أبو يعرب المرزوقي يكتب: سايكس بيكو الثانية.. الانتصار عليها ممكن بخلاف الأولى
كيف يمكن أن نقلب إستراتيجية أعداء الإسلام عليهم؟ أو كيف نستفيد من استحالة جمعهم بين الإستراتيجية المتعلقة بتفتيت الجغرافيا والإستراتيجية المتعلقة بتشتيت التاريخ. فالثانية تنهي فاعلية الأولى. وكيف نستفيد من استحالـة جمعهم بين سياسة القوميات وسياسة الطائفيات. فهذان هما حصانا طروادة الاستعماريين الهادفين لتحقيق سايكس بيكو الثانية.
ويمكن أن نعتبر أن الحاجة إلى سايكس بيكو الثانية علتها فشل الاستراتيجيين بسبب هذين التعارضين. فقد فشل مشروع الدولة القطرية على أساس اثني. فما نجح في أوروبا -أي سياسة طائفية فرضت سياسة اثنية تمكنت بها الأغلبية الطائفية من القضاء على الأقليات العرقية خلال الحروب الدينية الأوروبية-ليس لها نظير نظير في ثقافتنا رغم أن التشيع يعمل بها. وهذه الإستراتيجية هي حصان طروادة الأمريكي الحالي في الإقليم. وتلك هي علة الحلف الصريح بينها وبين روسيا وإيران وإسرائيل الساعية لاستكمال سايكس بيكو الأولى بثانية. ولذلك فهم يستعملون نوعين منها حاليا:
1- حرب أهلية سنية بين الإسلام السياسي الحديث والإسلام السياسي القديم أو بين الإخوان والوهابية.
2- حرب أهلية سنية شيعية مع انضمام كل الأقليات غير الإسلامية وغير الشيعية إلى الشيعة بحماية غربية.
ولما كانت هذه تعارض غايتهم في الغاية لانها ستكون مجموعة سنية كبرى تلغي الحدود فإن الحرب الأهلية الثانية ضمن السنة هي التي يستثمرون فيها حاليا ويعتبرون الثانية مساعدة رغم ما يبدو من سيطرتها على ظاهر المسرح.
وهذه هي معركة الإسلام السياسي التي يريدون وصمها بتهمة التي توجه إلى غالبية الإسلام السني بعد أن طوع الإسلام السلفي في الدول السنية المرتهنة للإرادة الأمريكية والإسرائيلية وانفصل عنه الإسلام السلفي الجهادي الذي ورطوه في حروبهم الخادمة لأمريكا بالاختراق المخابراتي الذي افسد الجهاد.
وإذن فالمعركة العميقة التي تقلب كل إستراتيجية الأعداء هي أن المعركة الأساسية أصبحت في جوهرها وفي حقيقتها معركة استئناف الإسلام السني الأغلبي والشعبي استئنافا وما يترتب عليها من حرب أهلية بين صفين أحدهما يريد المحافظة على بالتفتيت الجغرافي والتشتيت التاريخي والثاني يريد تجاوزهما وما كان ذلك ليكون لولا فشل سايكس بيكو الأولى أو فشل فكرتها الأساسية وهي تكوني “دول” قطرية هي في الحقيقة صاغوها بصورة تجعلها مستحيلة الاستقرار ومستحيلة الاستقلال بسبب العرقية والطائفية والحجم.
ومما يقوي طغيان هذه المعركة العميقة هو استحالة التنمية المادية والثقافية للمحميات حتى لو تصورنا قياداتها صالحة ووطنية لأن حجمها يحول دون شرطي السيادة والسياسة المستقلة أعني القدرة على الحماية والرعاية الذاتية بسبب كلفتهما التي تقتضي حجما لم تعد الدولة القطرية توفره لشروط السيادة.
فحتى الدول التي تتوهم أن حجمها يمكنها من أن تكون دولة ذات سيادة -مثل السعودية وتركيا والجزائر والمغرب ومصر في الإقليم السني-فإنها متعددة الأعراق والطوائف وحديثة العهد كـ”دولة” قطرية ذات حجم قاصر إذا كانت دول مثل ألمانيا وفرنسا وانجلترا تعترف بفقدان الحجم القادر.
ولما كان تعددها متجاوزا لحدودها التي فرضها الاستعمار فإن بقاءها يجعل ضررها أكبر من نفعها ويوحي بضرورة الخروج من الدولة القطرية إلى الدولة الفدرالية القوية التي من جنس الولايات المتحدة فتكون هي بدورها ولايات متحدة لتتحرر من الصراع بين محميات يحركها الاستعمار ضد بعضها البعض.
وليكن مثالنا تركيا وسوريا والعراق ومشكل الأعراق والطوائف. فهذه مجموعة مثلثة من المحميات التي يمكن أن تصبح دولة بحق ذات حجم يحررها من الخطر المثلث المحيط بها إحاطة استهداف استراتيجي حقيقي وليس مجرد وهم: روسيا وإسرائيل وإيران. فهذه “الدول” الثلاث هي في الحقيقة محميات ثلاث مهددة في حريتها وليس لها سيادة حقيقية لأن لعبة الاحتماء بالقطبين ليست سيادة.
ولا يمكن أن يكون التركي والسوري والعراقي لم يتأكدوا من أن التعدد العرقي والطائفي الموجودة في كل “محمية”من هذه “الدول” الثلاث لا يمكن التغلب عليها في إطار الدولة “القومية”أو الاثنية بالمعنى الأوروبي القديم لأن أوروبا نفسها تجاوزته وتسعى إلى بناء سيادة ذات مستويين قطري ومتجاوز للقطرية.
وأعتقد أن تركيا هي الآن في فوهة المدفع العرقي والطائفي ويراد لها نفس المصير الذي آل إليه العراق وسوريا -فضلا عن الطائفية العلمانية- وهي تشعر بأنها مكبلة بهما وتحاول أن تحمي سوريا منهما لأنها تعلم أن نجاحهما فيها يعني العدوى التي يستحيل التغلب عليها بحيث إن إحداث إسرائيل جديدة على حدودها أصبح أداة أمريكا وروسيا وإيران لابتزازها.
وكان من المفروض أن يكون شعور سوريا والعراق مثل شعور تركيا لولا أن النظام فيهما قد تحلل ولم يعد فيه أدنى شعور بالوطنية والسيادة. فهو نظام فقد كل شروط السيادة ولم يبق مستقلا في أدنى قراراته بل هو مطلق التبعية لإيران وروسيا وأمريكا وإسرائيل. وإذا بقيت تركيا وحدها تقاوم -صحيح أن الشعوب السنية في أغلبها معها قلبا وقالبا-فإن لن تستطيع الصمود لأن فيها عملاء هي بدورها.
والأنظمة العربية العميلة في بقية الإقليم وخاصة في الخليج بصنفيها ذات الأغلبية السنية ليس لها سياسة مدركة لهذا الخطر عليها قبل غيرها وهي من ثم حليفة لأعداء الحلف الممكن بين الأنظمة السنية بدعوى الحرب على الإرهاب الذي يتهمون به الإسلام السياسي وتمول كل استهداف لتركيا لصالح أعدائها الذين ذكرت والمحيطين بها تماما.
لكن الأمل معقود الآن على تحرك الشعوب. فقد أثبتت الثورة أن الشعوب لا تعترف بالحدود التي وضعتها سايكس بيكو. وقد تكون حركات الشعوب في اللجوء والنزوح من أهم علامات ذلك إذ إن ملايين من السوريين يعيشون في تركيا وملايين العراقيين هجروا في العالم وكلهم لم يعودوا يشعرون بالانتساب لخارطة سايكس بيكو. وعندي أن ثورة سوريا ستستأنف دورها بقوة أكبر بعد أن تحقق أمران:
1- الأول هو أن الحرب التي كانت للتحرر من الاستبداد السياسي لم تعد مقصورة عليه بل هي أصبحت حربا أهلية حقيقية هدفها تحرير البلاد من الاحتلال الإيراني والروسي والكردي الانفصالي.
2- والثاني هو أن ما يهدد تركيا الناتج عن ذلك سيفرض عليها ألا تقبل بما كان يفرض عليها من عدم مساعدة الصف الذي يحاول منع هذه الكارثة في سوريا والتي تستهدفها في المقام الأول ما يعني أنها إن لم تساعد على حسم الحرب الأهلية السورية فستصبح هي بدورها في حرب أهلية. ولها القدرة حاليا على المساعدة الفعالة.
وليست بحاجة للدخول بذاتها ومباشرة في الحرب. فذلك ليس ضروريا بل هو ضار. يكفي ألا تقبل بالسقف الذي تفرضه أمريكا على تسليح المقاومة السورية. فإذا كانت أمريكا تسلح المليشيات الكردية وتحمي المليشيات الإيرانية وتسمح لروسيا بأن تحتل الشام لهذا الغرض وتمكن إسرائيل من أن تفعل ما تريد فلا يمكن أن تبقى تركيا متفرجة.
وقد تكون تركيا قد فوتت فرصة القيام بذلك منذ بداية الثورة السورية التي كادت تحسم المعركة لولا تدخل روسيا قبل انهيار النظام وحلفائه أعني إيران وكل مليشياتها. أما الآن وقد احتلت المليشيات الكردية كل الشمال السوري والعراقي فلا يمكن التفرج على تكوين قاعدة لكل أعدائها على حدودها.
ولا ينبغي في كل الأحوال أن تتورط تركيا في الحرب بجيشها بل يكفي أن تساعد الثوار مع ضرورة دعوتهم لتجنب الحرب ضد روسيا. فالأمر العاجل هو تحرير سوريا والعراق من المليشيات العلمانية الكردية والمليشيات الطائفية الشيعية دون المساس بوحدة البلاد والأعراق والطوائف كما كانت موجودة قبل التدخل الأمريكي والإيراني والإسرائيلي والروسي.
وكل ذلك ممكن بل وبيسر لأن الثوار حصلت لهم الخبرة وجربوا سياسة أمراء الحرب واكتشفوا أنها سر فشلهم وهم مستعدون الآن لتوحيد صفهم والقيام بالحرب الشعبية التي لا تعتمد على جيش مقابل جيش بل مقاومة شعبية خاصة والنظام اليوم في أضعف حالات وإيران هو نفسه يتمنى الخلاص هيمنتها الاستعمارية.
لكن شرط ذلك مشروع نظام فدرالي للإقليم الشمالي كله تكون فيه الدول الحالية ذات سيادتين قطرية وإقليمية. والثانية هي شرط الأولى لأن ما يوجد حاليا ليس سيادة إلا صوريا لانعدام شروطها الفعلية. ويقتضي ذلك مشروعا شبيها بما تسعى إليه أوروبا وحققته الولايات المتحدة من دولة كبرى ذات سيادة فعلية: فعداوتهم دون ما بين ألمانيا وفرنسا. والأمر ليس جديدا على الأقليم. فما هو عليه الآن هو نتيجة سايكس بيكو الأولى وكل شيء يثبت أنها قد فشلت على الأقل مرتين:
1- لم تستقر أي دولة قطرية صنعتها سايكس بيكو لأنها استراتيجيتها كانت مستحيلة التطبيق بسبب عدم التطابق بين الجغرافيا البشرية والتاريخ. فلا يمكن اعتماد القوميات ولا اعتماد الطائفيات.
2- ولم تحل الخطة دون التخلص ولو نسبيا من هيمنة الدولتين اللتين صنعتاه بعد أن فقدتا منزلتهما في النظام العالمي منذ الحرب العالمية الثانية ما جعل النظام الجديد يساعد على زعزعة ما أريد فرضه من حدود.
والمساعدة التي لم تكن مقصودة هي التي مكنت تركيا من أن تتحرر من هيمنة العسكر بالتدريج ما جعلها تسترد ذاتها أولا والطموح لدورها التاريخي المتقدم على سايسكس بيكو. ومكنت الهلال -الخلافتان الأخريان-من محاولة بناء دولة عربية كبرى تجمع العراق وسوريا رغم التنافس في البعثين ورغم فشل المحاولة فهي إحياء للطموح المتجاوز لسايكس بيكو.
واليوم بعد أن تبينت حدود الدولة القطرية في السعي للتنمية للسيادة وتعذر الاستقرار في كل واحدة من الدول التي تداولت على الخلافة بسبب العاملين القومي والطائفي بات من الواجب البحث عن حل يرضي الجميع ويحقق الغايتين: التنمية والسيادة. وكل شيء يجمع بين شعوب القوميات الثلاث ذات الغالبية العربية والتركية والكردية والطوائف الثلاث السنية والعلوية والشيعية ومن ثم فما تحاوله أوروبا يعتبر بالنسبة إليهم أيسر وأكثر إلحاحا.
وقد لا يكون ذلك قابلا للتحقيق حاليا لكنه كأمل يمكن أن يحد من التنافس القومي والطائفي فيقلل من حدة الصراع ويحد من دور المليشيات العلمانية والطائفية فيمكن الدول من التفكير الرصين الذي يحقق السيادتين: لكل دولة وهي السيادة الأدنى التي يمتنع الحصول عليها حاليا إذا لم تتحقق السيادة الأعلى للمجموعة لأنها تحوز على الحجمين الاقتصادي والثقافي.
(المصدر: صحيفة الأمة الالكترونية)