كتب وبحوث

أبعاد المؤامرة العالميَّة لتنصير العالم الإسلامي 3 من 8

أبعاد المؤامرة العالميَّة لتنصير العالم الإسلامي 3 من 8

إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن

علاقة الإرساليَّات بنشأة إسرائيل

يشير باريت (2012) إلى أنِّ الإرساليَّات لم تلعب دورًا فاعلًا في فلسطين سوى بعد الحرب العالميَّة الثانية عام 1945 ميلاديًّا، حيث مُنيت التجارب الأولى قبل قرن من ذلك الزمن بالفشل نتيجة الاستجابة المحدودة. غير أنَّ الجمعيَّة المعمدانيَّة الجنوبيَّة قد أصدر قرارها عام 1896 ميلاديًّا-عام قبل المؤتمر الصهيوني الأوَّل-ببعث إرساليَّة معمدانيَّة إلى فلسطين، معتبرةً ذلك أمرًا مُلحًّا. ويُعتبر الفلسطيني شكري موسى، ابن مدينة الناصرة، الذي اعتنق المذهب المعمداني أثناء دراسته في أمريكا، من أوائل مَن باشروا مهمَّة التَّبشير، وقد خلفه أحد أبناء إخوته بعد رحيله عام 1928، عامان بعد تأسيس الكنيسة المعمدانيَّة في الناصرة. واستكمالًا لجهود موسى، وفَد المعمدانيَّون إلى فلسطين في ثلاثينات القرن الماضي، ليباشروا بناء الكنائس المعمدانيَّة ومدرسة الناصرة المعمدانيَّة. غير أنَّ اندلاع الحرب العالميَّة الثانية قد عطَّل أعمال المبشِّرين وأجبرهم على العودة إلى أمريكا.

ويلقي الباحث الضوء على حقيقة أنَّ المسيحيَّة الصهيونيَّة قد تلقَّت دعمًا من المحافظين في إسرائيل. يضرب الباحث المثل في ذلك بالقسِّ الأمريكي جيري فالويل، الذي دعاه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق مناحيم بيجن-مؤسس حزب الليكود-إلى إسرائيل عام 1978 ميلاديًّا، ومنحه عام 1980 وسام جابوتنسكي تقديرًا لصداقته مع إسرائيل، وأهداه طائرةً خاصَّةً. نال فالويل حفاوة مماثلة من رؤساء الحكومات التالين، وعلى رأسهم إسحق رابين، وآرييل شارون، وبنيامين نتنياهو، الذي دعا عام 1996 مجموعة من الزعماء المسيحيِّين إلى إسرائيل للتعبير عن دعمهم لإسرائيل وإطلاق حملة إعلانيَّة لأورشليم موحَّدة تحت زعامة إسرائيليَّة. وقد أثنى نتنياهو في خطاب ألقاه ضمن فعاليَّات قمَّة أورشليم التي عقدتها منظَّمة مسيحيُّون متَّحدون من أجل إسرائيل (CUFI) على جهود أتباع المسيحيَّة الصهيونيَّة، معتبرًا أنَّ جهودها سابقة على جهود الصهيونيَّة اليهوديَّة، بل ومكَّنت لها. ويُنسب إلى نتنياهو وإيهود أولمرت-رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق-ثناؤهما على أقطاب الفكر المسيحي الصهيوني، على اعتبار أنَّهم هم من تحمَّلوا مسؤوليَّة شرح القضايا الحاسمة التي تواجه إسرائيل للملايين من المسيحيِّين. ومن بين مهام هؤلاء بلا شكِّ تبرير أفعال الحكومة الإسرائيليَّة؛ فعلى سبيل المثال، استعان بيجن عند ضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981 ميلاديًّا بالقس جيري فالويل في إقناع الرأي العام بضرورة الفعل. أضف إلى ذلك، جمع القساوسة البروتستانت ملايين الدولارات تبرعاتٍ لنُصرة قضيَّة إسرائيل، هذا إلى جانب عائدات السياحة الدينيَّة، حيث يشكِّل الحجاج المسيحيُّون ثُلُث عدد السائحين الوافدين إلى إسرائيل، ويلعب القساوسة دورًا بارزًا في إقناع معتنقي العقيدة الصهيونيَّة بهذه الزيارة، وإن لم يكن كافَّة السائحين المسيحيِّين يؤمنون بتلك العقيدة.

وتستمد الإرساليَّات ثقتها في الانتصار الماحق في النهاية برغم الصعوبات والإخفاقات وحالات الفشل من إيمانها العميق بقُرب عصر الهيمنة المسيحيَّة العالميَّة، مع قُرب ألفيَّة المسيح. وبرغم أنَّ نبوءات آخر الزمان هي المرجعيَّة الأساسيَّة لجهود التَّبشير، فإنَّ الجهود المبذولة في فلسطين لم تتغيَّر في طبيعة الاستراتيجيَّات المتَّبعة هناك؛ والسبب في ذلك هو ندرة حالات التحوُّل إلى المسيحيَّة، فأدرك المبشِّرون أنَّ الأهم هو كسب ثقة المسلمين وتكوين صداقات معهم، على أن تسبق تلك الخطوة الدعوة إلى المسيحيَّة. يذكر الباحث بالنص “بناء الصداقة والثقة، على سبيل المثال، بين المسيحيِّين وغيرهم يُعتبر خطوة أوَّليَّة حاسمة في مشاركة الإنجيل” (باريت، 2012، ص109).

يرى باريت (2012) أنَّ العديد من الأفكار المرتبطة بفترة ما قبل الألفيَّة تسرَّبت إلى الثقافة الأمريكيَّة، وربَّما هذا ما يدفع الكثيرين إلى تأييد دولة إسرائيل، على اعتبار أنَّها ستشهد أحداث نهاية العالم، وستحتضن المخلِّص وأتباعه في عصر ذهبي لم يُرى مثله. ويقدِّم الكاتب جون هاجي-أحد أشد المدافعين عن المسيحيَّة الصهيونيَّة-نموذجًا معبِّرًا عن هذا الفكر. ذكر هاجي في كتابه العد التنازلي لأورشليم: تحذير إلى العالم- Jerusalem Countdown: A Warning to the World (2006) أنَّ الحرب الأخيرة على أورشليم أوشكت، وهي حرب عالميَّة ستؤثِّر على العالم بأسره. دعا هاجي إسرائيل إلى عدم منح الفلسطينيِّين أدنى مساحة من الأرض حتَّى يبرهنوا على نيَّتهم العيش في سلام إلى جانب الإسرائيليِّين؛ ويجب قبل كلِّ شيء تخلِّي كافَّة المنظَّمات الإرهابيَّة المتستِّرة بغطاء فلسطيني عن السلاح.

يضيف هاجي في كتابه العد التنازلي لأورشليم (2006) “الربُّ يتوعَّد الأمم التي تعادي إسرائيل؛ أمريكا، العرب، الاتحاد الأوروبي، الأمم المتَّحدة، روسيا، الصين-بالطبع كافَّة الأمم-في وادي القضاء. أي أمَّة تحسب أنَّها يمكنها التدخُّل في خطَّة الربِّ تجاه إسرائيل، بما في ذلك الولايات المتَّحدة، لا تقف أمام إسرائيل فحسب، إنَّما (تقف) في الأساس أمام الربِّ. يبعث الربُّ أمم العالم على أساس معاملتها دولة إسرائيل” (ص201).

ويصل الأمر بالكاتب الأمريكي مايكل دي. إيفانز، وهو مؤلِّف وصحافي ومعلِّق يترأس العديد من المؤسَّسات غير الربحيَّة ويعتنق المسيحيَّة الصهيونيَّة، إلى حدِّ الزعم بأن الرخاء الاقتصادي الأمريكي مرتبط بمدى مساندة الإدارة الأمريكيَّة دولة إسرائيل. يذكر إيفانز في كتابه النبوءات الأمريكيَّة- The American Prophecies (2004) أنَّ الكساد الأعظم الذي أصاب بلاده في ثلاثينات القرن الماضي كان عقابًا على معاداة الساميَّة، مشيرًا في سياق آخر إلى أنَّ أحداث 11 سبتمبر ما كانت لتقع لو أنَّ الأمريكيِّين لم يتخلُّوا عن الوضوح الأخلاقي.

يتناول الكاتب جويل روزنبيرغ-يهودي الأصل-في كتابه مركز الزلازل-Epicenter (2006)، ويقصد بمركز الزلازل منطقة الشرق الأوسط، نبوءة الكتاب المقدَّس عن حشد روسيا وإيران القوى للهجوم على إسرائيل في آخر الزمان. يتحدَّى الكاتب النبوءة، مطالبًا الولايات المتَّحدة بعدم الوقوف مكتوفة الأيدي في انتظار القدر الإلهي، وداعيًا إلى منع إيران امتلاك سلاح نووي. ويتفق مايك إيفانز مع روزنبيرغ في ذلك، ويرى أنَّ الولايات المتَّحدة يمكنها اختيار التحالف المناسب لها في آخر الزمان، والاصطفاف إلى جانب إسرائيل في حربها المقدَّسة.

يستنتج الباحث أنَّ المنظور الإنجيلي تجاه الشرق الأوسط متأثِّر بعقيدة ما قبل الألفيَّة، التي تعتقد أنَّ معاهدةً-لتقل صلحًا-ستُبرم بين إسرائيل وضدِّ المسيح لوقف الحرب، لكنَّها ستُنتهك من خلال هجوم مباغت. من اللافت أنَّ مضمون هذه النبوءة يتشابه مع ما جاء في الحديث الصحيح عن رسول الله (ﷺ) والوارد في مسند الإمام أحمد، وسنن أبي داود، وسنن ابن ماجه، والمستدرك على الصحيحين “ستصالحون الروم صلحاً آمناً فَتَغْزونَ أنتم وهم عدواً من ورائهم فَتَسْلَمُونَ وَتْغنَمون ثم تَنْزِلونَ بمَرْجٍ ذي تَلُولَ فيقوم رجل من الروم فيرفع الصليب ويقول: غَلَبَ الصَّليب فيقوم إليه رجل من المسلمين فَيَقْتِلُه فيغدر الروم وتكون الملاحم فيجتمعون لكم في ثمانين غاية مع كل غاية اثنا عشر ألفًا”. لا شكَّ في أنَّ مضمون الحديث متقارب مع مضمون النبوءة الإنجيليَّة، لكنَّ الفئة الباغية عكس الأخرى في كلٍّ؛ ولا شكَّ كذلك في أنَّ ضد المسيح هو إمام المسلمين في هذا الحين، لكنَّ الغادر هو الروم وفق معتقد المسلمين، في ضوء الحديث المذكور.

موقف الإرساليَّات من دولة إسرائيل

عاد المبشِّرون إلى فلسطين بعد انتهاء الحرب، وعمدوا إلى بناء مزيد من المؤسَّسات الداعمة لمساعيهم، واستهدفت تلك المؤسَّسات تقديم خدمات الدعم الصحي والتنمية المحليَّة. ولم تثمر جهود التَّبشير على مدار ستة عقود عن نسبة تُذكر من المتحوِّلين إلى المسيحيَّة، كما أنَّ غالبيَّة البروتستانت من الفلسطينيِّين يهاجرون إلى بلدان أخرى لتفادي صعوبات الحياة في موطنهم الأصلي.

وانقسمت مواقف الإرساليَّات حيال دولة إسرائيل والمسيحيَّة الصهيونيَّة ما بين الانتقاد والتأييد. طالبت الجمعيَّة المعمدانيَّة الجنوبيَّة بموقف محايد تجاه القضيَّة، وكذلك أبدت كليَّة بيت لحم للكتاب المقدس تأييدها المستمر للفلسطينيِّين، وتفرَّغت لتدريبهم على مقاومة الظلم من خلال نبْذ أشكال العنف كافَّة باتِّباع نهج استراتيجي روحاني. ومؤسس كليَّة بيت لحم هو بشارة عوض، فلسطيني الأصل، أمريكي المولد، وُلد لأم تحوَّلت إلى المسيحيَّة بتأثير من إحدى الإرساليَّات الأمريكيَّة. عاد عوض إلى فلسطين للمشاركة في جهود التَّبشير بعد تلقِّيه التعليم اللاهوتي اللازم. وقد عبَّر أخوه أليكس عوض، عضو مجلس إدارة كليَّة بيت لحم وصاحب جهود تبشيريَّة مشابهة، في كتابه من خلال أعين الضحايا: قصَّة الصراع العربي الإسرائيلي- Through the Eyes of the Victims: The Story of The Arab-Israeli Conflict (2001)، عن معاناة الشعب الفلسطيني، مطالبًا بمساندتهم في تأسيس دولته، ومنتقدًا سلبيَّة مشاعر مسيحيِّي الغرب تجاه حقوقه.

وقد عقدت كليَّة بيت لحم للكتاب المقدَّس عام 2010 ميلاديًّا مؤتمرًا أطلقت عليه “المسيح عند الحاجز-Christ at the Checkpoint” لمناقشة مسألة حاسمة، وهي كيف ينبغي على أتباع المسيح الاستجابة إلى الصراع السياسي متعدِّد الأوجه؟ وقد مُنح المؤتمر دعمًا من شخصيات مسيحيَّة بارزة في المجتمع الأمريكي، وشهد مشاركة عدد كبير من الإنجيليِّين الأمريكيِّين، وقد خرج المؤتمر بأربعة أهداف أساسيَّة: 1-تمكين الكنيسة الفلسطينيَّة وتشجيعها؛ 2-فضح حقيقة الظلم على الأراضي الفلسطينيَّة ونشر الوعي بالعوائق في طريق المصالحة وإحلال السلام؛ 3.تكوين منصَّة للتعامل الجاد مع أقطاب المسيحيَّة الصهيونيَّة، وفتح مجال للحوار المستمر في إطار العقيدة الإنجيليَّة؛ 4.تشجيع المشاركين على الدفاع عن مساعي المصالحة التي تبذلها الكنيسة الفلسطينيَّة/الإسرائيليَّة، وتبعات ذلك على مستوى الشرق الأوسط.

وتجدر الإشارة هُنا إلى مثال ساقه الكاتبين مصطفى خالدي وعُمر فرُّوخ في كتابهما التَّبشير والاستعمار في البلاد العربيَّة (1953) آنف الذِّكر، عن تحيُّز المؤسَّسات الإنسانيَّة الغربيَّة التابعة للإرساليَّات في تقديم خدماتها، وهو ما فعله الصليب الأحمر خلال حرب فلسطين عام 1948 ميلاديًّا. ويستشهد الكاتبان بمقال نشرته جريدة الديار في عددها 1628، الصادر في 7 يوليو من عام 1948، وفيه يحتجُّ الدكتور جورج حنَّا، رئيس لجنة إغاثة فلسطين في بيروت وعضو جمعيَّة الصليب الأحمر اللبناني. كان عنوان المقال “حتَّى الصليب الأحمر الدولي يتحيَّز لليهود”. جاء في نصِّ المقال الموجَّه إلى رئيسة جمعيَّة الصليب الأحمر اللبنانيَّة “أتقدَّم بالشكوى المرَّة من الإهمال الذي يبديه الصليب الأحمر الدولي تجاه المستشفى (مستشفى الصليب الأحمر اللبناني في عكَّا) … وفيما نرى الصليب الأحمر الدولي يُعنى بتموين ورعاية الجرحى واللاجئين والمحاصرين من اليهود فهو يتظاهر بالعجز عن مساعدة مستشفى الصليب الأحمر اللبناني. إنَّ جميع المعلومات التي وصلتنا من مصادر لا يُشك بثقتها تدل على أنَّ الأشخاص العاملين في مستشفى الصليب الأحمر اللبناني في عكَّا والمحجوزين فيها يقاسون العذاب والحرمان، وأنَّ أولئك الأبطال الإنسانيِّين مهملون من قِبل الصليب الأحمر الدولي المفروض فيه أن يكون عونًا لهم. فالصليب الأحمر الدولي، على ما أعلم، مؤسَّسة إنسانيَّة عالميَّة لا تقرِّق بين الجهات المختلفة، ولو كانت متحاربة.“

ومن الملفت أنَّ الدكتور جورج حنَّا لم يكن الوحيد ليقدِّم احتجاجًا على أوضاع عكَّا إبَّان حرب عام 1948؛ إذ احتجَّ المطران جاورجيوس حكيم-مطران عكَّا وحيفا والناصرة وسائر منطقة الجليل لطائفة الروم الكاثوليك-وفق ما نشرته مجلَّة كل شيء اللبنانيَّة، في عددها 68 الصادر في 9 يوليو من عام 1948 ميلاديًّا في صفحتها الأولى. وجاء في نص احتجاج المطران حكيم عن حالة عكَّا “إِنَّ حالَتَهَا تُدْمِي الفُؤَادَ إِذْ أَنَّ العَرَبَ فِيهَا، وَعَدَدُهُمْ ثَلاثَةً آلافِ عَرَبِيَّ تَقْريبًا مَحْصُورُونَ بَيْنَ أَسْوَارِ البَلْدَةِ القَدِيمَةِ وَحالَتُهُمْ الصِّحِّيَّةُ وَالغِذَائِيَّةُ سَيِّئَةٌ لِلْغَايَةِ. وَقَضَاءُ عَكَّا فِي حالَةٍ يُرْثَى لَهَا، فَالعَرَبُ البَاقُونَ فِيهِ يُعَامَلُونَ كَالحَيَوَانَاتِ لاَ يَهْتَمُّ بِهِمْ أَحَدٌ وَلاَ يَجِدُ مُعَظَمُهُمْ مَسْكَنًا أَوْ مَأْوَى، كَمَا لاَ يَجِدُ مَرَضَاهُمْ أَيَّ نَوْعٍ مِنَ العِنَايَةِ… آسَفُ أَنْ يَعْمَلَ الصَّلِيبُ الأَحْمَرُ الدَّوْلِيُّ تَحْتَ رَايَةِ الصَّلِيبِ.” ويبدو أنَّ الطبيب جورج حنَّا والمطران جاورجيوس حكيم أرادا التعبير عن تعاطفهما مع مسلمي فلسطين، ومدَّ يد الصداقة، متبرِّئين ممَّا فعله مسيحيُّون غيرهما باسم الصليب لتأسيس دولة ممهِّدة لاستقبال المخلِّص.

المبشِّرون والمستشرقون: دعاة للتَّحديث أم للخضوع إلى قوى الاستعمار؟

في كتابه المبشِّرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام، يطلق الدكتور محمد البهي-وزير الأوقاف المصري الأسبق-على ناشري الثقافة المضادَّة لصحيح الإسلام “عملاء التَّبشير والاستشراق“، ويصفهم بأنَّهم “عملاء الاستعمار في مصر والشرق الإسلامي…الذين درَّبتهم دعوة التَّبشير على إنكار المقوَّمات التاريخيَّة والثقافيَّة في ماضي هذه الأمَّة، وعلى التنديد والاستخفاف في صورة البحث، وعلى أساس من أسلوب الجدل والنقاش في الكتابة أو الإلقاء عن طريق المحاضرة أو الإذاعة”. (ص1). يُزعم أنَّ الإسلام هو سبب تأخُّر الأمَّة؛ ولذلك، هناك اتجاه إلى “التنفير من حياة المسلمين الحاضرة؛ لأنَّها حياة بدائيَّة ذليلة”، على حدِّ وصف البهي (ص2).

ويستشهد البهي بما جاء في مقالٍ نشرته مجلَّة العالم الإسلامي-Muslim World عام 1930 ميلاديًا بعنوان The political geography of the Mohammedan world-الجغرافيا السياسيَّة للعالم المحمِّداني ما يعني “إنَّ شيئًا من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي. ولهذا الخوف أسباب، منها: أنَّ الإسلام منذ أن ظهر في مكَّة لم يضعف عدديًّا، بل دائمًا في ازدياد واتِّساع. ثمَّ إنَّ الإسلام ليس دينًا فحسب، بل إنَّ من أركانه الجهاد. ولم يتَّفق قط أنَّ شعبًا دخل في الإسلام ثمَّ عاد نصرانيًّا” (ص6-7). أراد الغرب المسيحي الثأر لهزيمته وفشل الحملات الصليبيَّة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر، على يد الفتح الإسلامي منذ معركة حطِّين عام 1187 ميلاديًّا. وتجدر الإشارة إلى أنَّ مجلَّة العالم الإسلامي-Muslim World هي أخطر مجلَّة تبشيريَّة، وفق وصْف الدكتور البهي، ويكف أنَّ مؤسسها هو أشهر مبشِّري القرن العشرين، صمويل زويمر، المعروف بطعنه الحاد في صحيح الإسلام. لم يسعَ التَّبشير إلى توهين المسلمين من خلال الدعوة المباشرة إلى تركهم دينهم واعتناق المسيحيَّة، إنَّما من خلال إفساد الدين والحط من قيمته في نفوسهم؛ ومن ثم يصبحون أكثر استعدادًا لتلقِّي أي عقيدة أخرى، فما بالك لو عقيدة سماويَّة يُتَّهم الإسلام بأنَّه نسخة مشوَّهة منها؟!

أمَّا عن مدى التقارب بين التَّبشير والاستشراق، يرى الدكتور البهي أنَّ “كلاهما دعامة الاستعمار في مصر والشرق الإسلامي، فكلاهما دعوة إلى توهين القيم الإسلاميَّة، والغضِّ من اللغة العربيَّة، وتقطيع أواصر القربى بين الشعوب العربيَّة، وكذا بين الشعوب الإسلاميَّة، والتنديد بحال الشعوب الإسلاميَّة الحاضرة، والازدراء بها في المجالات الدوليَّة العالميَّة” (ص1).

ويروي القسُّ السابق المهتدي إلى الإسلام إبراهيم خليل أحمد في كتابٍ يحمل شهادته على عالم التَّبشير المستشرقون والمبشِّرون في العالم الإسلامي (1964) رحلته من مهاجمة الإسلام بنشر أبحاثٍ تطعن في القرآن الكريم إلى اعتناق الإسلام؛ والعجب أن يكون سبب الاهتداء هو فواتح سورة الجنِّ. قرر خليل الالتحاق بكليَّة اللاهوت الإنجيليَّة بعد ما رآه من أهوال الحرب العالميَّة الثانية، فأراد أن يسلك طريقًا صحيحا لنشر السلام. لا تخضع تلك الكليَّة لإشراف الحكومة المصريَّة، إنَّما جامعة برنستون الأمريكيَّة، ومعظم أساتذتها كانوا من الأمريكيِّين. وأهم المواد المقررة: الإنجليزيَّة (أدب وقواعد)، العربيَّة (القرآن الكريم والأحاديث وطعن المستشرقين في الإسلام، إلى جانب الآراء الفقهيَّة)، اليونانيَّة (قراءة الأناجيل)، العبريَّة (قراءة العهد القديم)، مقارنة الأديان، تفسير الكتاب المقدَّس، الفلسفة (مفهوم الألوهيَّة)، وتاريخ الكنيسة. برغم نجاحه الباهر في جهوده، وتهافُت الإرساليَّات الغربيَّة على الاستعانة به في مدارسهم في صعيد مصر، وبرغم استعداده لإعداد رسالة علميَّة في مهاجمة القرآن الكريم، وجد خليل في نفسه شغفًا بالقرآن الكريم. وكانت مسألتا الوحدانيَّة والغفران في الإسلام المسيحيَّة ما أغراه بترك دين آبائه والدخول في الإسلام.

يحتاج العمل التَّبشيري، على حدِّ وصْف خليل (1964)، إلى حماية عسكريَّة، خشية أن يتعرَّض المبشِّرون إلى انتهاكات من الملتزمين دينيًّا في البلدان التي يقصدونها. وعادةً ما كانت الإرساليَّات تصاحب القوى الاستعماريَّة وتخضع لرعايتها وحمايتها. أمَّا في البلدان المستقلَّة، فالتَّبشير يتولَّاه أبناء الوطن أنفسهم، حتَّى لا تُجبرهم أيَّة قوانين على مغادرة البلاد، أو أيَّة معوقات تفرضها الجنسيَّة الأجنبيَّة. ويُلحق بالمؤسَّسات التَّبشيريَّة-كاثوليكيَّةً كانت أم بروتستانتيَّة-مطبعة لنشر كتب تتناول التراث الإسلامي بالهجوم والتشكيك. ويتولى عمليَّة إعداد المنشورات دارسو الثقافة الشرقيَّة والثقافة الإسلاميَّة في الجامعات الأوروبيَّة، سواءً من الغربيِّين أو المواطنين المحلِّيِّين. وكان يُشرف على أعمال التَّبشير البروتستانتيَّة الأمريكي كينيث كريج، وكان شديد التعصُّب ضد الإسلام، ودرَّس لفترة في الجامعة الأمريكيَّة بالقاهرة، وقد تولَّى مهمته بعد تركه مصر القسُّ صمويل زويمر، أشهر مبشِّري القرن العشرين.

وأكثر ما يركِّز عليه المبشِّرون في حربهم على الإسلام ادِّعاء أنَّ القرآن الكريم موضوع، وليس منزَّل من السماء، وأنَّ الفلسفة الإسلاميَّة ليست إلَّا تقليد للفلسفة الإغريقيَّة يتَّفق مع نصِّ القرآن. وهناك جهود متواصلة تسعى إلى إحياء الشعوبيَّة والقوميَّات، مثل الفرعونيَّة في مصر، والآشوريَّة في العراق، والبربريَّة في شمال أفريقيا، والطورانيَّة في تركيا. وقد وصل الأمر إلى الدعوة إلى الكتابة بالعاميَّة في كلِّ دولة عربيَّة تختصُّ بلهجة للغة، وكان المستشرق الفرنسي ماسينيون هو أول من دعا إلى ذلك، لكنَّ دعوته فشلت. وبالنسبة إلى مصر، تسبَّب هذا الاتِّجاه إلى إحياء القوميَّات في تأسيس جماعة دينيَّة مسيحيَّة أطلقت على نفسها “جماعة الأمَّة القبطيَّة”، وقد طالبت تلك الجماعة بالإصلاح الكنسي؛ فاختطفت بطريرك الكنيسة المصريَّة يوساب الثاني، وأراد أعضاء الجماعة قتله بعد أن أجبروه على التوقيع على مطالبهم الإصلاحيَّة، لكنَّ مخططهم فشل بفشل مخطط قتل البطريرك.

يجري توجيه الرأي العام العربي بطريقتين: 1-الاستعانة بدارسي الاستشراق والتَّبشير “عملاء الاستعمار“، على حدِّ وصْف خليل (1964)، من مواطني الاستعمارات السابقة المحلِّيِّين، ممن تشرَّبوا الفكر الغربي وصار يشكِّل توجُّهاتهم، بل وآمنوا بعقائد الغرب لدرجة المشاركة في نشرها، برغم معارضتها الصارخة لصحيح الإسلام (ص80). 2-توظيف المتخصِّصين في الدراسات الشرقيَّة لتنفيذ مهمَّة الطعن في الإسلام بطرق علميَّة تنصف المسيحيَّة على حسابه. تتلخَّص عمليَّة توجيه الرأي العام في استغلال الدارسين في الغرب من أبناء المسلمين في رسم صورة إيجابيَّة للحضارة الغربيَّة، ونشر الشعور بمدى النفع العائد على الأمَّة باتِّباع نهج الغرب، أملًا في تحقيق ما حقَّقه من تقدُّم مذهل في سائر المجالات. وتحت هذا الغطاء، يعمل العائدون من البعثات الأجنبيَّة على الإقرار بسياسة المستعمر، وأحقيَّته في تولِّي زمام الأمور في بلدان تحتاج إلى دَفعة اقتصاديَّة وحضاريَّة. وهكذا، يظهر المستعمر في صورة المعاون الحريص على مصلحة الشعوب، وبالتالي أيُّ معارضة لمساعيه إجحاف ينبغي المقاومة.

المصدر: رسالة بوست

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى