بقلم د. عامر الهوشان
عاد الولد إلى بيته من رحلة مدرسية اشترك فيها مع زملائه , وقد لاحظ الوالدان شيئا غريبا , فقد عاد الولد بكرة وبعض الأشياء التي لم تكن بحوزته عند الذهاب , سأل الوالد ابنه : من أين لك هذه الكرة ؟؟ وما هي قصة ساعة اليد التي أراها ضمن أشيائك وأنت لا تملك مثلها حسب علمي ؟!
تلعثم الولد في الرد على سؤال والده بخصوص الساعة و حاول التهرب من الإجابة عن ذلك , بينما أجاب عن سؤال الكرة قائلا : وجدتها أثناء رحلتنا في المتنزه , ولم يسأل عنها أحد رغم أننا آخر من خرج من المتنزه من الناس ….فاصطحبتها معي !
أدرك الوالد أن ولده قد أخذ ما ليس له , وأنه قد وقع في المحظور المنهي عنه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , سواء كان هذا المحظور حراما لا لبس فيه ولا جدال كما هو الحال في ساعة اليد التي قد يكون قد أخذها من زميل له أو أحد رواد المتنزه أثناء الرحلة , أو كان المحظور مالا مشتبها كما هو الحال في الكرة – اللقطة – التي ظن الولد أن عدم سؤال أحد عنها يجعلها مباحة له وحلال !
ليست أمثال هذه الحوادث والوقائع من وحي الخيال , بل هي في الحقيقة قصص تتكرر كل يوم في كثير من بيوتات المسلمين , ويختلف تعامل الأبوين معها تبعا لمدى وعيهما وحرصهما على تربية ولدهما التربية الإسلامية الصحيحة.
فبينما قد لا يقوم بعض الآباء حتى بسؤال ولده عن مصدر ما يأتي به إلى البيت , وهو ما يستتبع تماديه في أكل المال المشبوه والحرام , والغرق مستقبلا في مستنقع الكسب غير المشروع , هناك آباء آخرون قد لا يعيرون كبير اهتمام بما فعل الولد بعد سؤاله عن مصدر ما يأتي به , نظرا لكونه – حسب زعمهم – تافها ولا يستأهل التوجيه أو التعليق , وهو ما يدفع الولد إلى الظن بأنه لم يفعل ما يستحق العتاب فضلا عن العقاب , فيكرر الأمر ثانية وثالثة , ولعل الأسوأ من كل ما سبق من يشجع ولده على فعله ويثني عليه , وهو ما يذكرنا بقصة تلك الأم التي سرق ابنها بيضة , وبدلا من أن تقومه وتصحح خطأه ….شجعته وأثنت عليه , فكانت النتيجة الكارثية المتوقعة : “سارق محترف” بسبب غياب التوجيه والتربية .
بداية لا بد من التأكيد على أنه بالرغم من الاعتراف بأن حب التملك طبع فطري في النفس البشرية , إلا أن هذا الطبع يمكن تربيته وضبطه بضوابط أوامر ديننا الحنيف ونواهيه بما يتعلق بكسب المال واقتنائه , وهي مهمة الوالدين التي ينبغي أن يبدؤوا بها مع ولدهم منذ الصغر , ولا ينتظروا وقوع ولدهم في مطب أخذ ما ليس له مرارا وتكرارا ليبدوؤا العلاج بعد ذلك بحجة أنه ما يزال صغيرا , فقديما قالوا : درهم وقاية خير من قنطار علاج , وهل ميدان التربية وغرس القيم إلا في مرحلة الصغر ؟!
أول ما ينبغي أن يبدأ الوالدان به مع ولدهما بهذا الخصوص هو تعريف الولد بقاعدة : أن لا تمتد يده إلى ما ليس له بأي حال من الأحوال , فملكية الآخرين هي الخط الأحمر الذي لا ينبغي أن يتجاوزه أبدا , فكما أن له أشياء تخصه وهي ملكه ولا يحب أن تمتد يد الآخرين إليها , فكذلك الآخرون لا يحبون أن تمتد يد لتسلبهم ما يملكون بغير حق .
ولا بد مع تقدم الولد في السن أن يبدأ الوالدان بتعليمه مصادر الكسب الحلال ومزالق المال الحرام , فالسرقة والربا والرشوة والغصب……حرام في الإسلام , بينما العمل في ميادين الصناعة والتجارة والزراعة ….وغيرها حلال , والتأكيد على ضرورة أن يتحرى المسلم الحلال في كسبه وأن يجتنب الحرام , قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } البقرة/172 .
وأرى أنه من الأهمية بمكان تبصير الوالدين ولدهما بعواقب وآثار الانزلاق في المال الحرام , ويكفي أن يذكرا له في هذا السياق حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم- ( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وَقَالَ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } . ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِىَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ ) صحيح مسلم برقم/2393
وهل هناك عقوبة إلهية لمن وقع في الشبهات – فضلا عن الحرام – أشد و أقسى من أن لا يستجاب للعبد حين يلجأ إلى ربه ويدعوه في أشد ساعات الضيق والحاجة والضعف ؟!
لا يكفي أن يبين الوالدان لولدهما مصادر الحلال والحرام وضرورة تحري الحلال واجتناب الحرام , بل لا بد من تذكيره باتقاء الشبهات التي قد تلتبس على كثير من الناس فيقعون فيها , وتذكيره في هذا السياق بحديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى أَلَا إِنَّ حِمَى اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ ) صحيح البخاري برقم /4178
وإذا كان تلقين الأولاد هذه الأوامر الربانية و التوجيهات النبوية بما يتعلق بالمال الحرام والمشبوه من الأهمية بمكان , فإن الأهم منها هو تلك التربية الإيمانية التي ينبغي أن يأخذ بها الوالدان ولدهما منذ الصغر فيما يتعلق بنظرته إلى المال التي ينبغي أن تكون متطابقة مع نظرة الإسلام , سواء من خلال التأكيد على أن المال مال الله والإنسان مستخلف فيه , وأن المال وسيلة ليعين المسلم على طاعة الله وليس غاية بنفسه , وأن الله سيحاسبنا عن هذا المال : من أين اكتسبناه وفيما أنفقناه .
إن هذه التربية الإيمانية ستجعل بين الولد وبين المال الحرام وحتى المشبوه حاجزا وساترا , فقد تعلم من والديه أن الآخرة هي الحياة الباقية الحقيقية , وأن رزقه المكتوب له سيأتيه لا محالة , وأن استعجاله بطرق أبواب الحرام لن يزيده فلسا واحدا , كما أن تحري الحلال لن ينقصه درهما .
ولعل الأهم من كل سبق في ترسيخ مبدأ الالتزام بالمال الحلال والبعد ما أمكن عن المال المشبوه فضلا عن الحرام عند الولد , هو سلوك الوالدين ومدى التزامهما عمليا بما يقولان للأولاد , فمهما كانت تلك التوجيهات مؤثرة وقيمة , فإنها لن تكون ذا مفعول وأثر ما لم تكن مطبقة من قبل الوالدين على أرض الواقع , فقدوة حسنة من الوالدين بــ : تعفف عن الحرام وتحري للحلال في كسب المال , وعدم أخذ ما ليس لهما بأي حال من الأحوال …… خير من عشرات التوجيهات النظرية التي تخالف السلوك العملي.
(موقع المسلم)