بقلم الأستاذ يوسف الحلوي
نجح في فتح سيراليون وساحل العاج ونيجيريا والغابون وإفريقيا الوسطى ومالي وبوركينافاسو والطوغو
حين رحل يحيى بن إبراهيم الجدالي إلى القيروان، طلب من عالمها الفذ أبي عمران الفاسي أن يبعث معه فقيها يبصر الناس بأمور دينهم، لأن الناس بالمغرب في ذلك الزمن ابتعدوا عن معظم شعائر الإسلام ، فصار الواحد منهم لا يدري إن كان يحل له الزواج بتسع نساء أو أقل أو أكثر، واختلطت عليهم أمور الفرائض، فما عادوا يعرفون زكاة ولا حجا ولا صياما.
كان أبو عمران مشغولا بحلقات الدرس ولم يسعه أن يرافق الجدالي إلى الصحراء، لكنه أشار عليه بأن يقصد أحد طلبته النجباء، هو وجاج بن زولو اللمطي، الذي انتخب بدوره واحدا من ألمع رواد حلقة درسه وأكثرهم ورعا، هو عبد الله بن ياسين الجزولي، فبعثه معه إلى جدالة ليبعث تعاليم الشرع الحنيف من رقادها في تلك الصحراء النائية.
بذل عبد الله بن ياسين جهدا كبيرا في تربية أصحابه وإصلاح انحرافاتهم، وفي الرباط الذي أنشأه في الصحراء سيلمع اسم يوسف بن تاشفين وأبو بكر بن عمر اللمتوني ويحيى بن عمر اللمتوني وغيرهم.
وحين أحس عبد الله بدنو أجله طلب من أصحابه ومقربيه أن يبايعوا أبا بكر لما عرف عنه من الورع والتقوى، فكان آخر توجيه منه إليهم حين أصيب بجرح قاتل عام 451 هـ في بعض معارك المرابطين أن «اجتمعوا على أبي بكر وقدموه لإمامتكم وسياستكم».
من جنوب موريطانيا ستنطلق جهود هذا الرجل العظيم الزاهد لنشر الإسلام في إفريقيا بعد عامين من ولايته على المرابطين. وأغلب الفاتحين في تلك العهود كانوا يفضلون التوجه شمالا لا جنوبا كما فعل هو لسببين هامين:
أولهما: أن مناخ الشمال أنسب من مناخ الجنوب لحركة الجنود والحملات العسكرية، ثم إن ضعف التموين وبُعد مواطن إمداد الحملات التي كانت تنطلق من المشرق عادة، كانت تفرض على القادة تدبر مؤونة جنودهم وأقواتهم وأقوات دوابهم من البلاد التي يقصدونها، مما يضعهم أمام اختيار استراتيجي لا محيد عنه، هو استهداف البلاد الغنية ليؤمنوا استمرار حملاتهم، لكن أبا بكر كان فاتحا من طينة أخرى، فقد ألف شظف العيش وأبى إلا أن يركب المركب الصعب، وأن يولي وجهه شطر الجنوب حيث الشمس الحارقة والزاد اليسير والعطش والجوع والشدائد، وحين أزمع الرحيل أمر ابن عمه أن يدبر شؤون المغرب في غيابه، وطلق زوجته الحسناء الحكيمة زينب النفزاوية مخافة أن يؤذيها إذا رحلت معه إلى الصحراء، وأمر ابن عمه بالزواج منها، ثم أخذ معه نصف جيش المرابطين وانطلق كالسهم نحو الجنوب فنجح في ضمّ ما يزيد عن خمس عشرة دولة إفريقية إلى حظيرة الإسلام معظمها كانت تعبد الأشجار والدواب والحجارة.
دامت رحلة أبي بكر في الصحراء خمسة عشر عاما متواصلة لا يكلّ فيها ولا يمل، ثم عاد إلى المغرب عام 468هـ ووجد ابن عمه قد أحسن إدارة شؤون المرابطين في غيابه فتنازل له عن الحكم ليثبت مرة أخرى أنه قائد فذ لا تحركه رغبة في منصب أو ملك، وإنما تحركه دوافع عقدية دينية لا غير.
ثم عاد مرة أخرى إلى الصحراء ليعلي راية الإسلام في سيراليون وساحل العاج ونيجيريا والغابون وإفريقيا الوسطى ومالي وبوركينافاسو والطوغو وغيرها.
يقول ابن كثير في «البداية والنهاية» إنه كان يقوم له خمسمائة ألف مقاتل إذا دعا إلى الجهاد، مما يدل على أن أبا بكر أسس دولة قوية في الجنوب، وهي واحدة من أقوى الدول شوكة في عصره، ومع ذلك لم يكن أبو بكر ميالا إلى اللهو أو الترف فقد ظل زاهدا في متاع الدنيا، معرضا عن ملذاتها، يغزو في كل عام مرتين.
يقول ابن كثير: «اتفق له من الناموس ما لم يتفق لغيره من الملوك…. وكان مع هذا يقيم الحدود ويحفظ محارم الإسلام ويحوط الدين ويسير في الناس سيرة شرعية مع صحة اعتقاده ودينه، وموالاة للدولة العباسية».
إن ولاءه للدولة العباسية الضعيفة في وقته، على نحو ما ذكر ابن كثير، دليل آخر على قوة تدينه، فلم يكن راغبا في تشتيت وحدة المسلمين وظل مؤيدا للخلافة، رغم قوته وشدة بأسه، وستنتهي حياة هذا الرجل العظيم عام 480 هـ في ساحات النزال بعدما أصابه سهم في حلقه في بعض معاركه بدولة غانا.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)