أبجديات النقد… سيد قطب مثالًا
بقلم د. ليلى حمدان
تعاني الساحة الفكرية في عصرنا اليوم من فوضى الأحكام، تلك الأحكام التي نلقي بها كحد المقصلة على كل شخص أخطأ يومًا أو عُرفت له كبوة. وما يزيد من الأزمة عمقًا، أن الكثير من الخير قد تحجبه تلك الغيوم من العقلية المتحجرة التي لا تقبل أن تنصف النفس البشرية، لا ترى إلا السواد وتكتفي به، وإن كانت زاوية ما من سجِل ذاك المنتقَد تشع نورًا وحكمة.
وكأنها لم تقرأ يومًا ﴿وَلَا يجرمنكم شنئآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى﴾.
وما يجعل هذا الطرح أكثر إلحاحًا أن تنال هذه الظاهرة من أهل العلم ودعاته، فتتصدع قواعد الجرح والتعديل، وينسف العدل في لُجّةِ الغلو في الأحكام والتمادي في التهميش.
ولا شك أن سيد قطب، كعلم من أعلام هذه الأمة، قد ناله ما ناله من هذه الظاهرة التي استعانت بها الحزبية المقيتة والتبعية المشينة في الإقصاء الإجباري، كوسيلة جبانة تتهرب بها من مواجهة الحق الذي معه.
ورغم أن أثر الرجل لا يمكن أن يهمش أو يستهان به، وتكفي شهادات كبار أهل العلم والقامات السامقة من أعلام الأمة فيه، إلا أن بعض العقليات ترفض أن تنصف الرجل الذي قضى نحبه مجندلًا بحبال الطاغوت لأجل كلمة (لا إله إلا الله) كما نحسبه. وتوارثت مواقفَ عطائه وثباته الأجيال، مصرةً -للأسف- على قبر كل خير تركه خلفه، وحرمانه حقه في الإعذار.
أبجديات النقد
وهنا سنضع بعض النقاط التي يجب على كل عاقل باحث عن الحقائق الارتكاز عليها كي يخرج ببناء سليم لا يظلم فيه أحدًا، ويستخرج الخير من مكمنه، ويحايد الباطل مهما كان متشبثًا؛ لننعم بتقييم عدل حين نتعامل مع نفوس بشرية مؤمنة برزت في ساحات الجد والعمل.
وأولها النظر في بحر ميزان الحسنات والسيئات، في أقوال الرجل وأحواله، ثم القياس بإنصاف أيهما أغلب. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى:
إذا اجتمع في الرجل: خير وشر، وطاعة ومعصية، وسنة وبدعة، استحق من الموالاة بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة بحسب ما فيه من الشر: كاللص الفقير تُقطع يده لسرقته، ويُعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته.
وقبل الحكم على قول له أو فعل صدر منه لابد من النظر أولًا بنفس متجردة من كل استباقية في الأحكام، أو هوى، أو تحامل، وأن يشيح المنصف بنظره عن كل سوابق في الحكم قد يبني عليها من جديد ذات النتائج، وكيف لا تكون الأحكام مجحفة وقد تأثرت بنفس الخلفية السوداء؟! بل لابد أن نعيد البناء على أرض سليمة صلبة جديدة.
ثم النظر في سيرة الرجل كاملة، هل تراجع عما يُعاب عليه، هل تاب منه، هل اعترف بتقصيره في هذا الأمر، ثم التوبة تجب الذنب. ولا يمكن أن نحاسب تائبًا على خطأ رجع عنه وننسف كل خير بناه بعده، فهذا ليس من العدل، ﴿ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم﴾. ويدخل في هذا، النظر في تطور فكره ومراحل تحصيل معرفته، فالإنسان لا يولد عالمًا، وإنما العلم بالتعلم، وغالبًا ما تكون البدايات مضطربة، ولكن الخطوات تتزن أكثر مع التقدم في العمر والخبرة وسعة الاطلاع. ولهذا نجد الكثير من أعلام الأمة قد تصيب الركاكة -بل وحتى الضلال- بعض مؤلفاتهم الأولى، لكن ما تلبث أن تبهرنا خواتيم أعمالهم بمتانة في الطرح واتزان لا يختلف في الإعجاب به عاقلان.
كما يدخل فيه الظروف التي مر بها الرجل، هل كان في سجن أو تحت تهديد؟ هل مر بظرف قاسٍ أثر في نفسيته؟ هل انتمى لحزب شوش عليه؟ فقد خُلق الإنسان ضعيفًا، ومن الظلم أن نحكم دون أن نتبين الظروف التي أدت إلى النتائج المحكوم عليها.
كذلك ألا يكون الحكم لحظيًا متوقفًا على اقتباس مبتور أو تعبير قاصر قد خانت صاحبه قريحته أو معرفته في إجادة سبكه، بل ينظر إلى مجمل اعتقاده والمواطن التي تدفع عنه المتشابهات واللبس ومواقف الضبابية.
ولا يحكم عليه بالاعتماد على أقوال أعداء الإسلام فيه أو خصومه، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما “لا تقبل شهادة ظنين ولا خصم”[1]، ولينظر بدلًا من ذلك في آراء أهل العلم فيه ممن اشتهروا بالعدالة والعلم.
ولو طبقنا هذه القواعد في الحكم على الكثير من أعلام هذه الأمة سنجد الإنصاف أظل أغلب أحكامنا والعدالة وسعت الكثير من إخواننا، ولا شك أن سيد قطب كان أحد الذين ظُلموا بشدة بسبب التقصير في الأخذ بأبجديات النقد؛ لأسباب لم تعد خافية على متابع باحث.
انتقاد لا هدم
لا عصمة في الإسلام إلا لنبي، ولا يمكن أن نرفض نقدًا إن كان مبنيًا على حسن نية وقصد وحجة ودليل، لكن حين يكون النقد لمجرد الهدم والإقصاء التام وكفران الخير الذي يحمله أحدهم، فهذا يدفع لطرح التساؤلات، وهو تمامًا ما يدفعنا لطرحها حين نشاهد كيف يُنتقد سيد قطب، وتثار زوابع البغض والتغريب اتجاهه.
ولو نظرنا بتجرد لوجدنا أغلب من انتقد سيد قطب هم من خدم طواغيت الحكم المعاصرين، والمطبلين للأنظمة الفاسدة وقادتها المستبدين، ثم المروجين لتيارات التغريب وأتباع الغرب المهووسين ومن تأثر بدعاويهم بجهل أو غفلة، الذين يضيقون ذرعًا بكل كتابات تحض على تحكيم الشريعة أو على الجهاد، أو تمجد خط الثبات على الدين، والعودة للأصالة والقرآن الكريم. وعلى رأسهم الجامية.
ثم إن خوفهم من أمثال قطب واضح، فهو لم يخنع لولي أمر ظالم؛ فأصبح بثباته رمز الحركات التحررية والثورية بعد موته بأجيال، ولهذا كان لا بد لأعداء الحرية من تبشيع صفحات هذه القدوة التي أشعت في فضاء الأقلام الذهبية حين كتبت عن عزة الإنسان وكرامته واستعلائه بإيمانه وحريته وإبائه.
لماذا كل هذا العداء لسيد قطب؟
وهذا ما أجاب عنه الشيخ العلامة حمود بن عقلاء الشعيبي رحمه الله في وصف بليغ، حيث قال:
فإن المفكر الأديب سيد قطب رحمه الله له أعداء كثيرون، يختـلفون في كيفية النقد وأهدافه والغايات منه، ويتـفـقون في مصالح مشتركة، وقبل أن أكشف بطلان مثالب الجراحين والمطاعن الموجهة إلى سيد رحمه الله، أبين أولًا لماذا يُستهدف سيد قطب خاصة؟ ومن المستفيد من إسقاطه؟ إن سيدًا رحمه الله يعد في عصره علمًا من أعلام أصحاب منهج مقارعة الظالمين والكفر بهم، ومن أفذاذ الدعاة إلى تعبيد الناس لربهم والدعوة إلى توحيد التحاكم إلى الله، فلم يقض إلا مضاجع أعداء الله ورسوله كجمال عبد الناصر وأمثاله .. وما فرح أحد بقتله كما فرح أولئك، ولقد ضاق أولئك الأذناب بهذا البطل ذرعًا. فلما ظنوا أنهم قد قتلوه، إذا بدمه يحيي منهجه ويشعل كلماته حماسًا؛ فزاد قبوله بين المسلمين وزاد انتشار كتبه، لأنه دلل بصدقه وإقدامه على قوة منهجه، فسعوا إلى إعادة الطعن فيه رغبة منهم لقتل منهجه أيضًا، وأنّى لهم ذلك؟
فاستهداف سيد قطب رحمه الله لم يكن استهدافًا مجردًا لشخصه، فهو ليس الوحيد من العلماء الذي وجدت له العثرات، فعنده أخطاء لا ننكرها، ولكن الطعن فيه ليس لإسقاطه هو بذاته. فقد قدم إلى ربه ونسأل الله له الشهادة، ولكن الذي لا زال يقلق أعداءه وأتباعهم هو منهجه الذي يخشون أن ينتشر بين أبناء المسلمين.
وإني إذ أسمع الطعن في سيد قطب رحمه الله لا أستغرب ذلك لقوله الله تعالى: ﴿وكذلك جعلنا لكل نبي عدوًا﴾، فكل من معه نور من النبوة أيضًا له أعداء من أهل الباطل بقدر ما معه من ميراث نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، فما يضير سيدًا طعن الطاعنين، بل هو رفعة له وزيادة في حسناته. ولكن الذي يثير الاستغراب هو فعل أولئك القوم الذين يدّعون اتباع الحق، ومع ذلك ينقصون الميزان ولا يزنون بالقسطاس المستقيم؟
والله يقول: ﴿ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون﴾ فأولئك إذا أرادوا مدح أحد، عليه من المآخذ ما يفوق سيدًا بأضعاف، قالوا كلمتهم المشهورة: “تغمس أخطاؤه في بحر حسناته” وقالوا: “إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث”، وغير ذلك، وإذا أرادوا ذم آخر كسيد رحمه الله الذي يعد مجددًا في باب (إن الحكم إلا لله) سلكوا معه طريق الخوارج وكفروه بالمعاصي والزلات. وسيد رحمه الله لا ندعي له العصمة من الخطأ، بل نقول إن له أخطاء ليس هذا مجال تفصيلها، ولكنها لا تخل بأصل دعوته ومنهجه، كما أن عند غيره من الأخطاء التي لم تقدح في منـزلتهم. وعلى سبيل المثال ابن حجر، والنووي، وابن الجوزي، وابن حزم، فهؤلاء لهم أخطاء في العقيدة، إلا أن أخطاءهم لم تجعل أحدًا من أبناء الأمة ولا أعلامها يمتنع من الاستفادة منهم أو يهضمهم حقهم وينكر فضائلهم، فهم أئمة إلا فيما أخطؤوا فيه.
وهذه الحال مع سيد رحمه الله، فأخطاؤه لم تقدح في أصل منهجه ودعوته لتوحيد الحاكمية وتعبيد الناس لربهم، والقاعدة التي يجب أن تُقرر في مثل هذه الحالات هي ما يستفاد من قول الله تعالى: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما﴾ فكل من حقق ما يجب تحقيقه من أصل الدين، ينظر بعد ذلك في سائر منهجه، فإن كان خطأه أكثر من صوابه، وشره يغلب على نفعه، فإنه يهمل قوله وتطوى كتبه ولا تروى، وعلى ذلك فالقول الفصل في سيد رحمه الله أن أخطاءه مغمورة في جانب فضائله ودفاعه عن (لا إله إلا الله)، لا سيما أنه حقق أصول المعتقد الصحيح، وإن كانت عليه بعض المآخذ وعبارات أطلقها لا نوافقه عليها رحمه الله. وختامًا، لا يسعني إلا أن أذكر أنني أحسب سيدًا -والله حسيبه- يشمله قوله عليه الصلاة والسلام: “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام عند سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله”. فنحسب أن سيدًا رحمه الله قد حقق ذلك الشرط حيث قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله .. وأنقل كلمة له رحمه الله قبل إعدامه بقليل عندما أعجب أحد الضباط بفرح سيد قطب وسعادته عند سماعه نبأ الحكم عليه بالإعدام “الشهادة”، وتعجب لأنه لم يحزن ويكتئب ويحبط فسأله قائلًا: “أنت تعتـقد أنك ستكون شهيدًا! فما معنى شهيد عندك؟” أجاب رحمه الله قائلًا: “الشهيد هو الذي يقدم شهادة من روحه ودمه أن دين الله أغلى عنده من حياته، ولذلك يبذل روحه وحياته فداء لدين الله”. وله رحمه الله من المواقف والأقوال التي لا يشك عارف بالحق أنها صادرة عن قلب قد مُليء بحب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب التضحية لدينه، نسأل الله أن يرحمنا ويعفو عنا وإياه. اهـ.
وعلينا أن نذكر بأن سيد قطب انطلق أديبًا ناقدًا قبل أن يكون عالمًا في الشريعة والفقه! ولكن غيرته على الإسلام وانبرائه للدفاع عنه وعن ثوابته وقيمه، دفعته لأن يخط الكثير من العلم في صفحات مسيرته، وقد يخونه التعبير كأديب بعبارات لا تمتاز بدقة الفقه والتشريع، ومع ذلك بلغ تأثيره في الأجيال المسلمة ما لم يبلغه الكثير من العلماء والفقهاء، ذلك أنه دفع حياته ثمنًا لما آمن به من حق.
تراجعات لم تؤخذ بالحسبان
من جهة أخرى، فإن ما يصرّ خصوم سيد قطب على نكرانه في سيرة الرجل أنه تراجع عن أبرز ما يعيبونه فيه، وخاصة ما كتبه أثناء بدايته الأدبية، وقد نسخ ما كتبه في خواتيمه ما سبق، ومن يبحث في ثنايا تاريخ الرجل سيجده غيّر الكثير من مواقفه، فقد تقلب سيد قطب بين حزبي الوفد والسعديين، وناصر العقاد ثم انقلب عليه، واعترف بحجم من الأخطاء صدرت عنه في تلك المرحلة، متبرأً منها بوصفه إيها مرحلة الضياع. وجل من لا يخطئ!
وقد أكد هذا الأمر-بعد الجدل الذي أثير بسبب بعض كتابات سيد-أخوه الصغير الأستاذ محمد قطب رحمه الله، إذ ورد ذلك في رسالة أرسلها إلى عبد الرحمن الهرفي يقر فيها بأن سيدًا تراجع عن كل ما كتب، سوى الظلال والمعالم، وعدد يسير من المؤلفات الإسلامية.
الإنصاف حلة الأشراف
وأرى من الإنصاف أن ينظر الناقد لمؤلفات سيد قطب الأخيرة التي خرجت في وقت محنته وأثناء سجنه، والتي ختم بها حياته، فهي بحق مؤلفات تنسخ ما قبلها وتعكس درجة النضوج التي وصل إليها فكر مثابر.
ثم من ينكر تلك الملكة وذاك التميز والذوق الرفيع الذي تفرد به سيد قطب في كتاباته؟ ومن ينكر بركات ثباته وصموده أمام أسواط الجلاد وتهديداته؟ وكفى به شرفًا أن يصل صيته لأجيال ممتدة وهي ممتنة لتضحيته وفدائه.
فمن قرأ لكلمات سيد قطب عن الإسلام لن يقف إلا باحترام وتقدير عند كل حرف حين يعلم أن صاحبه قد شنق لأجل كلماته التي نسجتها حروفه المنافحة عن الدين الحق.
والقاعدة السليمة أن نأخذ الخير الذي في ميراث الرجل، ونتجنب الأخطاء التي وقع فيها. ولو جمعنا جميع أخطاء سيد قطب التي وقع فيها في مؤلفاته لوجدناها لا تتعدى صفحات معدودة، ولكن الخير الذي حملته بالمقارنة لا يعد ولا يحصى.
أقوال أهل العلم في سيد قطب
ولا أعتقد أن عالمًا من العلماء أو كاتبًا من الكتاب لم يقع في أخطاء، فهذا الأمر لا يكمل إلا لنبي، وما نحن إلا بشر نخطئ ونصيب، ومن جادل في هذا الوصف فإن كبار العلماء قد قدموا الجواب الفصل في الحكم على سيد قطب.
ومن العلماء الذين أنصفوا سيد قطب، كان الشيخ الألباني والذي استشهد بكلام لسيد في كتابه “مختصر العلو”، ووصفه بـ”الأستاذ الكبير سيد قطب”، وله فتاوى منصفة بحق سيد أثنى فيها على الخير الذي فيه ونبّه على سقطاته وكبواته. وهو نفسه الألباني الذي قال في سيد:
نعم، يرد على سيد قطب بهدوء وليس بحماس، هذا لا يعني أن نعاديه وأن ننسى أن له شيئًا من الحسنات، يكفي أنه رجل مسلم وكاتب إسلامي وأنه قُتل في سبيل دعوته للإسلام، والذين قتلوه هم أعداء الإسلام، وقد قال ابن رجب رحمه الله -وهو من علماء الحنابلة من تلاميذ ابن القيم-، قال في كتابه القواعد الفقهية: (يأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه).
أما الشيخ ابن باز-رحمه الله-فقال فيه:
كتب سيد قطب والمودودي والندوي مفيدة، فيها خير كثير ولا تخلو من بعض الأغلاط، قد اجتهدوا في الخير ودعوا إلى الخير وصبروا على المشقة.
ولعل أبرز ما يجذب الاهتمام تلك الكلمات الرائعة التي خطها الشيخ العلامة بكر أبو زيد -رحمه الله- في سيد قطب، والتي انتقد فيها ربيع المدخلي واتباعه وهجومهم على سيد، ومنها:
..وأعتذر من تأخر الجواب، لأنني من ليس لي عناية بقراءة كتب هذا الرجل، وإن تداولها الناس !! لكن هول ما ذكرتم دفعني إلى قراءات متعددة في عامة كتبه، فوجدت في كتبه خيرًا كثيرًا وإيمانًا مشرقًا، وحقًا أبلج، وتشريحًا فاضحًا لمخططات العداء للإسلام! على عثرات في سياقاته، واسترسال بعباراته! ليته لم يفهِ بها! وكثير منها ينقضها قوله الحق في مكان آخر! والكمال عزيز! والرجل كان أدبيًا نقّادًا، ثم اتجه إلى خدمة الإسلام من خلال القرآن العظيم، والسنة المشرفة، وسخر قلمه ووقته ودمه في سبيلها، فشرق بها طغاة عصره! وأصر على موقفه في سبيل الله تعالى، وكشف عن سالفته … وطُلب منه أن يسطر بقلمه كلمات اعتذار! وقال كلمته الإيمانية المشهورة: “إن أصبعًا أرفعه للشهادة، لن أكتب كلمة تضارها” أو كلمة نحو ذلك.
فالواجب على الجميع الدعاء له بالمغفرة، والاستفادة من علمه، وبيان ما تحققنا خطأه فيه، وإن خطأه لا يوجب حرماننا من علمه، ولا هجر كتبه! واعتبر -رعاك الله- بحال أسلاف مضوا، أمثال أبي إسماعيل الهروى والجيلاني، كيف دافع عنهما شيخ الإسلام ابن تيميه -رحمه الله تعالى- رغم ما لديها من الطوام! لأن الأصل في مسلكهما نصرة الإسلام والسنة .. وانظر “منازل السائرين” للهروي -رحمه الله تعالى-، ترَ عجائب لا يمكن قبولها! ومع ذلك فابن القيم -رحمه الله تعالى- يعتذر عنه أشد الاعتذار، ولا يجرمه فيها، وذلك في شرحه “مدارج السالكين”! وقد بسطت في كتاب “تصنيف الناس بين الظن واليقين” ما تيسر لي من قواعد ضابطة في ذلك.
وهذا التقييم صدر عن علامة شيخ له وزنه في الساحة العلمية، لا يرده مجادل، ويشهد على صدق حكمه تأثر رجالات الميادين الجهادية بسيد قطب، على رأسهم إمامهم الدكتور الشيخ عبد الله عزام رحمه الله الذي كان يصف سيد بـ”عملاق الفكر الإسلامي”، وقال عنه:
والحق أنني ما تأثرت بكاتب كتب في الفكر الإسلامي أكثر مما تأثرت بسيد قطب وإني لأشعر بفضل الله العظيم عليّ أن شرح صدري وفتح قلبي لدراسة كتب سيد قطب، فقد وجهني سيد قطب فكريًا، وابن تيمية عقديًا، وابن القيم روحيًا، والنووي فقهيًا. فهؤلاء أكثر أربعة أثروا في حياتي أثرًا عميقًا. لقد كان لاستشهاد سيد قطب أثر في إيقاظ العالم الإسلامي أكثر من حياته؛ ففي السنة التي استشهد فيها، يُطبع الظلال سبع طبعات، بينما لم تتم الطبعة الثانية أثناء حياته.
كانت هذه شهادات علماء أفذاذ ممن قرأوا لسيد وأنصفوه، وتنضم لها شهادة عالم جليل آخر لها وزنها وثقلها بلا شك، لأن قائلها هو عالم الهند الشهير الأستاذ أبو الحسن الندوي مؤلف الكتاب النافع: “ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين”، حيث قال عندما سمع خبر إعدام سيد قطب:
إن هذه الشهادة ليست شهادة الأفراد، وإنها ليست هدرًا للدماء وعبثًا بالحقوق البشرية والكرامة الإنسانية فحسب، وإنها ليست همجية وعداء سافرًا للإسلام فحسب، بل إنها خسارة فادحة للدعوة الإسلامية والعلم والأدب، والدراسة والبحث والأدب والنقد، ومأساة علمية ضخمة، إن سيد قطب من أولئك الأفذاذ الذين يسعد بهم العالم الإسلامي، وهو في الطراز الأول من صفوة الدعاة ورجال الفكر والأدب الذين تحظى بهم الأمم بعد فترات طويلة.
لن يسعني أن أنقل كل آراء الشيوخ وأعلام الأمة في سيد قطب، والتي أستشهد بها هنا لأن لها بكل تأكيد وزنها وقيمتها حين تصدر من أمثالهم وتمثل شبه إجماع لإنصاف الرجل المجتهد الراحل، ولكنني سأختم شهادات أهل العلم فيه، بقول الشيخ عبد الله بن جبرين، الذي قال:
هناك قوم اشتغلوا ببعض الأموات، مثل: سيد قطب، وحسن البنا. الواجب أنهم يُلخّصون أخطاءهم ويُحذِّرون منها، وأما حسناتهم فلا يدفنوها، ولا يَقدح فيهم لأجل تلك الأخطاء أو تلك الزلات، لأن لهم حسنات.. إذا كانوا يذكرون السيئات وينسون الحسنات؛ صدق عليهم قول الشاعر:
ينسى من المعروف طودًا شامخًا *** وليس ينسى ذرة ممن أساء
ووددت لو سمح لي المقام أن أدرج بعض الاقتباسات التي تشع حقًا ونجابة وروعة من كتابات سيد قطب رحمه الله، لأنها الشاهد الأول والأخير على صدق الرجل وسعة علمه وقوة بصيرته، ولكنني أدعو كل من حُرِم خير هذه القامة السامقة والروح الملهمة أن يتطلع لكتاباته ويتعمق في معانيها ليدرك أي خير فرط فيه قبل أن يستمع للطاعنين فيه بلا رحمة.
ختامًا
وإلى أن نترفع عن أسلوب تصيد الزلات ونتقن أسلوب إقالة العثرات مع من بذل جهده في نصرة الإسلام كما نحسبه، ثم شهد له العلماء والأعلام، فإننا نتعزّى بقول الإمام الشافعي:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا
أو قول علي بن الجهم:
وَمَن ذا الَّذي تُرضى سَجاياهُ كُلُّها *** كَفى المَرءَ نُبلاً أَن تُعَدَّ مَعايِبُهْ
ثم مسك الختام ما كتبه الشيخ الدكتور عبد الله عزام عن سيد قطب حين خط:
لقد مضى سيد قطب إلى ربه رافع الرأس، ناصع الجبين، عالي الهامة، وترك التراث الضخم من الفكر الإسلامي الذي تحيا به الأجيال، بعد أن وضح معانٍ غابت عن الأذهان طويلًا، وضخ معاني ومصطلحات: الطاغوت، الجاهلية، الحاكمية، العبودية، الألوهية، ووضح بوقفته المشرفة معاني البراء والولاء، والتوحيد والتوكل على الله، والخشية منه والإلتجاء إليه.
فرحم الله سيد قطب، ورحم علماء الأمة الأفذاذ وأولئك المنصفين الأحرار.
المصادر
-
تقدم من طريق عبد الله بن عمرو بزيادة واو بمعناه ، ورواه مالك من حديث عمر موقوفا وهو منقطع . وله طرق يتقوى بعضها بعض.
(المصدر: موقع “تبيان”)