرة الفساد تزداد الحاجة إلى سدّ منافذه ولو كانت هذه المنافذ أصلاً تقع في دائرة الحلال، ومن طبيعة الغلوّ في سدّ الذّريعة أنّه نَهِمٌ لا يشبع حتّى يأكل الأخضر واليابس.
ثم يقول معدّداً بعض الأحكام التي تمّ منعها سدّاً للذريعة بدعوى فساد الزّمان:
“ومن المباح الذي صار محظوراً سلامُ الرّجال على النّساء وسلام النّساء على الرّجال، وشهود النّساء صلاة الجماعة في المسجد، ومشاركة المرأة الرّجال في الزّيارة والضّيافة والعمل المهني، ومن المندوب الذي منع طلب النّساء العلم من الرّجال، ورؤية الخاطب لمن يريد خطبتها، ومودة المرأة الأقارب وذوي الأرحام من الرّجال وحسن رعايتهم وعيادة مرضاهم ومواساتهم وتعزيتهم، ومن الواجب الذي منع أيضاً ردّ النّساء السّلام على الرّجال، وصلاة العيد، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر”.
والسّادس: مجموعة من الآيات والأحاديث الصّحيحة التي أسيء فهمها وتأويلُها وأحاديثُ ضعيفةٌ أو موضوعةٌ تم اعتمادها
ثمّ بسوق “أبو شقّة” نماذج من هذه الآيات والأحاديث التي تمّت إساءة تأويلها وفهمها والتعامل معها، ونماذج من الأحاديث الضّعيفة والموضوعة التي تمّ الارتكاز إليها.
ثمّ ماذا؟!
ممّا يجبُ تأكيدُه بعد كلّ هذا؛ أنّ قاعدة سد الذرائع لا يجوز التّوسع فيها حتى تغدو وسيلةً للحرمان من كثيرٍ من المصالح المعتبرة، وينبغي أن تقدّر الذّرائع بقدرها لا أكثر، فلا ينبغي أن يُتجَاوز بالذّريعة قدرها فيؤدي إلى تحريم المباح، أو تفويت مصالحَ شرعيةٍ محققةٍ، كما ينبغي أن يكون سدُّ الذريعة بناءً على العلم بأن هذه الوسيلة حقاً ذريعةٌ إلى مفسدة تربو على مصلحة، لا أن يكون ذلك بناءً على الوهم أو ضرباً من الوسوسة أو بدافع الخوف النفسي المجرد، أو بناءً على ما يختلف فيه القياس والتّمثيل.
وإنّ تقديرَ الذّرائع ينبغي بقدرها، والتأكّدُ من كون هذه الوسيلة ذريعةً حقيقيةً إلى مفسدة تربو على المصلحة لا أمراً متوقعاً أو متوهماً؛ هو الخطوة الرّئيسة في إعادة قاعدة سدّ الذّريعة إلى نصابِها دون شططٍ ولا وُكْس.
فمن يذهب إلى صلاة الجماعة ويرى عند باب المسجد أصنافاً من المنكرات من التعرّي أو الرّقص أو الفجور، أو في السوق المؤدي إلى المسجد، فإنَّ وجود هذه المنكرات لا يعدّ مانعاً من جواز الذّهاب إلى المسجد والصّلاة فيه.
وكذلك من أراد عيادة مريضٍ في مستشفى لكنه سيمرُّ في طريقه على من يشربون الخمر أو يرقصون بفسوق ويعاين من المحرّمات ما لا يجوز النّظر إليه، فكلّ ذلك لا يمنع من جواز عيادة المريض ولا يصحّ اعتباره مفسدةً تمنع مشروعية العيادة، فهي مفسدة عارضة في مقابل مصلحة متحققة.
ولو سلّمنا بوجود مفاسدَ جزئيةٍ في عددٍ من السلوكيّات والأفعال المتعلّقة بالمرأة فإنَّ هذه المفاسد قد تُسوَّغ، وتحتمل في مقابلة دفع مفاسد أعظم منها وأخطر؛ بناءً على القاعدة التي يتبّناها بعض أئمة الفقه ومنهم ابن تيمية، وهي “ما كان منهياً عنه للذّريعة فإنه يُفعَل لأجل المصلحة الرّاجحة”.
فالمفاسدُ التي يعترضُ عليها المعترضون من جرّاء مشاركة المرأة في الحياة العامّة لا تصمدُ أمام المصالح الكبرى؛ في اشتراك المرأة مع الرّجل في مهمّة الإنسان في إعمار الكون والخلافة في الأرض.
وإنّنا أحوج ما نكون اليوم إلى “فتح الذّرائع” في قضايا المرأة والأحكام المتعلّقة بها بطريقة متوازنة راشدة بعيدة عن ردود الفعل الانفعاليّة، وهذا ما سيكون تفصيله – بإذن الله تعالى في مقال قادم.