أبعاد المؤامرة العالميَّة لتنصير العالم الإسلامي 4من 8
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
الاستشراق تحت المجهر
سبقت الإشارة في مقدِّمة الدراسة إلى أنَّ الاستشراق هو عبارة عن أداة تبشيريَّة هدفها تحريف الدارسين والمثقَّفين من أبناء المسلمين عن دينهم، إن لم يكن بالتنصُّر، فعلى الأقل بازدراء الإسلام، والتكبُّر على أداء فرائضه، واعتباره غير صالح في زمن التطوُّر والمدنيَّة. وفي هذا الجزء، نستعرض بعض آراء المستشرقين عن الإسلام، وردود علماء مسلمين على ادِّعاءاتهم. ويرجِّح المؤرِّخون أنَّ بداية الاستشراق الفعليَّة كانت في القرن الرابع عشر الميلادي، وبدافع من الهزيمة النفسيَّة التي مرَّ بها الصليبيُّون بعد خروجهم من العالم الإسلامي، وتحديدًا بصدور مجمع فيينا الكنسي عام 1312 ميلاديًّا، بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في الجامعات الأوروبية. فقد وجد الغرب في نشر الثقافة المعادية للإسلام والمحطَّة من قدره وسيلة لتعطيل انتشار دعوته، وإن كان المنفعة الكبرى من تلك الحرب منع أبناء الغرب من التأثُّر بالإسلام ودراسته دراسةً قد توصل إلى اعتناقه. ولذلك، انكبَّ علماؤهم ومثقَّفوهم على دراسة صحيح الرسالة الإسلاميَّة، لتصيُّد الأخطاء، وادِّعاء التناقضات، وتلبيس الحقَّ بالباطل.
بعد زوال الاستعمار عن بلاد المسلمين بعد أنَّ أنجز مهمته الأساسيَّة، رأت الدوائر الاستعماريَّة أنَّ من الضروري وجود مَن لديهم خلفيَّة واسعة عن مجال الاستشراق في السفارات والقنصليات وسائر المؤسسات الدوليَّة، ودور هؤلاء هو التواصل مع كافة أصحاب الفكر والرأي والسياسيِّين للتعرف على أفكارهم وتسييرهم على النهج الذي يتوافق مع الاتجاهات السياسيَّة للمستعمر، وبالطبع فعبيد المال والسلطة هم أول العملاء الذين يستخدمهم موظفو الدوائر الاستعماريَّة في تنفيذ مخططاتهم. وهؤلاء هم من بُدأت بهم جهود الاستشراق في العالم الإسلامي.
عن تضافُر جهود التَّبشير والاستشراق مع قوى الاستعمار تقول الدكتورة فاطمة هدى نجا في كتابها نور الإسلام وأباطيل الاستشراق (1993)، أنَّ المسلمين ابتُلوا بالمستشرقين والإرساليات والاستعمار، فلم يدع ذلك الثالوث المقيت دعامة من دعائم الإسلام إلا وزعزعها، وحتى حينما رحل الاستعمار العسكري، فقد خلَّف وراءه رواسب للغزو الثقافي والفكري تركت أثرها مع الأسف على عقليات الأمة، وهي التي مهَّدت الأوضاع لتصبح على ما هي عليه الآن. بدَّل ذاك الثالوث العديد من المفاهيم الإسلامية الراسخة بأخرى معيبة، ولمَّا أهمل المسلمون دينهم، أصبحت تلك المفاهيم هي المسيطرة على العقول والمحرِّكة للتصرفات. كان الاستعمار بمثابة الحروب الصليبيَّة في ثوبها العصري، وقد بدأ بحملة نابليون أواخر القرن الثامن عشر على مصر، والعجيب أنَّ فشل الحروب الصليبيَّة قد انعكس على تقدُّم الغرب في شتى النواحي، فقد دبَّ الضعف في مختلف المجالات، بينما خرج المسلمون من أزمتهم أقوى من السابق بمراحل. متسلحين بالتقدُّم العلمي، هاجم الأوروبيُّون الشرق من جديد، في محاولة جديدة لتحريفه عن عقيدته المستمدة من الوحي الإلهي. واستهدف الاستشراق في المقام الأول دراسة كلِّ ما يتعلق بالإسلام والمسلمين، من ناحية لخدمة أهداف التَّبشير، ومن الناحية الأخرى لدعم جهود الاستعمار.
وكما تذكر نجا (1993)، استهدف الاستشراق في المقام الأول دراسة كلِّ ما يتعلق بالإسلام والمسلمين، من ناحية لخدمة أهداف التَّبشير، ومن الناحية الأخرى لدعم جهود الاستعمار. كان معظم المستشرقين الأوائل قساوسة ورهبان، وكان بعضهم موظفين، كما كان من بينهم بعض اليهود، وللأمانة كانت قلة من هؤلاء تدرس الشرق لأهداف البحث العلمي، وكانت نتاجاتها بشأنه منصفة. ونقل الإفرنج عن المسلمين الكثير من العلوم أثناء الحملات الصليبيَّة، وإن كانوا قد تعمدوا حرق المكتبات بما حوت من معارف وعلوم في الشام وليبيا والأندلس. وتمت أول عملية لنقل معاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية عام 1250 ميلاديًّا، على يد روبرت أوف تشستر وهرمن الألماطي، بتكليف من بطرس الموقر، رئيس دير كلوني. كانت طليطلة الإسبانيَّة، حتى بعد سقوطها في يد الإفرنج، أهم مركز للدراسات الإسلامية، وكانت أيضًا أهم مراكز نقل كنوز المعرفة العربية إلى اللغات الأوروبيَّة. ويشير جوستاف دوجا في كتابه تاريخ المستشرقين في أوروبا من القرن الثاني عشر حتى القرن التاسع عشر، إلى أنَّ حركة نقل العلوم العربيَّة في القرن الثالث عشر هي البداية الفعلية لجهود الاستشراق.
تميزت المرحلة الأولى للاستشراق بوجود اتجاهين مختلفين حيال الإسلام: الأول ينظر إليه من خلال ضباب كثيف من الخرافات والأباطيل وتحريف الحقائق؛ أما الثاني، فقد نظر إلى الإسلام بشيء من الموضوعية والإنصاف، مبلورًا بعض حقائقه، وطامسًا حقائق أخرى، أبرزها استناد الإسلام إلى الوحي الإلهي في المرتبة الأولى. كان دعاة التَّنصير، من متَّبعي عقيدة المسيانيَّة، على يقين بضرورة تعلُّم لغات المسلمين قبل الشروع في جهودهم؛ والسبب هو السعي إلى إيجاد ثغرات ينفذون منها إلى الإسلام؛ ومن هنا، لا يمكننا أن نفصل الاستشراق عن الإسلام، فالدافع الديني كان السبب الأساسي في نشأة الاستشراق. لم تجد الجامعات الأوروبيَّة حرجًا في التصريح بأنَّ أحد أهداف تدريس العربيَّة تنصيري.
بدأ المستشرقون في جمع المخطوطات الإسلاميَّة في القرن السابع عشر، فيما أخذ الاستشراق طابعًا علميًّا في القرن التاسع عشر، على يد الفرنسي سلفستر دي ساسي، الذي جعل من باريس مركزًا لدراسات اللغة العربيَّة، ولم تكن جهوده موجهة نحو الإسلام، إنَّما نحو الأدب. وتكمن أهمية دي ساسي في أنَّه أول من أسس منهجًا اتَّبعه تلامذته لاحقًا في الدراسة، حيث يتميز هذا المنهج بترتيب المعلومات بطريقة سهَّلت على الدارسين الخوض في ذلك المجال، اعتمادًا على مقتطفات وأمثلة معبِّرة نقلت الشرق إلى الدارسين بصورة مبسَّطة. لا شكَّ في أنَّ أعمال دي ساسي ومعاصره إرنست رينان قد أسهمت بالصورة الأكبر في تبرير الجهود الاستعمارية، واختُلقت فكرة دونية الشرق، مقارنةً بالغرب، مما يمنح المشروعيَّة لفكرة أنَّ الغرب هو مركز الكون، وينبغي تعميم ثقافته على كافة أجزاء العالم الأخرى، وهو نوع جديد من الاستعمار القائم على الهيمنة الثقافيَّة. منحت أفكار دي ساسي ورينان وغيرهما التبرير الواضح للمستعمر الغربي للانقضاض على الشرق الإسلامي في حملات منظمة استهدف اغتصاب أراضيه والاستيلاء على ثرواته، بينما كان مبررها الظاهري هو نقل هذه البقعة المظلمة من العالم من الرجعيَّة والتخلف إلى العلم والتطوُّر.
الحرب على العربيَّة
إحياءً لدعوة المستشرق الفرنسي ماسينيون إلى الكتابة بالعاميَّة، عني المستعمر بمحاربة العربيَّة، كونها لغة التعبُّد والدعاء وأداء الفروض الدينية الإسلاميَّة، ولذلك كان فرض اللغة الأولى للمستعمر في المدارس ومنحها الاهتمام الأساسي، بما يضر بالعربيَّة. وكان الألماني ولهلم سبيتا من أوائل الداعين إلى استخدام العامية في الكتابة من خلال كتابه قواعد اللغة العاميَّة في مصر أواخر القرن التاسع عشر، محاولًا التنفير من الفصحى بادعاء أنَّها صعبة في قواعدها، وهذا بالطبع ما يزال التبرير المستخدَم إلى يومنا هذا في الجامعات الغربية في التنفير من الفصحى. وادعى وليم ولكوكس، الذي كان مقيمًا في مصر، أنَّ سبب انحطاط المصريِّين وابتعادهم عن الابتكار هو تقيُّدهم بالعربيَّة في الكتابة، وكأنَّ الاستعمار الغاشم لا دخل له، كما ادعى نفس الرجل أنَّ العاميات التي يتحدث بها أبناء البلدان العربيَّة اليوم لا تمت بالفصحى بصلة، إنما هي اللهجات السابقة للفتح الإسلامي.
ودعا كارل فولرس، الذي تولَّى رئاسة دار الكتب المصريَّة بعد ولهلم سبيتا، إلى الكتابة بالعاميَّة، وأصدر كتابًا سمَّاه “اللهجة العامية الحديثة في مصر”، وقد وجَّه فيه المصريِّين إلى استعمال الحروف اللاتينيَّة (نفس ما فُعل بالتركيَّة) عند الكتابة بالعاميَّة بسبب جمود الفصحى، وهذا نفس ما دعا إليه الإنجليزي سِلدُن ولمور، الذي كان قاضيًا في المحاكم الأهليَّة إبان الاحتلال البريطاني، في كتاب “لغة القاهرة”، دعا في كذلك إلى الكتابة بالحروف اللاتينيَّة. كما دعا وليم ولكوكس عام 1926 من جديد إلى استخدام العاميَّة، التي أطلق عليها اللغة المصريَّة، في الكتابة، وهو ما أيَّده حينها الكاتب المفتون بالقيم الغربية سلامة موسى، وقد دعا عميد الأدب العربي طه حسين، خريج الأزهر وعاشق الثقافة الغربيَّة، إلى إخضاع العربيَّة إلى سُنَّة التطور واعتبار الفصحى لغة دينيَّة، مثل السريانيَّة والقبطيَّة واليونانيَّة القديمة. ويؤازر الكتابة بالعاميَّة عددٌ كبير من المأجورين والعملاء المستغربين المفتونين بثقافة الغرب، ممن نالوا الدرجات العلميَّة في كُبرى الجامعات الأوروبيَّة والأمريكيَّة، قديمًا وحديثًا، حيث لم ييأس المستعمرون إلى يومنا هذا من فكرة الكتابة بالعاميَّة لقتل الفصحى، كما يعتقدون.
نماذج من آراء المستشرقين تجاه الإسلام
نستعرض في هذا الجزء نموذجين من آراء مفكِّرين غربيِّين عن الإسلام، والرد عليها، مع إظهار نسبة العداء والإجحاف في نظرة الفِكر الغربي إلى الإسلام وأبنائه. ما يتميَّز به المؤلَّفان قيد التحليل-مقال Europe and Islam-أوروبا والإسلام (1990) للمستشرق اليهودي الأشهر خلال القرن العشرين برنارد لويس وكتابSeize the Moment-الفرصة السَّانحة (1992)للرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون-شعور الكاتبين بالحذر تجاه التوسُّع الإسلامي في العالم، وإمكانيَّة وصوله إلى الغرب، ومن ثمَّ خضوع العالم بأكمله إلى سُلطان المسلمين. وكما سبقت الإشارة في هذه الدراسة، فإنَّ جهود التَّبشير والاستشراق في العالم الإسلامي يدفعها ويوجِّهها الإيمان بعقيدة ألفيَّة المسيح، المذكورة في رؤيا يوحنَّا اللاهوتي. وكما يؤمن الغرب بهذه النبوءة، فمن المؤكَّد أنَّهم على دراية بنبوءات آخر الزمان الواردة في السُّنَّة النَّبويَّة، المبشِّرة بوصول الإسلام إلى كافَّة أطراف الأرض، وسيطرته على كامل ربوعها. روى ثوبان أنَّ رسول الله (ﷺ) قال “إِنَّ اللهَ زَوَى لِي الأَرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا، وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ الْأَحْمَرَ وَالْأَبْيَضَ“، وهو حديث أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وأحمد، وابن حبان، وابن أبي شيبة، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى، والطبراني في مسند الشهاب. أضف إلى ذلك، وعد الرسول بخروج رجل من عترته في آخر الزمان، كما جاء في الحديث الحَسن في صحيح الترمذي ” لَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ ثُمَّ اتَّفَقُوا حَتَّى يَبْعَثَ فِيهِ رَجُلًا مِنِّي أَوْ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي يُوَاطِئُ اسْمُهُ اسْمِي وَاسْمُ أَبِيهِ اسْمُ أَبِي، يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطًا وَعَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْرًا“، وفي ذلك إشارة إلى أنَّ سيطرة حاكم المسلمين على زمام الأمور في الأرض كلِّها، وفيه تأكيد لما ذُكر في الحديث السابق. ولمعرفة الغرب بتلك النبوءة، فقد وُضعت استراتيجيَّة مضادَّة تسعى إلى عدم تحقُّقها، وتدخل جهود التَّبشير والاستشراق ضمن عناصر تلك الاستراتيجيَّة.
استعراض مقال Europe and Islam-أوروبا والإسلام لبرنارد لويس
يعلِّق لويس في البداية عن إقرانه أوروبا والإسلام في عنوان المحاضرة برغم عدم تماثلهما؛ فأوروبا قارَّة تُقرن بقارَّة مثلها، والإسلام يُذكر معه الديانات الأخرى. والسبب في إقران أوروبا بالإسلام أنَّ الإسلام لا يمثِّل مجرد تعاليم دينيَّة، بل هو مؤسَّسة كاملة تتحكَّم في حياة المسلمين بالكامل. يقصد المستشرق الأشهر في العالم بذلك ما يُدَّعى عن شموليَّة الإسلام، فالخليفة هو رأس الدولة السياسي والديني في آن واح؛ فلا سبيل بذلك للصراع بينه وبين المرجعيَّات الدينيَّة، على عكس الحال مع الأباطرة وباباوات الكنيسة في أوروبا المسيحيَّة. ويشير الكاتب إلى أنَّ نبيَّنا محمدًا (ﷺ) لم يُحرم عليه دخول الأرض المقدّسة/أرض الميعاد مثل نبي الله موسى-أو لتقل موشيه-وكذلك لم يتعرَّض للاضطهاد والإيذاء البدني حتى الموت على الصليب مثل نبي الله المسيح عيسى بن مريم-والأصح وفق المسيحيَّة يسوع بن يوسف-كما لم يلقَ أتباعه الاضطهاد على مدار قرون إلى حين نشر رسالته.
أسَّس محمدٌ-رسول الله تعالى إلى الناس كافَّة-أول دولة إسلاميَّة، وحكمها بمشاركة أصحابه. وبعد أن انتقل إلى جوار ربِّه، استكمل أصحابه مسيرته السياسيَّة والدينيَّة والعسكريَّة، وإن كانت مسيرته الروحانيَّة قد انتهت بانقطاع الوحي. نجح المسلمون الأوائل في الحفاظ على إرث رسولهم، وحقَّقوا في سنوات معدودة انتصارات مؤزَّرة، حتَّى امتدت دولتهم من الصين والهند إلى جبال البرانس على حدود فرنسا. لا يُقرن الإسلام بذلك بالمسيحيَّة وحدها، إنَّما بالعالم المسيحي معها. ويأتي الإسلام الثالث في الترتيب بعد المسيحيَّة، وقبلهما البوذيَّة، في نشر دين على مستوى العالم بأسره. صحيح، وفق رأي الكاتب، أنَّ الفُرس-يقصد أتباع الزرادشتيَّة-واليهود قديمًا أخرجوا مفاهيم شموليَّة، لكنَّهم لم يعملوا أبدًا على نشرها وإقناع العالم كلِّه بها. غير أنَّ المسيحيَّة هي أول ديانة أشاعت أنَّ هناك حقيقة واحدة لابد أن يعتنقها الناس كافَّة، ومن واجب معتنقيها نشرها في الأمم الأخرى، وتبع الإسلام المسيحيَّة في ذلك.
ظهر الإسلام والمسيحيَّة في الشرق الأوسط، ويشتركان في إرث هائل، مفاهيم يهوديَّة عن التوحيد والنبوَّة والوحي والكتاب المقدَّس؛ العلوم والفلسفة الإغريقيَّة؛ الإدارة والقوانين الرومانيَّة؛ علاوة على ما بقي من آثار الحضارات القديمة. يدَّعي لويس تقارُب المصطلحات الدينيَّة للديانتين، بالإضافة إلى استخدامهما العربيَّة. وما يثبت ذلك سهولة ترجمة القرآن الكريم إلى اللاتينيَّة، التي تُرجمت إليها الأناجيل، لاحتوائها على المصطلحات المطلوبة؛ ويأتي ذلك على عكس ما حدث عند ترجمة القرآن إلى اللغات الشرقيَّة، التي استوجبت استخدام مصطلحات عربيَّة وشرحها للقارئ بسبب عدم وجود مثيل لها في تلك اللغات.
اعتقاد الإسلام والمسيحيَّة بأنَّ كلًّا منهما يحمل الرسالة الحقَّة الوحيدة جعل تعايشهما صعبًا؛ ولذلك مُحي الإسلام من عدَّة بلدان أعاد المسيحيُّون غزوها، مثل إسبانيا والبرتغال وصقلِّية. ولا ينطبق الأمر ذاته على علاقة اليهوديَّة والمسيحيَّة، فالأخيرة ترى أنَّ الأولى ديانة غير مكتملة سابقة عليها، أتمَّتها المسيحيَّة وتفوَّقت عليها؛ ويبرِّر هذا استمرار اليهوديَّة في أوروبا، ولو بنسبة تقل كثيرًا عن نسبة إشغال المسيحيَّة لبلدانها. يعتبر المسيحيُّون الإسلام مجرَّد هرطقة، أو ديانة مختلقة ابتدعها أفَّاقٌ مدَّعٍ-يقصدون به رسولنا الكريم خير البريَّة-حتَّى أنَّهم كانوا يطلقون على المسلم محمِّداني، أو شرقي، أو مغاربي، أو تركي، أو تتري؛ غير أنَّ مُسمى تركي كان الأكثر شيوعًا بعد ظهور الخلافة العثمانيَّة، وكان مسمًّ يوحي بالقوَّة والاعتبار. في حين ينظر الإسلام إلى المسيحيَّة باعتبارها ديانة مُحرَّفة؛ لتضمُّنها مفاهيم تتعارض بالكامل مع صحيح العقيد الإسلاميَّة، وعلى رأسها الثالوث وألوهيَّة المسيح وبنوَّته للربِّ. وجرت تسمية أتباع المسيحيَّة بـ “النصارى”، المصطلح القرآني لوصفهم، على أساس انتماء أوائل المؤمنين بالمسيح إلى بلدة الناصرة في بيت لحم.
لم يكن للمسيحيِّين تحت الحُكم الإسلامي أيُّة سيادةٍ، وانتموا إلى كنائس وثقافات متنوعة؛ مما حصر العالم المسيحي في أوروبا، مع استثناءات لا تُذكر، من بينها إثيوبيا. ويعني هذا أنَّ الحضارة الأوروبيَّة كانت مسيحيَّة. ومقارنةً بالإسلام، كان العالم المسيحي فقيرًا ومتأخِّرًا ومحدود الفعَّاليَّة، وكان يفقد أراضيه بالتدريج لصالح الأمَّة المسلمة. ويشكِّك الكاتب في صحَّة الرسائل التي بعثها الرسول إلى ملوك الفرس والروم والحبشة، مستشهدًا في ذلك بآراء بعض العلماء المسلمين، محاولًا الإيحاء بأنَّ السيف كان وسيلة نشر الإسلام في مهد الرسالة، وليس الكلمة. يجرُّنا هذا الزعم إلى تناوُل مفهوم الجهاد، ليس الصحيح النابع من العقيدة الإسلاميَّة، إنَّما المزعوم النابع من افتراءات المستشرقين. يزعم الكاتب أنَّ الجهاد هو حرب مقدَّسة يشرعنها مفهوم بذل النفس في سبيل الله والفوز إمَّا بـ “إحدى الحسنيين”، النصر أو الشهادة. يدَّعي لويس أنَّ عقيدة الجهاد تقوم على استمراريَّة الكفاح المسلَّح إلى حين فرض الإسلام على كافَّة الأمم؛ وحتَّى تحقيق ذلك الهدف، لا سلام، وإن لم تكن الهدنات والمعاهدات مستبعدة (ص89).
وكما سبق الإشارة في الدراسة السابقة عن سقوط الدولة العثمانيَّة بفعل مؤامرات اليهود، فإنَّ التوسُّع الإسلامي في أجزاء من أوروبا كان أكثر ما يؤرق الغرب، ويُشعره التهديد. ويتفاخر لويس بأنَّ تأثُّر أبناء الدولة العثمانيَّة بالثقافة الغربيَّة كان له التأثير الأكبر في التعجيل بسقوطها. فقد نجحت البعثات الدبلوماسيَّة إلى أوروبا خلال القرن الثامن عشر في إثارة إعجاب المبتعثين، مِمَّن وجدوا في إنجازات الغرب ما يستحق الاقتداء به، مما أغرى السلطان سليم الثالث بتأسيس سفارات دائمة لبلاده في العواصم الغربيَّة، ليخرج بذلك عن نهج سابقيه في إرسال السفراء وقت الضرورة. بدأ منذ ذلك الحين إرسال الطلاب المسلمين إلى الغرب لدراسة العلوم الحديثة، واكساب خبرات مباشرة عن الحضارة الغربيَّة. كما بدأ منذ القرن الثامن عشر الاهتمام بتعلُّم اللغات الأجنبيَّة، والترجمة عن الأمم الأخرى إلى العربيَّة أو التركيَّة والفارسيَّة، بعد أن اقتصرت الترجمة في السابق على منجزات الحضارة الإغريقيَّة القديمة.
يشير لويس إلى أنَّ الضرورة العسكريَّة، وليس الذكاء السياسي، هو ما دفع المسلمين إلى تعلُّم لغات “الأقوام الكافرة”، على حدِّ تعبيره؛ غير أنَّ التقدم في تعلُّم تلك اللغات كان محدودًا، وقليل جدًّا من أتقن لغة أوروبيَّة (ص126). وفي أواخر القرن الثامن عشر، كان السلطان سليم الثالث أول من طلب الاستعانة بفريق للتدريب العسكري من فرنسا، ليكون أول فريق في قائمة طويلة وفدت من مختلف البلدان الغربيَّة. واقتصر تأسيس دور النشر على القاهرة وإسطنبول، وركَّز النشر على كتب العلوم العمليَّة، مع بعض الكتب التاريخيَّة.
تضاعف وتيرة التغريب واعتناق القيم الأوروبيَّة بعد قدوم وسائل الإعلام إلى العالم الإسلامي. وكانت أول صحيفة تُطبع في الشرق الأوسط هديَّة من الثورة الفرنسيَّة إلى عاصمة الخلافة، وبدأت في النشر من داخل مقر السفارة الفرنسيَّة في إسطنبول؛ وتأتي مصر في الترتيب الثاني في خوض تجربة نشر الصحف، وكان ذلك على يد الفرنسيِّين أنفسهم. غير أنَّ تأثير تلك المنشورات الصحافيَّة كان ضئيلًا جدًّا بسبب نشرها بالفرنسيَّة. كانت إسطنبول والقاهرة كذلك أول عاصمتين تُنشر فيهما صحيفة باللغة الرسميَّة، التركيَّة والعربيَّة، على التوالي؛ وقد خضعت كلتا الصحيفتين إلى رقابة حاكم البلاد. أثمرت تجربة نشر الصحف في العالم الإسلامي عن رفع نسبة الوعي الشعبي بالأحداث الجارية، والحرص على الإلمام بجديدها.
نأتي إلى مسألة التعليم، فبعد أن اقتصر التعليم في السابق على العلوم الدينيَّة، ظهرت الحاجة إلى الإلمام بعلوم أخرى، ما استدعى الاستعانة بوسائل تعليميَّة جديدة، وتدريب المعلِّمين عليها. بعد تأسيس مدارس جديدة لسدِّ تلك الحاجة، تطلَّب الأمر إعداد جيل جديد من المعلِّمين يتَّبع الوسائل الغربيَّة في التدريس. وبالتدريج، فقد رجال الدين سطوتهم. نذكِّر هنا بدور الأكاديميَّات العلميَّة الإرساليَّة في المطالبة بتغييرات جذريَّة في نظام الحكم في الدولة العثمانيَّة، والتي أشهرها كليَّة روبرت التي خرَّجت زعماء حركة تركيا الفتاة. نظَّم الشباب الأتراك مظاهرات جابت العاصمة للمطالبة بالحريَّة والمدنيَّة، وانضمَّ إليهم المتعلِّمون في الخارج، ليُحدثوا حالة من الفوضى أسهمت في بلبلة النظام الحاكم، ودقَّت مسمارا جديدًا في نعش الخلافة.
على مدار زمن طويل، وفدت أيديولوجيَّات التغيير ضد الحكام الظالمين، من خلال الإصلاح أو الثورة، من أوروبا، وعلى يد الطلاب الدارسين في الخارج، والدبلوماسيِّين والمنفيِّين (ص133). أدخلت أوروبا على العالم الإسلامي مفاهيم الوطنيَّة والليبراليَّة خلال القرن التاسع عشر؛ وبعد أنَّ أدَّت تلك المفاهيم مهمتها واختفت، ظهرت مفاهيم جديدة في القرن العشرين، منها الفاشيَّة والشيوعيَّة. أحدثت تلك المفاهيم تغييرات جذريَّة في العالم الإسلامي، وقلبت موازين القوى. مع ذلك، فالضعف، والتبعيَّة الاقتصاديَّة، والتخلُّف عن الأمم المتقدِّمة لم تزل سمات هذا العالم؛ أي أنَّ اتِّباع النسق الغربي في تصريف الشؤون الحياتيَّة لم يأتِ بالتقدُّم، إنَّما بالتأخُّر، ولا شكَّ أنَّ التخلِّي عن العمل وفق صحيح الإسلام كان له عظيم الأثر في حالة التردِّي التي تعيشها الأمَّة (ص133).
يختتم لويس مقاله بالإشارة إلى حقيقة في غاية الأهميَّة، وهي استقرار ملايين المسلمين-عربًا وعجمًا-في أوروبا والولايات المتحدة لأجيال، ونجاح هؤلاء في التعايش السلمي مع غير المسلمين، وتأسيسهم حياة مهنيَّة واجتماعيَّة مثمرة، لأول مرة منذ انسحاب المسلمين عبر مضيق جبل طارق إلى موطنهم. لا يمكن تجاهُل حقيقة أنَّ هؤلاء المسلمين تربطهم بموطنهم الأصلي آلاف الروابط، من لغة وثقافة وعلاقات أسريَّة و-قبل كلِّ شيء-دين. ويرى لويس أنَّ لوجود هؤلاء وأبنائهم وأحفادهم تداعيات في غاية الأهميَّة بالنسبة إلى أوروبا وأمريكا. ما يقصده المستشرق الأشهر في العالم أنَّ تجربة هؤلاء هي نموذج لحياة المسلمين تحت حُكم غير المسلمين، بقبول شروط الغرب للبقاء في جنَّـته واتِّباع إملاءاته، ولو على حساب الانتماءات الأصليَّة لهؤلاء، وبخاصة الدينيَّة. ساير المهاجرون الغرب وخضع لمتطلبات الحياة فيه؛ فحقَّقوا المنفعة الماديَّة المرجوَّة، وهربوا من كابوس العوز والتأخُّر في بلادهم، غير مدريكن أنَّ تسلُّط الغرب على العالم الإسلامي هو سبب ما هربوا منه في بلادهم، وأنَّ ما اكتسبوه مجرَّد ماديَّات جذبتها إليهم شهوة النفس. ليس من المستبعد أن يصبح المهاجرون المسلمون ورقة ضغط يستغلُّها الغرب مستقبلًا لدفع ذويهم في بلاد العالم الإسلامي لاعتناق قيم الغرب على حساب دينهم، ولنقْل تجارب الغرب إلى العالم الإسلامي لإغراء المتلهِّفين إلى الكسب المادي باغتنام كلِّ فرصة تُرضي اليهود والنصارى.
أهم رسائل لويس في هذا المقال سعي المسلمين منذ بداية البعثة النبويَّة التوسُّع في العالم الغربي، وفشلهم في ذلك عُقدة لن تُحلَّ سوى بتحقيق ذلك الهدف، النابع في الأصل من نبوءاتهم الدينيَّة. ويرى الكاتب أنَّ المسلمين قد نجحوا في الاستقرار في الغرب لمَّا أرضوا الغربَ عنهم وانصاعوا لمعايير الإقامة والعمل فيه. وما يعنيه ذلك أنَّ الإسلام بعقائده لا يصلح للتعايش مع الغرب، ولا يمكن أبدًا تحقيق السلام بين العالمين الإسلامي والغربي سوى من خلال التخلُّص من أي عقائد تزرع الشقاق بين الطرفين.
المصدر: رسالة بوست