آية جامعة تزخر بمعان عالية ومعارف قيمة
بقلم د. محمد عناية الله أسد سبحاني
قال الله تعالى:
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا.( سورة الأحزاب 35)
هذه الآية عبارة عن جملة من الصفات، اللاتي ينبغي أن يتحلى بها المؤمنون جميعا، رجالا ونساء، وكان ختام هذه الصفات: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات)
وهذا النظم يفيد أن ملاك تلك الصفات هو ذكر الله كثيرا. فمن كان حريصا على تلك الصفات العالية الشامخة، وكان يحب أن يتحلى بها، فعليه أن يكثر من ذكر الله.
فهذا الذكر يهيئه للتحلي بتلك الصفات العالية، ويزحزح من طريقه تلك العقبات الكأداء، التى تحول بينه وبين الوصول إلى تلك القمم العالية السامقة.
ويمكن أن نستأنس هنا بما رواه عبدالله بن بسر قال: جاء أعرابيان إلى رسول الله- – فقال أحدهما يا رسول الله أى الناس خير؟ قال: من طال عمره و حسن عمله. وقال الآخر:يا رسول الله إن شرائع الاسلام قد كثرت عليّ فمرني بأمر أتشبث به فقال: لا يزال لسانك رطبا بذكر الله عزّ وجل.
ولا يمكن أن يكون اللسان رطبا بذ كر الله إلا إذا ملك حب الله قلب الإنسان، واستحوذ عليه حتى سيط من لحمه، وأصبح يجري فى عروقه مجرى الدم، فهو لا يعيش إلا لله و لا يصبح و لا يمسي إلا فى طاعة الله، فهو يذكر الله بقلبه ويذكره بلسانه ويذكره بجوارحه كلها.
قرنت تلك الصفة بصفة حفظ الفروج حيث قال تعالى: (والحافظين فروجهم والحافظات)
وهذا النظم يفيد أن ذكر الله كثيرا هو الذي يمنع المرء من الوقوع فى الفاحشة، ويقوده إلى الطهر والعفاف، ويمكّنه من حفظ الفروج.
ثم قرنت هذه الصفة بفضيلة الصوم حيث قال تعالى: (والصائمين والصائمات)
ويفيد هذا النظم أن الصوم أيضا مما يساعد المرء على العفاف وحفظ الفروج، فمن لم يقدر على الزواج فعليه أن يكثر من الصوم.
ومن هنا قال النبى – عليه الصلاةوالسلام-: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء.
ثم قرنت فضيلة الصوم بفضيلة الصدقة والإنفاق حيث قال تعالى: (والمتصدقين والمتصدقات)
ويفيد هذا النظم أن الصدقة والإنفاق تزيد فى روحانية الصوم. ويكون لها دور كبير فى تفعيله وتقويمه. فلا بد أن يكون الصوم قائما على أرض خصبة من الصدقة والإنفاق.
ومن هنا حث النبى – عليه الصلاةوالسلام – على الإكثار من الصدقة والإنفاق فى شهر الصيام. وسمى رمضان شهر الصبر وشهر المؤاساة، وحث على تفطير الصائم وتسحيره، وورد عنه – عليه الصلاة والسلام-أنه كان فى رمضان أجودبالخير من الريح المرسلة. وورد أنه كان أجود مايكون فى رمضان.
وكذلك يفيد هذا النظم أن الصوم يزهّد الإنسان فى المال، وينقله من البخل والشح إلى الجود و السخاء ويميل به وبرغباته واهتماماته عن حطام الدنيا وشهواتها إلى ما هو خير وأبقى وأنفع له عند الله، فهو يتجافى عن دار الغرور وشهواتها، ويتجافى عن أهلها وحكامها المغترين بزينتها، وتشغله حلاوة البذل والإنفاق عن حلاوة الاستمتاع بلذائذها وشهواتها.
ثم قرنت فضيلة التصدق بصفة الخشوع حيث قال تعالى: (والخاشعين والخاشعات)
وهذا النظم يفيد أن الصدقة والإنفاق يرقق القلب ويملؤه بالخشوع لله .
ومن ناحية أخرى فإن الخشوع هو روح التصدق والإنفاق. فهو الذى يمنع المتصدق من المن والأذى ويجعل صدقته صدقة حب ونصح وإيمان، ويجعلها صدقة خالصة لوجه الله. فهو يطعم المساكين واليتامى والأسرى، وهو وجل من عذاب الله، ولسان حاله يقول:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا [الإنسان: 8، 9]
ويشبهه قوله تعالى:
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُون[المائدة:55]
ومثله ما ورد فى صفات المؤمنين المتصدقين والمسارعين إلى الخيرات:
وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[المؤمنون: 60]
ثم قرنت صفة الخشوع بصفة الصبر حيث قال تعالى: (والصابرين والصابرات)
وهذا النظم يفيد أن الخشوع لله من تمام الصبر، كما أن الخشوع لله هو الذى يقوي الإنسان على الصبر فالقلب الخاشع لا يكون هلوعا ولا جزوعا. ولكن إذا كان القلب خاليا من الخشوع فهو دائما يكون فى ظلمات الخوف والوجل، ودائما يكون فى ضيق وحرج كأنما يصّعّد فى السماء.
وقرنت صفة الصبر بصفة الصدق حيث قال تعالى: (والصادقين والصادقات)
ويفيد هذا النظم أن الصدق هو أساس الصبر، والصادق هو الذى يصبر على لأواء الجهاد فى سبيل الله، وأما المنافق فهو لا يعرف الصبر ولا يقدر عليه. وهذا الذى يجعله يفر من مواقع الخطر، ولا يبرز فى المواقف إلا إذا تأكد لديه الربح، ولم يكن هناك ما يدعو الى الحذر!
ومن ناحية أخرى فالرجل الصابر هو الذى يصدق إيمانه، فيكون صادقا مع الله، ويكون صادقا مع المؤمنين، فالصبر يهدى إلى الصدق ويكون دليلا على الصدق.
وقرنت صفة الصدق بصفة القنوت حيث قال تعالى: (والقانتين والقانتات)
وهذا النظم يفيد أن الصدق هو الذى يورث القنوت وهو طاعة الله وطاعة الرسول فى العسر واليسر والمنشط والمكره، كما أن القنوت، هو الذى يرفع المرء إلى ذروة الصدق حتى يلحق بالصديقين حيث قال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[النساء: 69]
وقرنت صفة القنوت بصفة الإيمان حيث قال تعالى: (والمؤمنين والمؤمنات) فالإيمان هو الذى يدعو المرء إلى القنوت والقنوت هو الذى يرسّخ الإيمان فى القلب، ويثبّته ثبوت الشمّ الرواسى أمام عواصف المحن، ويفضى بصاحبه إلى ذروة الإيمان.
ثم قرنت صفة الإيمان بصفة الإسلام، وهما توأمان لا يفترقان، ولااعتبار لأحدهما بدون صاحبه، فالإسلام هو الطاعة والانقياد الظاهر بالجوارح، و الإيمان هو حب الله وحبّ رسوله وحب دينه وكتابه وهو شيء يستكنّ فى القلب، ولا يرى فى الظاهر إلا بثماره ونتائجه وهى الطاعة لله والامتثال لأوامره واجتناب معاصيه، وهو الإسلام.
فالإسلام والإيمان وجهان لحقيقة واحدة. الوجه الظاهر هو الإسلام، و الوجه الباطن هو الإيمان، و إذا اجتمع الأمران بصورة قوية متلاحمة فهو القنوت. وعلى هذا جاء هذا الترتيب فى تلك الصفات الثلاثة: (إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات)
وعلى هذا جاء قوله تعالى فى سياق العتاب والتنبيه لأزواج الرسول عليه الصلاة والسلام على تظاهرهن عليه: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ [التحريم: 5]
فهذه الصفات متلاحمة متشابكة، آخذة بعضها بأعناق بعض. ومن استمسك بواحدة منها، فهى تؤدي به إلى ما بعدها حتى يتيسر للمؤمن أن يتحلى بها جميعا، و من تحلى بها جميعا، فقد استكمل الإيمان، وارتقى إلى ذروة الإسلام.