أبو الكلام آزاد .. بصمات قرآنية فريدة يحتفي بها التاريخ
بقلم د. محمد منصور الهدوي الفلوري
آزاد: النشأة والسيرة:
ولد محيي الدين أحمد بن خير الدين المشهور بلقب (أبو الكلام آزاد) فـي مكة المكرمة، (1888م/ 1306هـ – 22 فبراير 1958م/ 3 شعبان 1377هـ)، وقد أخذ كنية (أبو الكـلام) لكونه خطيباً بارعاً، أما كلمة آزاد فتعني في اللغة الأردية «الحُر»، ينحدر أبو الكلام من أسرة أفغانية هاجرت إلى الهند في زمن الإمبراطور بابر مؤسس الدولة المغولية في الهند سنة 1526م/ 932هـ، فتلقـى تعليمه وتربيته الأولى فيها، وأتقن اللغة الإنجليزية والفارسية بالإضافة إلى الأردية والعربية،
وقام برحلة ما بين عامي 1908 – 1912م إلى جميع بلاد الشرق الأوسط الإسلامية، كما أسس آزاد مجلة «الهلال» عام 1912م في الهند، بحيث صارت إحدى أهم المجلات الأوردية من الناحية السياسية، وخلال الحرب العالمية الأولى انطلقت الصحف والمجلات الهندية لتأييد تركيا وحليفتها ألمانيا، فمُنعت واحدة تلو الأخرى، حتى منعت مجلـة (الهلال) وهو ما دفع أبو الكلام آزاد لأن يؤسس جريدة أخرى هي «البلاغ»، والتي سرعان ما مُنعَت هي الأخرى بعد ظهورها بعدة أشهر، وطُرِد مؤسسها آزاد من إقليم البنغال، مثلما مُنع من الإقامة بعدة ولايات هندية أخرى إلى أن جرى اعتقاله في رانجي ببهار وقد سجن مدة ثلاثة سنوات ونصف حتى عام 1920م.
في سلك السياسية رمز كفاحٍ للتحرير:
بعد خروجه من السجن تم اختياره رئيساً لحزب المؤتمر خلفاً لمحمد علي جوهر عام 1923م وبقي فيه مدة قصيرة، وقد عمل جاهداً من موقعه على رأب الصدع بين المسلمين والهندوس وتوحيد جهود نشطاء التحرير، وأعيد اختياره لرئاسة الحزب ثانية فتزعمه بين عامي 1940 – 1946م؛ إذ كانت فترةً حساسةً كان رأي أبو الكلام فيها أن تدخل الهند الحرب العالمية مع بريطانيا ضد ألمانيا في مقابل الحصول على الاستقلال، وفي تلك الفتـرة اعتقل أبو الكلام وغاندي وبقية زعامات المؤتمر، فثار الشعب وانتشرت الاضطرابات، فأُفرج عن آزاد في وقت لاحق.
ورغم هذا التحدي كله ظل عنيداً مثابراً على خطِّ تحرير بلده حتى نيل الاستقلال في عام 1947م، وفي ما بعد الاستقلال أيضاً، حيث قاوم أبو الكلام آزاد تقسيم شبه القارة الهندية، وسعى إلى بناء أيديولوجيا قومية هندية جامعة للهندوس والمسلمين.
اكتشافات آزادية في قصة (ذو القرنين)… بصمات لم يسبق لها النظير:
يدور رحى كلامنا حول آيٍ من الآيات القرآنية من سورة الكهف التي تتناول قصة ذي القرنين التاريخية الشيقة، وهي كالتالي: قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 83] إلخ…
موقف المفسرين والمؤرخين من ذي القرنين؟
يذكر تفسير الكشاف للزمخشري أنه الإسكندر، وقيل إنه عبدٌ صالح، والإمام ابن كثير يذكر في تفسيره أنه الإسكندر ثم يبطل هذا، وأورد في تاريخه (البداية والنهاية: 2/ 102) مثل ذلك وزاد أنه نبي أو مَلَك، أما القرطبي في تفسيره فقد أورد أقوالاً كثيرةً أيضاً: كان من أهل مصر واسمه (مرزبان)، وعن عمر وعلي رضي الله عنهما بأنه مَلَك… أو عبدٌ صالح وهي روايات غير صحيحة ولا سند لها. أما الآلوسي في تفسيره، فقد جمع الأقوال السابقة كلها تقريباً، وقال: لا يكاد يسلم فيها رأي، ثم اختار أنه الإسكندر المقدوني ودافع عن رأيه بأن تلمـذته لأرسطو، لا تمنـع من أنه كان عبداً صالحاً. أما المفسرون المحدَثون فكانوا كذلك ينقلون عن الأقدمين.
ردود حادة لـ (أبو الكلام) على هذه الأقوال:
لم يرضَ أبو الكلام آزاد قولاً من هذه الأقوال، بل ردَّها قائلاً: إنها قامـت على افتراض مخطئ لا يدعمه دليل، وعُنِي بالرد علـى من يقــول بأنه الإسكندر المقدوني، بأنه لا يمكن أن يكون هو المقصود بالذكر في القرآن؛ إذ لا تُعرَف له فتوحات بالمغرب، كما لم يعرَف عنه أنه بنى سدّاً، ثم إنه ما كان مؤمناً بالله، ولا شفيقاً عادلاً مع الشعوب المغلوبة، وتاريخه مدوَّن معروف. كما عني بالرد على من يقـول بأنه عربي يمنـي، بأن سبب النزول هو سؤال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين لتعجيزه وإحراجه، ولو كان عربياً من اليمن لكان هناك احتمال قوي لدى اليهود – على الأقل – أن يكون عند قريش علم به، ومن ثَمَّ عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فيصبح قصد اليهود تعجيز الرسول عليه الصلاة والسلام غير وارد ولا محتمل، لكنهم كانوا متأكدين حين سألوه بأنه لم يصله خبر عنه، وكانوا ينتظرون لذلك عجزه عن الرد، سواء قلنا بأنهم وجَّهوا السؤال مباشرة أو أوعزوا به للمشركين في مكة ليوجِّهوه للرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال: «والحاصل أن المفسرين لم يصلوا إلى نتيجة مقنعة في بحثهم عن ذي القرنين، القدماء منهم لم يحاولوا التحقيق، والمتأخرون حاولوه، ولكن كان نصيبهم الفشل، ولا عجب فالطريق الذي سلكوه كان طريقاً خاطئاً، لقد صرحت الآثار بأن السؤال كان من قبل اليهود فكـان لائقاً بالباحثين أن يرجعوا إلى أسفار اليهود ويفتشوا هل يوجد فيها شيء يلقي الضوء على شخصية ذي القرنين، إنهم لو فعلوا ذلك لفازوا بالحقيقة».
لماذا…؟ لأن توجيه السؤال من اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام لإعجازه ينبىء عن أن لديهم في كتبهم وتاريخهم علماً به، فكان الاتجاه السليم هو البحث عن المصدر الذي أخذ منه اليهود علمهم بهذا الشخص… ومصدرهم الأول هو التوراة.
تشبث آزاد بالخيط الدقيق في هذه المسألة:
وهذا هو الذي اتجه إليه آزاد، وأمسك بالخيط الدقيق الذي وصل به إلى الحقيقة، وقرأ وبحث ووجد في الأسفار وما ذكـر فيها من رؤى للأنبياء من بني إسرائيل ما يشير إلى أصل التسمية: «ذي القرنين» أو « لوقرانائيم» كما جاء في التوراة. وما يشير كذلك إلى الملك الذي أطلقوا عليه هذه الكنية، وهو الملك «كورش» أو «خورس» كما ذكرت التوراة، وتكتب أيضاً «غورش» أو «قورش».
يقول آزاد: «خطر ببالي مرة هذا التفسير لذي القرنين في القرآن، وأنا أطالع سفر دانيال ثم اطلعت على ما كتبه مؤرخو اليونان فرجـح عندي هذا الرأي، ولكن شهادة أخرى خارج التوراة لم تكن قد قامت بعد، إذ لم يوجد في كلام مؤرخي اليونان ما يلقي الضوء على هذا اللقب… ثم بعد سنوات لما تمكنت من مشاهدة آثار إيران القديمة ومن مطالعة مؤلفات علماء الآثار فيها زال الحجاب، فتقرر لديَّ بلا ريب أن المقصود بذي القـرنين ليس إلا كورش نفسه فلا حاجة بعد ذلك أن نبحث عن شخص آخر غيره»، فهذا التمثال يثبت بلا شك أن تصور (ذي القرنين) كان قد تولد عند كورش، ولذلك نجد الملك في التمثال وعلى رأسه قرنان، أي أن التصور الذي خلقه أو أوجده اليهود للملك المنقذ لهم «كورش» كان قد شاع وعرف حتى لدى كورش نفسه على أنه الملك ذو القرنين؛ أي ذو التاج المثبت على ما يشبه القرنين.
كورش… دراسة موازية بين القرآن والتاريخ:
ومع أن ما وصل إليه آزاد قد يعتبر لدى الباحثين كافياً، إلا أنه مفسر للقرآن وعليه أن يقارن بين ما وصل إليه وبين ما جاء به القـرآن عن ذي القرنين أو عن الملك كورش؛ إذ إن هذا يعتبر الفيصل في الموضوع لدى المفسر المؤمن بالقرآن. ويقول آزاد إنه لم توجد مصادر فارسية يمكن الاعتماد عليها في هذا، ولكن الذي أسعفنا هو الكتب التاريخية اليونانية، ولعل شهادتها، تكون أوثق وأدعى للتصديق؛ إذ إن المؤرخين اليونان من أمة كان بينها وبين الفرس عداء مستحكم ومستمر، فإذا شـهدوا لكـورش فإن شـهادتهم تكـون شهادة حق لا رائحة فيها للتحيز.
فقد أجمعوا على أنه كان ملكاً، عادلاً، كريماً، سمحاً، نبيلاً مع أعدائه، وقد حدد آزاد الصفات التي ذكرها القرآن لذي القرنين، ورجع لهذه المصادر اليونانية فوجدها متلاقية تماماً مع القرآن الكريم، وكان هذا دليلاً قوياً آخر على صحة ما وصل إليه من تحديد لشخصية ذي القرنين، تحديداً لا يرقى إليه شك. وقورش من أسرة فارسية ظهر في منتصف القرن السادس قبل الميلاد في وقت كانت فيه بلاده منقسمة إلى دويلتين تقعـان تحت ضغط حكومتَي بابل وآشور القويتين، فاستطاع توحيد الدولتين الفارسيتين تحت حكمه، ثم استطاع أن يضم إليها البلاد شرقاً وغرباً بفتوحاته التي أشار إليها القرآن الكريم، وأسس أول إمبراطورية فارسية.
سدُّ يأجوج ومأجوج:
إنما نسميه بهذا لأنه بني لمنع الإغارات التي كانت تقوم بها قبائل يأجوج ومأجوج من الشمال على الجنوب، كما يسمى كذلك سد (ذي القرنين)، ويقول آزاد: «لقد تضافرت الشواهد على أنهم لم يكونوا إلا قبائل بدوية من السهول الشمالية الشرقية، تدفقت سيولها من قبل العصر التاريخي إلى القرن التاسع الميلادي نحو البلاد الغربية والجنوبية، وقد سميت بأسماء مختلفة في عصور مختلفة، وعرف قسم منها في الزمن المتأخر باسم (ميغر) أو (ميكر) في أوروبا، وباسم التتار في آسيا، ولا شك أن فرعاً لهؤلاء القوم كانوا قد انتشروا على سواحل البحر الأسود في سنة 600 ق.م.
وأغار على آسيا الغربية نازلاً من جبال القوقاز، وشكوا إغاراتهم إلى كورش فبنى السد الحديدي لمنعها، وتسمى هذه البقعة الشمالية الشرقية (الموطن الأصلي لهؤلاء) باسم (منغوليا) وقبائلها الرحالة (منغول)، وتقول لنا المصادر اليونانية أن أصل منغول هو (منكوك) أو (منجوك) وفي الحالتين تقرب الكلمة من النطق العبري (ماكوك) والنطق اليوناني (ميكاك)»، ويقول: «إن كلمتي: (يأجوج ومأجوج) تبدوان كأنهما عبريتان في أصلهما ولكنهما أصلاً أجنبيتان اتخذتا صورة العبرية فهما تنطقان باليونانية «كاك Gag» و «ماكوك Magog» وقد ذكرتا بهذا الشكل في الترجمة السبعينية للتوراة، والكلمتان تنطقان في القرآن الكريم بهمز وبدونها.
موقع السد الجغرافي:
ثم يحدد مكان السد بأنه في البقعة الواقعة بين بحر «قزوين» و «البحر الأسود» حيث توجد سلسلة جبال القوقاز بينهما، وتكاد تفصل بين الشمال والجنوب إلا في ممر كان يهبط منه المغيرون من الشمال للجنوب، وفي هذا الممر بنى كورش سدَّه، كما فصَّله القرآن الكريم. ويؤكد آزاد كلامه بأن الكتـابات الأرمنيـة تسمي هذا الجدار أو هذا السد من قديم باسم «بهاك غورائي» أو «كابان غورائي» ومعنى الكلمتين واحد وهو مضيق «غورش» أو «ممر غورش»؛ و «غور» هو اسم «غورش أو كورش»، ويضيف آزاد فوق هذا شهادةً أخرى وهي شهادة لغة بلاد جورجيا التي هي القوقاز بعينها، فقد سمي هذا المضيق باللغة الجورجية باسم «الباب الحديدي».
وبهذا يكون آزاد قد حدد مكان السد وكشف المراد من يأجوج ومأجوج. وقد تعرض لدفع ما قيل من أن المراد بالسد هو سد الصين، لعدم مطابقة مواصفات سد الصين لمواصفات سد ذي القرنين، ولأن هذا بني سنة 264 ق.م، بينما بني سد ذي القرنين في القرن السادس قبل الميلاد، كما تعرض للرد على ما قيل بأن المراد بالسد هو جدار دربند، أو باب الأبواب كما اشتهر عند العرب، وأن مواصفاته غير مواصفات سد ذي القرنين وهو ممتد من الجبل إلى الساحل ناحية الشرق وليس بين جبلين كما أنه من الحجارة ولا أثر فيه للحديد والنحاس، وعلى ذلك يكون المقصود بالعين الحمئة هو الماء المائل للكدرة والعكارة وليس صافياً، وأما المقصود بمطلع الشمس فهو رحلته الثانية شرقاً التي وصل فيها إلى حدود باكستان وأفغانستان الآن ليؤدب القبائل البدوية الجبلية التي كانت تُغِير على مملكته، والمراد ببين السدين أي بين جبلين من جبال القوقاز التي تمتد من بحر قزوين إلى البحر الأسود حيث اتجه شمالاً.
ولقد كان آزاد بهذا البحث النفيس أول من حل لنا هذه الإشكالات التي طال عليها الأمد، وحيرت كل المفكـرين قبله، وحقق لنا هذا الدليل، من دلائل النبوة الكثيرة.
(المصدر: مجلة البيان)