أثر اختلاف الملة على صحة الدعاء للميت بالرحمة في ميزان العقل وسنن الواقع
بقلم ياسر سقعان (خاص بالمنتدى)
إن مسألة ترحم المسلم على أموات غير المسلمين هي من المسائل التي تكاد النصوص الفقهية تجمع على عدم جوازها .
وفي عصرنا هذا تحمست إلى القول بجواز هذا الترحم بعض الدراسات التي ينتسب أصحابها إلى الأكاديميات الشرعية ، وكان عمدتهم فيما ذهبوا إليه ما بدا لهم من مصلحة حسبوها متساوقة مع القواعد العامة في الشريعة الإسلامية التي تدعوا إلى إحسان التعامل مع أبناء الملل الأخرى الذين لم يصدر منهم اعتداء تجاه مقدساتنا وأوطاننا .
وفي سبيل التأصيل لما بدا لهم استدعى أصحاب هذا القول بعض النصوص الفقهية التي ذهبوا في توجيهها بما يخدم اتجاههم ، هذا فضلا عما أضافوه إلى رصيدهم في الاستدلال من تأويلات لنصوص من الكتاب والسنة _ هي في الأصل عمدة أدلة القائلين بالمنع _ تتوافق مع قولهم بالجواز .
ولن أخوض في كلامي المختصر هنا عن المسألة من زاوية التأطير الفقهي ، ولكنني سوف أسلك في تشخيصها الطريق الذي يقرره كل من العقل وسنن الواقع ، تكملة للأدلة الشرعية التي هي في الأصل مستغنية بنفسها عن غيرها من الأدلة ، واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار .
ومن المعلوم لكل منصف أن الشرع الحنيف إنما جاء متناغما مع مقتضيات العقول وسنن الواقع .
ولعل هذه المحاكمة العقلية الواقعية تجد آذنا صاغية ممن لازال حكم الترحم ملتبسا عليه من الوجهة الشرعية التأصيلية ، وممن هم من أهل الملل الأخرى _ الذين لا شأن لهم أصلا بآراء أئمتنا الفقهية وأدلتها _ لعلهم يعذروننا إذا ما استوعبوا المسألة ، وتبقى جسور التواصل والتعاون والتضامن بيننا وبينهم في ربوع الوطن الواحد أو داخل الرحم الإنسانية !! .
وقبل عرض وجهة نظري في المسألة ، لا بد من التأكيد على النقاط التالية :
1-أن مصطلحي الإيمان والكفر بين الملل على أختلاف أنواعها إنما هما مصطلحان نسبيان ، فالمؤمن في دين الإسلام مصنف على أنه كافر في الأديان والملل الأخرى . وهذا هو حال المؤمن في الملل الأخرى فإنه مصنف وفق مرجعيات الدين الإسلامي على أنه كافر ، ومما لا شك فيه أن هذا التصنيف منطقي مبني على اختلاف الأسس التي انفردت وتميزت بها كل ديانة أو ملة عن غيرها من الملل في الانتساب إليها أو عدمه ، فأنا المسلم لا يكمل إيماني حتى أكفر بما يتعارض مع ديني مما تقرره الديانات الأخرى ، وكذلك النصراني واليهودي وغيرهما فإن من مقتضيات إيمانهم الكفر بما يتعارض مع ملل كل منهم مما تقرره الديانة الإسلامية وهكذا .
2 – ومن ثم فإن مسألة اختلاف الاعتقاد وما يتبعه من تصنيف الإيمان والكفر النسبيين بين أبناء الملل في الوطن الواحد لا يتعارض مع وحدتهم وتضامنهم في بناء الوطن وحمايته .
3- ويتبع البند الثالث أيضا القول بالتضامن بين أبناء الملل في بقاع الأرض قاطبة ممن ليس بين أوطانهم عداءات تقتضي تقديم الولاء للوطن خاصة على الولاء للإنسانية عامة .
وبناء على التصنيف المتقدم فإنه يتقرر عند كل ملة حال المؤمنين وغير المؤمنين بها بعد الموت ، فيكون الفلاح والفوز بالسعادة الأبدية للمؤمنين بها ، وفي المقابل يكون الخسران والخيبة والعذاب من نصيب غير المؤمنين بها بعد الموت ، وهذا أيضا تصنيف منطقي يتناغم مع معتقد كل ملة .
وهو يستلزم عدم اعتبار كل ملة من الملل بما تعتقده الملل الأخرى من العقائد وما يتبعها من أحوال لما بعد الموت ، فكل ملة من الملل السماوية لا بد أن تعتقد أنها هي الفائزة والناجية وغيرها هم الخاسرون المعذبون .
وأما اللادينيون فحياتهم هي الحياة الدنيا ، ولا يهمهم حال ما بعد الموت لما يعتقدونه من عدم العودة والحساب بعد الرحيل عن هذه الدنيا .
ومن ثم فإنه ما ينبغي أن يكون هناك أي نوع من أنواع العتب في عدم الترحم أو الدعاء للميت بين أهل الملل ، لأن كل فرقة منهم لا تعتبر الأخرى على شيء ، بل إنها تصنفها من أهل النار والعذاب يوم المعاد ، وما دام الأمر كذلك فما قيمة دعوة المسلم وترحمه على غير المسلم ، في الوقت الذي يصنف فيه المسلم حسب ملة أهل ذلك الميت في عداد أهل الخسران ، وفي عداد من هم من أهل الكفر بالمعتقدات التي قررها لهم معبودهم ؛ ومن المعلوم عند العقلاء أن فاقد الشيء لا يعطيه ، وكذلك المسلم فإنه لا يستجدي من غير المسلم الترحم أو الدعاء لميته لأنه لا يراه على شيء .
وإذا تبين لنا ما تقدم فإن الخوض في المسألة وكثرة الخلاف فيها يكون من اللغو الذي ينبغي أن يصون العاقل نفسه عن الوقوع فيه ، لأنه يتنافى مع مقتضيات العقل وسنن الواقع ، فضلا عما تقرر في صريح النصوص وأقوال الأئمة .
وكم في لغتنا الأصيلة من ألفاظ العزاء لأهل أموات الملل الأخرى ، وكذلك ألفاظ الثناء على الميت وسجاياه ، التي تغنينا عن الوقوع في المخالفات الشرعية والعقلية ، وترفع عنا الحرج وتحفظ حبل الود وحسن التعامل والتضامن بيننا وبينهم ، وهل يعجز المسلم عن مخاطبة أهل الميت من الملة الأخرى بعبارات من مثل: خالص عزائي لكم بوفاة فلان ، لقد كان فيه من الخير كذا وكذا ، وإن القلب ليتألم على فراقه ، وإنني أوصي نفسي وإياكم بالصبر والثبات على رحيله.
ويبقى نداء المسلم الخالد في أمثال هذه القضايا ” لكم دينكم ولي دين ” .
الاسم : ياسر سقعان
الاقامة : المملكة العربية السعودية
البريد الالكتروني : [email protected]
جوال : ٠٥٥٢٨٥٦٢١١