أبو إسحاق الشاطبي.. أندلسي عاصر كل الأزمنة
بقلم إبراهيم الدويري
كتب الله لبعض العلماء الأعلام في تاريخنا الخلود، وجعل لهم لسان صدق في الآخِرين؛ إذ لا يفتأ الناس بعد رحيلهم بقرون يذكرونهم كأنهم أحياء بينهم، ويستدعونهم عند الملمات إجلالا واستفادة واقتباسا من أنوارهم أحايين كثيرة، أو محاولة تبخيس لعلومهم ومؤلفاتهم في لحظات الضعف والانكسار من لدن بعض عباد الهوى أحايين أخرى. ومن أولئك الخالدين الحاضرين بقوة في متن المعاصرة وحواشي سجالات النهضة منذ اليقظة الحديثة إلى يوم الناس هذا: الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الغرناطي، المشهور بالشاطبي (ت 790 هـ).
فمن يلقي نظرة الأسابيع المنصرمة على صفحات بعض الباحثين وطلبة العلم في مواقع التواصل الاجتماعي، سيخيل إليه أن الإمام الشاطبي حي يعيش بين أظهرنا، أو أنه مدون له حساب في تويتر وآخر في فيسبوك، وأنه يقود سجالات كان أعرض عنها في القرن الثامن الهجري وتفرّغ لها في القرن 21 الميلادي، أو سيظنه أحد سجناء الرأي والعلم في مصر أو الجزيرة العربية، يحاول بعض فقهاء السلاطين تشويهه ونفي صفتي العلم والتحقيق عنه، بسبب مواقف ورؤى كتلك التي تزعج بعض حكام زماننا ويسايرهم فقهاؤهم في ذلك الانزعاج.
معاصرة متجددة
الحقيقة أن معاصرة أبي إسحاق الشاطبي لزماننا وحضوره اللافت في قضايا النهضة ومعضلات التقدم والتخلف وأسئلة الابتداع والاعتصام، كلها ليست بالأمور الجديدة، فتلك مزية لصاحب “الموافقات” كان نبّه عليها المصلح الموفق ومؤرخ الأفكار العظيم العلامة محمد الفاضل بن عاشور (ت 1970) في دراسته عن “أعلام الفكر وأركان النهضة بالمغرب العربي”، حين قال “ولقد بنى الإمام الشاطبي حقا بهذا التأليف (الموافقات) هرما شامخا للثقافة الإسلامية، استطاع أن يشرف منه على مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته، قلَّ من اهتدى إليها قبله؛ فأصبح الخائضون في معاني الشريعة وأسرارها عالة عليه، وظهرت مزية كتابه ظهورا عجيبا في قرننا الحاضر والقرن قبله؛ لما أشكلت على العالم الإسلامي عند نهضته من كبوته أوجه الجمع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية، فكان كتاب: الموافقات، للشاطبي هو المفزع وإليه المرجع لتصوير ما يقتضيه الدين من استجلاب المصالح، وتفصيل طرق الملاءمة بين حقيقة الدين الخالدة وصور الحياة المختلفة” (ابن عاشور 81).
لم يكن حضور الشاطبي المقاصدي مقتصرا على الإصلاحية العربية و”جمعية العروة الوثقى” ذات التأثر العقلاني، فلأبي إسحاق أيضا حضوره في الإصلاح الأثري، فكتاب الاعتصام الذي “هو ثمرة كفاح الشاطبي في تقويم الدين وقمع البدع، فقد كان أيضا باعثا من أقوى بواعث النهضة الإسلامية الحاضرة، استندت إليه الحركة السلفية في المشرق والمغرب منذ أخرجه للناس العلامة المرحوم السيد محمد رشيد رضا من مطبعة المنار سنة 1332 هـ، فكان فيض بيانه المتدفق بردا وسلاما على القلوب المتحرقة من سوء مآل العالم الإسلامي لما حيك في نفوس المسلمين من زينة البدع” (ابن عاشور 81).
وفي عصر ازدهار الصحوة الإسلامية وانتشار أفكارها التجديدية وتنظيماتها، يخبرنا الباحث التونسي الدكتور حمادي العبيدي -في دراسته عن “الشاطبي ومقاصد الشريعة”- أن المصلح المغربي الكبير علال الفاسي (ت 1974) هو الجسر الذي عبرت من خلاله كتب الشاطبي إلى التيارات الإسلامية، فعلال “هو الذي نقل تلك الأفكار إلى المجال الذي تجري فيه الصحوة الإسلامية المعاصرة، سواء في موقفها الداخلي ودعوتها إلى النهوض بالعالم الإسلامي، أو في موقفها الخارجي من الحضارة الغربية والاقتباس منها”، ثم يعقب العبيدي “وهكذا يتضح أن الشاطبي ما يزال يعيش بيننا بفلسفته في المقاصد وآرائه الإصلاحية، وأن رجال العلم والفكر في العالم الإسلامي يجدون فيها معينا لدعواتهم إلى الإصلاح والتجديد على أسس من القيم الإسلامية الثابتة”، (العبيدي 284).
وحين ازدهرت الدراسات الأكاديمية وأولت الجامعات العربية والإسلامية التراث وأعلامه الأفذاذ عناية خاصة بالبحث والتنقيب، كان الشاطبي محظوظا باهتمام ثلاثة من أعلام المغرب الأقصى الأفذاذ به، يتقدمهم شاطبي العصر شيخنا الدكتور أحمد الريسوني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في دراسته الرائدة “نظرية المقاصد عند الشاطبي” التي ناقشها بجامعة محمد الخامس في الرباط عام 1989، وبعد هذا التاريخ بعقد كانت الأكاديميات المغربية على موعد مع أطروحة دكتوراه الدولة، قدمها الباحث العلامة الراحل الشيخ القرآني فريد الأنصاري رحمه الله في 20 أبريل/نيسان 1999 عن “المصطلح الأصولي عند الشاطبي”، وبين هذين التاريخين كان الدكتور عبد المجيد الصغير ناقش عمله المؤسس “الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام: قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة”، وجعل قسمها الثالث عن “أبي إسحاق الشاطبي وتأسيس علم الأصول وعقلنة التكليف والتنظير للإنقاذ”.
ويعبر عن حضور الشاطبي القوي في العقود الأخيرة ما لاحظه الباحث الموفق الأستاذ أحمد السيد في محاضرته القيمة عن “الإمام الشاطبي: أفكاره وموافقاته ومقاصد الشريعة”، من تكرر اسم الشاطبي في كتاب “ينبوع الغواية الفكرية” للشيخ عبد الله بن صالح العجيري حوالي 246 مرة، وهو مرجع حديث صدرت طبعته الأولى عام 1434 هـ.
هذا عن مظاهر حضور الشاطبي الذي عاش بحر القرن الثامن الهجري فيما مضى من هذا القرن والقرن الذي قبله، فما أسباب هذا الحضور الطاغي حسب كتابات من أرخوا للشاطبي ومن درسوا مشروعه الفكري؟
عودة الشاطبي من تونس
كانت حواضر تونس من أقطار شمال أفريقيا التي ورثت نصيبا وافرا ونالت حظا واسعا من إرث الأندلس العلمي، فإلى الخضراء هاجر فئام من أعلام الأندلس وعلمائها وأسرها العلمية، ولا عجب إذن أن تكون أوسع الترجمات التي نشرت عن الشاطبي -حسب الدكتور أحمد الريسوني- كتبها تونسي هو محمد أبو الأجفان، في تحقيقيه لـ”الإفادات والإنشادات” و”الفتاوى” للشاطبي، وكان أبو الأجفان تلميذا لآل عاشور؛ فشيخه محمد الفاضل بن عاشور اعتبر الإمام الشاطبي أحد أبرز “أعلام الفكر وأركان النهضة في المغرب العربي” وخصه بترجمة في كتابه الصادر بهذا العنوان، وقد حز الفاضل المفصل وغاص في أعماق أسباب تآليف الشاطبي وجهوده الإصلاحية التجديدية كعادته في التراجم واختيار الشخصيات.
كان الفاضل بن عاشور واعيا حد الافتخار بما قدمه التونسيون للعالم الإسلامي، بإحيائهم كتاب الموافقات حين قال: “وكانت تونس هي ذات اليد في إيصال هذه الهداية إلى قلوب المسلمين، فهي التي أخرجت لأول مرة هذا الكتاب للناس في طبعة جامعة لجهات الإتقان سنة 1302 هـ، ثم كانت طبعته الثانية بمصر بعد 40 سنة بفضل العلامة الكبير المقدس شيخ الإسلام محمد الخضر حسين التونسي وتحقيقه وتعليقه”.
وترجع أهمية هذه الطبعة التونسية الأولى إلى أنها تمت بتحقيق 3 من علماء الزيتونة، هم الشيوخ علي الشنوفي (ت 1326 هـ/1908 م) وأحمد الورتاني (ت 1303هـ / 1885 م) وصالح قايجي، مما يدل على الحضور النوعي المبكر للأدبيات والمعارف الشاطبية عند العصبة الإصلاحية في تونس، واستمر ذلك الحضور يتصاعد ويتعمق مع رؤى الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1296-1393 هـ) الذي كان عمره حين صدور الطبعة التونسية من الموافقات 6 أعوام، ثم نجده وهو في التاسعة عشر من عمره حين بدأ تدوين آرائه الإصلاحية في التعليم في كتابه “أليس الصبح بقريب” (1321 هـ)، يذكر أن السبب الرابع الذي أخل بتعاطي أصول الفقه وقصر فيه المؤلفون هو “الغفلة عن مقاصد الشريعة، فلم يدونوها في الأصول وإنما أثبتوا شيئا منها قليلا في مسالك العلة، مثل مبحث المناسبة والإخالة والمصلحة المرسلة، وكان الأولى أن تكون الأصل الأول للأصول لأن بها يرتفع خلاف كبير، وقد وفق الله لها أبا إسحاق الشاطبي فخصها بقسم من كتابه الموافقات”.
كما نوه ابن عاشور باعتبار الشاطبي الخوض في المسائل التي لا طائل من ورائها من العبث، ولم يقف الشيخ الأكبر ابن عاشور عند ذلك الحد فقط بل اتجه صوب “مقاصد الشريعة” محررا ومستدركا على الشاطبي، والمقاصد -بحسب الشيخ الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة- كانت أهم مشاريع ابن عاشور العلمية والفكرية، “فقد كان حريصا طوال حياته على تدوين ملاحظاته في مقاصد الشريعة الإسلامية، وعلى الجمع المُتْقَن بين ذلك وبين علمي الفروع وأصول الفقه. وبلغ من ذلك أغلى الأماني لديه حين أتمَّ الله عليه هذه النعمة، فحمد ربه على ما أعطى، وشكر له ما هيأه به للاضطلاع بهذا المهم الذي تناساه فحول العلماء، وغفلوا عنه نحو ثمانية قرون، فلا يكادون يذكرونه، ولا يذكرون منه تفصيل نظرياته وقواعده وما اشتمل عليه من حِكم ومنافع” (ابن الخوجة: تحقيق كتاب مقاصد الشريعة لابن عاشور 2/5/).
منقذ في انتظار لحظته المناسبة
لن نتوقف طويلا مع حضور الشاطبي في المتن الأصولي المعاصر واحتلاله منزلة عالية في الرؤية الإصلاحية للشيخ محمد عبده ومدرسته، فقد كفانا الشيخ أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان مؤونة ذلك في مقدمته الضافية لتحقيق الموافقات، ومن طالع أرشيف مجلة المنار يجد إعجاب الشيخ محمد رشيد رضا بكتب الغزالي والشاطبي وابن خلدون طافيا على سطحها، فرشيد رضا يرى أنه “ليس بين أيدينا من الكتب العربية التي يصح أن يقال: إن ما فيها نابع من صدور مؤلفيها وفائض من سماء عقولهم، إلا العدد القليل كإحياء العلوم، وكالموافقات والاعتصام للعلامة الشاطبي، ومقدمة ابن خلدون وغيرها، والأكثر ما بين منسوخ وممسوخ”.
ويرجع الفضل في نشر كتاب “الاعتصام” إلى جماعة المنار والشيخ رشيد رضا الذي احتفى به احتفاء كبيرا، وقال في تعريفه عنه في “مجلة المنار”: “العلماء المستقلون في هذه الأمة ثُلة من الأولين، وقليل من الآخرين، والإمام الشاطبي من هؤلاء القليل، وما رأينا من آثاره إلا القليل، رأينا كتاب (الموافقات) من قبل، ورأينا كتاب (الاعتصام) اليوم، فأنشدنا قول الشاعر:
قليل منك يكفيني ولكن .. قليلك لا يقال له قليلُ
يكاد دارسو مشروع الشاطبي العلمي والفكري يجمعون على أنه كَمَنَ عدة قرون في انتظار اللحظة المناسبة لكتبه وأفكاره، ولما حانت رفع أبو إسحاق رأسه ملبيا لدعوات الإنقاذ ومغيثا بالرؤى النهضوية الإصلاحية، والشيخ محمد الفاضل بن عاشور خير من عبر ذلك الكمون وتلك التلبية، حين قال في ختام ترجمته له “وكذلك خلف الشاطبي هذين الكتابين حجة قائمة ودعوة بالغة، فكانا بين ما خلف من الآثار الزكية في علوم الشريعة والعربية والأدب نداء متجاوبا بين أطراف القرون، يأخذ بالناس إلى طريق الدين المستقيم، وأبقى عنه ذلك ذرية صالحة بما كَوَّنَ من الملكات الصحيحة لتلاميذه مثل أبي يحيى بن عاصم وأبي بكر بن عاصم وأبي العباس القصار، فلما توفي سنة 790 هـ بقيت تلك الملكات بعده تتسلسل وتتوالد في أعلام الثقافة الإسلامية، حتى جاء عصر الحاجة الأكيدة إلى الاستمداد من كتابيه، فلبى الناس تلك الدعوة التي كانوا لبوها من الأصلاب وراء حُجُبِ القرون، ولا غرو فيما هي إلا دعوة إبراهيم”، يشير إلى اسم الشاطبي (ابن عاشور 82).
ولم يكن التوجه إلى الفكر الشاطبي لدى رواد النهضة بالصدفة أو الاعتباط، فقد حاولوا أن يجدوا حلولا لمعضلات عصرهم لدى غيره لكنهم لم يجدوا الإسعاف إلا عنده، وهذا ما لخصه الدكتور رضوان السيد في دراسته عن “سياسات الإسلام المعاصر”، بقوله: “فلما واجه العثمانيون الإصلاحيون ورجالات دولة محمد علي بمصر والسلفيون الإصلاحيون بالمغرب والهند وإندونيسيا قضايا إصلاح الدولة وقضايا المجال الاجتماعي والسياسي العام، أي قضايا بناء أو استحداث مؤسسات جديدة تتجاوز مسألتي الكفاية والشوكة المعروفة في الفقه السياسي السني القديم، أعادوا اكتشاف الدليل الفرعي لاستنباط الأحكام في المذهبين المالكي والحنبلي، وأعني به المصالح المرسلة، وعندما لم يف ذلك بالمطلوب لجؤوا في النهاية إلى اجتهادات الفقيه المالكي الكبير أبي إسحاق الشاطبي في كتاب الموافقات حول مقاصد الشريعة”، (السيد 106).
لم تكن محاولات الإنقاذ غريبة على أبي إسحاق الشاطبي، فتراثه العلمي والفكري كان تنظيرا إنقاذيا لمسلمي الأندلس الذين حاطت بهم الهزائم من كل مكان، و”تقلص المجتمع جغرافيا وصار محصورا في غرناطة وأحوازها، والتي اجتمعت فيها آنذاك أفضل القدرات الفكرية والسياسية والتي كانت موزعة في ربوع الأندلس الإسلامية، وبقدر ما ساهمت بعض تلك القدرات في محاولة إنقاذ الوضع وإيقاف عجلة التدهور السريع، بقدر ما سارت قدرات أخرى في الاتجاه المعاكس، فجعلت من تاريخ الأندلس بعد معركة العقاب سلسلة من الخيانات والتصفيات الجسدية والمواقف المتناقضة، توّجت باستسلام غرناطة ودخول الموريسكيين مرحلة التصفية النهائية”، حسب عبد المجيد الصغير في أطروحته (الفكر الأصولي 317).
كان الشاطبي يتصدر تلك القدرات الفكرية التي شعرت بتحديات القرن الثامن الهجري، “فكتبوا وأثروا التنظير في الشريعة والتاريخ للتغلب على هذه التحديات”. ويذهب المرحوم الشيخ فريد الأنصاري إلى أبعد مما ذهب إليه مناقشه في بحثه عبد المجيد الصغير، فرأى أن “الناظر في مشروع الشاطبي التربوي من حيث هو تجديد أصولي، يلحظ أنه قام على نقد ثغرات المراحل السابقة التي أسهمت -ولو بصورة غير مباشرة- في المآل المتردي لعصره، ومن هنا كان إصلاحه جامعا بين التجديد العلمي والتجديد الصوفي أو السلوكي، فكان أنسب قالب لصياغة هذا المضمون الجامع بين الأمرين هو المصطلح الأصولي، ولذا كانت عنده نظرية المقاصد روحا ساريا في كل المصطلحات الأصولية على مختلف مجالاتها من أحكام وأدلة واجتهاد، وما يتفرع عن كل منها”، (الأنصاري 148).
لم يكن التصدي للواقع الإسلامي في الأندلس زمن الشاطبي بالأمر اليسير، فغرناطة آخر القلاع الأندلسية كانت تلك الآونة -حسب تصوير الفاضل بن عاشور- “مجمع فلول الهزائم وملتقى الآفات الاجتماعية والانحرافات الدينية والخلقية التي دفت بسائر بلاد الأندلس إلى هوة السقوط والاضمحلال، فكان المجتمع الغرناطي فاترا آيسا متواكلا متناحرا، والدولة ضعيفة وهنة منشقة على نفسها، تقسمها الأهواء والمطامع والنزعات الأنانية وتعبث بها الخيانات والدسائس، وتزاحم رؤوسها على التمسك بألواح النجاة من السفينة الغارقة” (ابن عاشور 79).
ورغم أن هذه الظروف وما يحيط بها من تحديات تدعو إلى توجه المرء إلى خويصة نفسه، لكن قوة يقين الشاطبي “الإيماني وبعد همته العقلية يعصمانه من أن يستسلم لليأس ويركن إلى اعتقاد أن الدين النظري شيء والدين الواقعي شيء آخر، كما فعل إخوان الصفا وأبو العلاء المعري، ولا أن ينظر باطمئنان إلى اعتبار الحقيقة الدينية في الإخلاص الباطني وعزل حظ الحياة العلمية عنها كما ذهب إلى ذلك كثير من المتصوفين، فلذلك أقبل الشاطبي بعزيمة غلابة على فحص الواقع الديني وتمحيصه، موقنا بأن الحقيقة المثالية غير نابية عن الواقع العملي، لكنها موجودة فيه عن تفكك وتبعثر والتباس واندراس” (ابن عاشور 80).
ولم يكن الشاطبي الفقيه المتبصر مستعجلا على مشروعه الفكري، بل أنضجه على نار هادئة من التبحر في العلوم واستشارة فقهاء زمانه وإصغائه لضجيج الواقع المضطرب، ولما “اتضحت له فكرته واستقامت أصولها تقدم يعلن بها للناس صريحة جريئة، فقامت في وجهه ضجة الإنكار التي لم تسلم منها دعوة من الدعوات الإصلاحية ولا فكرة من الأفكار المتجددة، فتألب الناس عليه بما عظم عليهم من أمر مفارقة البدع المألوفة، وآذوه أذى بليغا طفحت به الصحائف الأولى من كتاب الاعتصام بوصفه وبالشكوى”.
إذن لم تكن محاولات التأليب على الشاطبي بالأمر الجديد، وأخطر تلك المحاولات وأشرسها سعي الحداثيين المزيفين لركوب موجة المقاصد انتقاما من رسالة الشافعي وضربا لرسالة الإسلام نفسه، لكن صرامة الشاطبي المأثورة في الفتوى واعتصامه الصارم بالكتاب والسنة كانا لهم بالمرصاد، فباءت محاولتهم بالفشل رغم كثرة الطنين، وفي “ينبوع الغواية الفكرية” للشيخ العجيري رصد بديع لتلك المحاولات الحداثية الفاشلة.
أما الشيخ علي جمعة -هداه الله- فقد طال عليه الأمد واختلطت عليه الحدود، وتداخلت التعريفات واضطربت الرتب، وقد جاء في “الإفادات والإنشادات” -وهو أخف كتب الشاطبي رضي الله عنه- قوله: “كثيراً ما كنت أسمع الأستاذ أبا علي الزواوي يقول: قال بعض العقلاء: لا يسمى العالم بعلم ما عالما بذلك العلم على الإطلاق، حتى تتوفر فيه أربعة شروط؛ أحدها: أن يكون قد أحاط علماً بأصول ذلك العلم على الكمال، والثاني: أن تكون له قدرة على العبارة عن ذلك العلم، والثالث: أن يكون عارفاً بما يلزم عنه، والرابع: أن تكون له قدرة على دفع الإشكالات الواردة على ذلك العلم، قلت: وهذه الشروط رأيتها منصوصة لأبي نصر محمد بن محمد الفارابي الفيلسوف في بعض كتبه” (الشاطبي 5).
المصدر: مدونات الجزيرة