إعداد: د. عمر عيسى عمران
————
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومَن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
وبعد:
فلا شك أنَّ الحديث عن المشاريع الحضاريَّة يكتسب أهميَّته من قيمة الحضارة التي توحي بكلِّ ما من شأنه إعلاء مَكانة الإنسان ورفاهيته؛ ولذلك فإنَّ استقراء تامًّا للقيم الحضارية من شأنه أن يُوقِفَنا على مرتكزات الحضارة وأسسها.
وإن التركيز على تحديد مصطلحات العقيدة والحضارة – وبخاصَّة في زمننا – أمرٌ جدير بالأهميَّة؛ وذلك لكثرة الالتباس الحاصل بينهما عند مَن يرى التناقضَ بين المفردتين، وأن بناء الحضارة – بحسب زعمهم – يقوم على رُفات العقيدة ونبذِ التقاليد والأعراف وعدِّها مِن سِمات الرجعيَّة؛ ولهذا سنُظهر هنا كيفيَّة إسهام العقيدة الإسلامية في بلورة المشروع الحضاري، وهذا لن يتمَّ ابتداء إلَّا من خلال تحديد حقيقة العقيدة والحضارة بوصفهما مادَّة ما يراد له التأسيس هنا وإثباته.
أولًا: حقيقة العقيدة:
تكاد جميع معاني العقيدة لغةً تتمحور حول معاني “العهد المؤكد”؛ يُقال: عهدتُ إلى فلان في كذا وكذا؛ أي: ألزمتُه، و”البناء”؛ يقال: عقَد البناء بالجصِّ يعقده عقدًا؛ أي: ألزقه، والعقيدة في ضوء هذا المعنى حصن لبناء الإنسان يشده بقوة؛ حتى لا يكون عرضة للانهيار أو السقوط.
والمعنى الثاني هو “الشد والثبات”؛ يقال: عقد الحبل يعقده إذا شدَّه، وهكذا العقيدة لا بد أن تكون قويَّة ثابتة، وغير قابلة للشكِّ أو التذبذب.
وعلى وفق المعاني اللغويَّة جاءت تعريفات كثيرة للعقيدة، ولعلَّ من أبرزها تعريف الجلال الدواني في شرح عقائده بأنها: “ما يتعلَّق الغرض بنفس اعتقاده، من غير تعلُّق بكيفيَّة العمل؛ ككونه تعالى حيًّا قادرًا، إلى غير ذلك من مباحث الذات والصِّفات، وتسمَّى تلك الأحكام أصولًا وعقائد اعتقادية، ويقابلها الأحكام المتعلقة بكيفية العمل”.
ثانيًا: حقيقة الحضارة:
الحضارة لغة: خلاف البادية؛ وهي الإقامة في الحضر.
وفي الاصطلاح: تطلق على كل ما يُنشئه الإنسان بمختلف جوانب نشاطه؛ العقليَّة والماديَّة والروحية، وهي ثمرة كل جهد يبذله الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء كان الجهد مقصودًا أو غير مقصود.
ولا شك أنَّ لكل أمَّة مشروعها الخاص بها، وقد أسهمَت العقيدة الإسلامية في بلورة مشروع الأمَّة الحضاري بصورة جعلَته يتمكَّن من البقاء والاستمرار مع شدَّة الهجمات المناوئة له وشراستها، وفيما يأتي أوجز أهمَّ إسهامات العقيدة في بلورة المشروع الحضاري، وذلك من خلال النقاط الآتية:
1. أسسَت العقيدةُ لمجتمع: ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾ [الكافرون: 6]، على جعل المشروع الحضاري الإسلامي والاعتراف بالآخر واحترامه، وضرب القرآن الكريم مثلًا أعلى للاعتراف بالآخر ولو كان كافرًا، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24]، في الآية الكريمة يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين: إن أحدنا لا بد أن يكون على هدًى، والآخر على ضلال؛ وهذا غاية الاعتدال والأدب في الحوار، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يريد هدايتهم وإقناعَهم، لا إذلالهم وإفحامهم.
2. أسست العقيدة لجعل مركزية الانقياد والخضوع لله تعالى؛ فلا وجود لعبادة الهوى، ولا انقياد لغير مراد الله سبحانه وتعالى؛ وفي ذلك منجاة من كلِّ الأمراض والأدواء، التي هي المقدمات الصحيحة لفساد البلاد والعباد والمشاريع الحضارية، قال تعالى: ﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ ﴾ [المؤمنون: 71].
3. العقيدة هي هُوِيَّة المشروع الحضاري وعليها يرتكز البناء؛ في الإيمان بربوبيَّة الله تعالى وعبوديته، ونبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، والحكم بما أنزل الله عزَّ وجل، وتحريم الخمر والزنا والرِّبا، وكلِّ ما ثبت أنه يزعزِع بُنيان الحضارة ويجعل أبناءها فريسةً سهلة للاغتراب الفِكري والأيديولوجي، قال تعالى: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 49].
ولقد تجلَّى التأصيل العقدي في بناء المشروع الحضاري من خلال سِمات رئيسة، بها تمايز المشروع الحضاري الإسلامي عن بقيَّة المشاريع الأخرى، وقد تجلَّى ذلك من خلال الآتي:
1. الاعتماد على البرهان اليقيني القطعي، لا الظنون والشكوك والأوهام في بناء الفرد المسلم بوصفه اللَّبنة الأساس في البناء الهرمي للحضارة الإسلامية؛ وهذا أمر مهمٌّ حتى لا يبقى الفرد المسلم أسيرَ الخرافات والمقولات الساذجة البعيدة عن الواقع، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 24].
2. الاعتماد على الدليل والحجة؛ وهذا أمر بالغ الأهمية والخطورة في آنٍ واحد؛ وذلك لكي ينأى الفرد المسلم عن التبعيَّة والتقليد، كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6].
3. التدبُّر والاتِّعاظ؛ وهذا أمر أكَّدَته العقيدة الإسلامية، ونافحَت عنه من منطلق إيمان جازم وقاطع بأنَّ السير في الأرض وتقليب النَّظر أمران يسهمان في تقصي سُبل النجاح، واستلهام العِظات والعبَر من أسباب نجاح الأمم، وفي الوقت نفسه الحذر والتنبه لأسباب الفشل، قال تعالى: ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137].
4. تعزيز ثقة المسلم بصواب مشروعه الحضاري؛ وذلك من خلال لفت نظره إلى ملامح القوَّة فيه وملامح الإبداع فيه، وملامح الاستقلاليَّة لا التبعيَّة فيه؛ ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أُعطيتُ خمسًا لم يعطهنَّ أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلَت لي الأرض مسجدًا وطهورًا؛ فأيما رجل من أمَّتي أدركته الصلاة فلُيصلِّ، وأُحلَّت لي المغانم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي، وأُعطيتُ الشفاعة، وكان النبيُّ يُبعث إلى قومه خاصَّةً وبعثتُ إلى الناس عامَّة)).
5. المشروع الحضاري الإسلامي يستنهض الفرد المسلم ليشارك في صياغته يوميًّا وعلى مدار الساعة؛ فالمشروع الحضاري الإسلامي لا ثبات فيه إلَّا في مرتكزاته الثلاثة المهمة؛ وهي الإيمان بالله تعالى وعز وجل ربًّا وإلهًا، والإيمان برسوله النبي الأمي نبيًّا ورسولًا، والإيمان باليوم الآخر.
6. الحرية: لقد كفل المشرع الحكيم الحريَّة لأبنائه في القول والعمل، بشرط انضباط هذه الحرِّية وعدم خروجها عن الثوابت التي قطعًا هي عوامل بناء للفرد والمجتمع، وليست خاضعة بشكلٍ أو بآخر للتغيير والتبديل والتحوير؛ من نحو الإيمان بالله تعالى ورسله واليوم الآخر، وبشرط عدم الخروج عن الأعراف العامَّة والمتغيرة بتغير الأزمان والأماكن.
أخيرًا: إنَّ العقيدة الإسلامية قد أسهمَت بشكل أكيد في قيام دولة الإسلام على مدى عقود من الزمن، وجعلَت من الأعراب المتقاتلين لأتفَه الأسباب ملوكًا على الأسرَّة في أقل من دورة الكوكب، وامتدَّ سلطان المسلمين بسبب عنفوان العقيدة في صدورهم لأقاصي المعمورة، وبفضل العقيدة بنَوا حضارةً زاهرة من الشَّرق إلى الغرب، وما تخلَّف المسلمون حتى صاروا في آخر الركب إلَّا بتنكُّبهم عن صراطهم السَّوي المتمثل في العقيدة الإسلامية، ولا شكَّ أنهم برجوعهم لمبادئ دينهم الحنيف ستعود لهم فراديسهم المفقودة؛ وما أكثرَها! وسيظهر ملكهم على ما ظهر عليه الليل، وإنَّ وعدَ الله لآتٍ، ولله عاقبة الأمور.
*المصدر : شبكة الألوكة