بقلم د. أبو يعرب المرزوقي
كثرت الشكوى من التبشير الشيعي في بلاد السنة دون البحث في علله وميسراته. والغريب أن هذه العلل والميسرات المغفول عنها تجعل الجميع يتصور ما يحدث ناتجا عن “عبقرية” ينسبها الكثير إلى من هم أجهل خلق الله ليس بالمعرفة السوية فحسب بل وحتى بمآل ما يفاخرون به: ملالي إيران ومليشياتهم العربية.
لن أتكلم على مليشيات إيران العربية سواء ما كان منها بالسيف أو بالقلم فهؤلاء لم يعد أحد يجهل وجودهم منذ اندلعت ثورة الربيع العربي وخاصة منذ تعاظم ما يحدث في سوريا والعراق واليمن. والمعلوم أن الظاهرة ليست جديدة والجديد الوحيد فيها هو تحالف اصحاب الفتنتين الكبرى والصغرى.
والفتنة الكبرى معلومة ولا تحتاج لتوضيح. لكن الفتنة الصغرى من جنسها رغم أنها تبدو عكسها تماما: فالأولى كانت تريد سياسة ثيوقراطية والثانية (العلمانية) تريد سياسة انثروبوقراطية: الانتقال من سلطان باسم الله إلى سلطان باسم الإنسان. والإنسان هنا ليس خاليا من الدين بل دينه هو دين العجل.
ودين العجل في الفتنة الصغرى (العلمانية) يفضح دين أصحاب الفتنة الكبرى (في التشيع والباطنية) لأنه يبين أنه كان دين الدنيا متنكرا في دين الاخرى. ولذلك فهما كلاهما لا يمكن ألا يتحالفا على الدين الذي يبين كذب الفصل بين الدنيا والاخرى إذا كان الدين دين الله وليس دين فولتار.
فما دين العجل إلى رمز لبعدي الدين المنافق: المال (مادة العجل الذهب) والإيديولوجيا (صوت العجل الخوار). وذلك هو المشترك بين توابع دين الملالي (مليشيات السيف خاصة) وتوابع دين العلمانيين (مليشيات القلم خاصة) من مليشيات إيران العربية (طبعا يوجد غيرهم لكنهم ليسوا موضوع اهتمامي).
سأهتم إذن بالمغفول عنه لأن مسألة المليشيات فضحها الربيع. فهذه المليشيات تبينت أخطر على ثورة شباب الامة بجنسيه وطلب القيم الكونية المشتركة بين الإسلام والحداثة أعني الحريتين الروحية (لا وساطة) والسياسية (لا وصاية) من أنظمة الثورة المضادة العربية التي هي شرط شروط نجاح تبشير الملالي.
والمغفول عنه هو ما تستمد منه دعاية الملالي ودعاواهم ما يظن دالا على الدهاء والذكاء وحقيقته هي عين الغباء لأنه كان ولا يزال علة احتياج أعداء الإسلام إليهم حصان طروادة وطابورا خامسا في جسد الأمة لم يستفيدوا من أدائه دورا للأعداء في الماضي ولن يستفيدوا في المستقبل فنهم مجرد أداة.
فمنذ اغتيال الفاروق إلى الآن خطتهم واحدة: الإرهاب في الداخل وخدمة أي غاز من الخارج. وما مثله حلفهم مع الصليبيين ومع مغول الشرق أعادوه في حلفهم مع دول حروب الاسترداد ومع مغول الغرب (أمريكا) منذ سقوط الاندلس إلى اليوم. لا شيء تغير ولن يتغير حتى يعالج هذا الدمل الخبيث.
وهذا الدور ليس من المغفول عنه رغم أن المحاولات السخيفة التي يسمونها التقريب بين المذاهب بمعنى بين السنة والشيعة قد تعني الغفلة عنه في الوقت الذي أصبح فيه هذا الدور يراه حتى اعمى البصر ويفهمه حتى أعمى البصيرة لفرط بلوغه صراحة أصحابه بدعوى استرداد إمبراطورية فارس في ارض العرب.
المغفول عنه خمسة عناصر اثنان من الماضي واثنان من المستقبل والأصل هو غياب الاستراتيجية السنية بمستويي كل استراتيجية أعني اللطيفة (القلم) والعنيفة (السيف) في التعامل مع العلل الأربع المغفول عنها في كل تاريخ الامة أعني الأحداث والأحاديث الماضية والأحاديث والاحداث المستقبلة.
وأبدأ بحدث الماضي وحديثه: فقضية آل البيت حدث. وقضية كل ما يدور حولهم من توظيف حديث. وكلاهما من المغفول عنه في استراتيجية السنة التي تيسر الاختراق الشيعي والباطني -وكله اعتمد عليهما-للمجتمعات السنية التي جعلها توقيرها للإمام علي تقبل بمفهوم آل البيت وبكل ما تعلق به من أكاذيب.
فالإمام علي لم يكن شيعيا ولو ادعى ما يزعمه فيه موظفوه لاعتبر كافرا بالقرآن ولما قبل أن يصل إلى الخلافة بطريقة الاختيار وليس بطريقة الوصية كما يزعمون. وكل ما يزعمونه فيه يحقر منه ويجعله مجرد غطاء لآل بيت آل شروان وليس لآل بيت أسرة الرسول.
فلو كان يؤمن بالوصية لقاتل من أجلها من يوم وفاة الرسول إلا إذا كان جبانا. ومن ثم فهم يعتبرونه جبانا وكل ما يلصقونه به من أكاذيب تحط من قدره أكثر من حطهم من قدر الصحابة الآخرين الذين يخونونهم بهذه الأكاذيب. ولا عجب أن يفعلوا فمن يعتبر الرسول غرا في عرضه وصحابته لا يستبعد منه شيئا.
لا وجود لمفهوم آل البيت في القرآن إلا في الكلام على إبراهيم. أما الكلام على أهل بيت الرسول فيخص نساءه ولا أحد غيرهم. ثم إن القرآن لا يوصي بالحكم لأحد ولا ينسب معرفة الغيب والعصمة لأحد إذ حتى الرسول فهو لا يعلم الغيب وعصمته تبليغية. وإذن فكل ما يقال عن الوساطة والوصاية كفر بالقرآن.
الوساطة والوصاية المنسوبة للأيمة هي في الحقيقة الوساطة والوصاية التي كانتا أساس النظام الفارسي والتي تنكرت بآل البيت حتى يحرف الإسلام ويخرب من الداخل بهذه الكذبة الاولى حول الحدث (آل البيت) وحول الحديث المتعلق بالوصية وبوراثة عصمة الرسول وعلمه اللدني.
وهو ما يعني أنهم يعتبرون الأيمة أنبياء يتواصل الوحي معهم وإلا فلا يمكن أن ينسب إليهم ما ينسب إلى الرسول عندما كان حيا ويتلقى الوحي: فالرسول لما كان يتلقى الوحي كان معصوما وله علم نازل من السماء وليس مجرد اجتهاد شخصي. وما كان اجتهادا كان يستشير فيه صحابته وليس وحيا.
وتلك هي العلة في نهيه عن كتابة الحديث. فهو كان يميز بين اجتهاده وبين تبليغه الوحي. لو كان كل ما يفعله الرسول وحيا لما تميز الحديث عن القرآن ولما احتاج الرسول لمشورة صحابته في السلم والحرب من سياسته للدنيا عملا بأمر القرآن (فصلت 53) وبنهيه (آل عمران7): الغيب محجوب على الجميع.
لكن كذب الأحاديث بعد كذب الحدث حول آل البيت جعلهم أعلم من النبي يرثون منه ما لا يملك وبلغ هذا الكذب حده الأقصى في أداة الغدر الديني عندهم أني كذبة الكشف الصوفي اساس الاختراق الباطني للإسلام وتخريب كل عقائده بكذبة صاحب اللبنة الذهبية (خاتم الأولياء) على الفضية (خاتم الانبياء).
هذا فيما يتعلق بالماضي حدثه وحديثه. أما المستقبل فحديثه سابق على حدثه: تصديق العامة والنخب التي تغرر بها للدعاية الشيعية حول مقاومة الاستكبار والدفاع عن الإسلام -كما كان الكثير يصدق كذبة المقاومة والممانعة-والحمد لله فالثورة فضحت ذلك كله رغم تواصل فاعليته وخطرها على المستقبل.
فكل من يصدق عنتريات إيران وزعمائها في كلامهم على تحرير فلسفطين إن يكن متواطئا مع أكاذبيهم فهو غبي وغر أولا لظنهم صادقين في ذلك وثانيا لتوهمهم قادرين حتى لو كانوا صادقين. فوراء البخار الإيراني وادعاء القوة طلب وحيد من الغرب: طلب ضمان بقاء النظام تماما كالحال في كوريا الشمالية.
كنت دائما أعجب من بعض النخب العربية التي تتكلم على قوة إيران وعنتريات نجاد في أيامه وحملات زوروا إيران في العراق وسوريا لأن ذلك من دلالات الغفلة: فمن لم يصنع بعد قنيبلة لو حصلت لفجرت على رأسه يدعي أنه سيلقي بإسرائيل في البحر مثل ناصر سابقا وهو يعلم أنها تملك مآت مما لا يقدر عليه.
والأعجب من ذلك كله هو الزعماء السياسيين الذين يقبلون بجعل قضاياهم ورقات في مفاوضات إيران للحفاظ على نظامها معتبرين التضحية بالهلال كله من أجل وعد بتحرير القدس موقف عقلاء فلا يرون ما يحدث فعلا في أرض العرب ويكتفون بتصديق عنتريات تدل على استغبائهم لا أكثر.
وطبعا فإسرائيل وأمريكا يهمهم أن يضفوا بعض المصداقية على خطاب إيران فيتظاهرون بالخوف منها وبالاستعداد لمقاومتها ونحن نرى أن غزوها للعراق وسوريا يقع بمظلة جوية أمريكية وروسية وكلتاهما ما كانت لتحصل لولا رضا المافية الصهيونية المسيطرة على قرار أمريكا وروسيا.
الأصل في ذلك كله ماضيا ببعيده ومستقبلا ببعده هو عين ما نراه في حاضر النخب العربية الحاكمة والتابعة لها من النوعين نخب الأصالة ونخب الحداثة المزعومتين في نوعي الانظمة القبلية والعسكرية تساعد على ذلك مساعدة هي شرط رضا الأعداء عليها: الحرب على الإسلام والسنة.
فهم أكثر خلق الله اتهاما للإسلام السني بالإرهاب لأن ذلك صار ضمانة بقائهم في الحكم شرطا من حماتهم وحما استبدادهم وفسادهم حتى يحموا مصالح أعداء الإسلام في الغرب وفي ذراعيه في الاقليم أي إيران وإسرائيل وهذه الحرب لا تتوجه للسنة العربية وحدها بل لكل السنة وخاصة في الإقليم.
ذلك أن أعداء الإسلام يعلمون بالتاريخ وبالمعطيات الموضوعية للقوة أن من يمكن أن يحرر المسلمين كلهم هم أساسا الشعوب الأربعة السنية التي كان للغرب معهم تجربة: العرب بداية والأتراك غاية وبينهما الكرد والأمازيغ أي أكثر من 95 في المائة من سكان الإقليم منذ خمسة عشر قرنا.
وهذا هو الحاضر الجامع بين الماضي ببعديه حدثا وحديثا والمستقبل ببعديه حديثا وحدثا (وسبق فشرحت علة التقديم والتأخير في الحالتين) هو ما نشهده اليوم وهو ما جعل حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية تسيطر على تاريخنا الفكري والسياسي: الانظمة الحاكمة ونخبها بدورها معادية لقيم الإسلام.
فلا يمكن لأنظمة مستبدة وفاسدة أن تقبل بقوة الإسلام بل هي تسعى لإضعافه لئلا يطالب المسلم بالحريتين الروحية (ضد التربية العنيفة) والسياسية (ضد الحكم العنيف) فأعادوا السلطتين للوساطة وللوصاية: فالعسكر والقبائل وفقهاء السلطان بالدين وبالدنيا والتصوف حلفاء لأعداء الإسلام وغزاة أرضه.
(المصدر: مجلة الأمة الالكترونية)