آيا صوفيا.. محضن عقيدة التوحيد من الأريوسيين إلى الأتراك
بقلم يوسف بناصرية
بعد أزيد من 80 عاماً، تعود آيا صوفيا أو “الحكمة المقدسة”، إلى حضنها الروحي، ودفء الرحمة والعبادة الذي بُنيَت على أساسه مع بداية الدولة البيزنطية كنيسة لعبادة الله الواحد، واستقرت عليه مسجدا مع اعتناقها الإسلام في القرن الـ15 بعد انحراف شريعة النصارى.
تعود آيا صوفيا اليوم وفي طيات عودتها حكمة إلهية مقدسة لدى الموحدين في مشارق الأرض ومغاربها، لا يعلمها إلا الله.
إلغاء القضاء التركي قرار مجلس الوزراء الصادر عام 1934، والقاضي بتحويل “آيا صوفيا” إلى متحف، اعتبره الأتراك ومعهم العديد من المسلمين حول العالم حدثا تاريخيا، وانتقده آخرون بدعوى أنه انتهاك لحق المسيحيين، فيما قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إنه شأن داخلي، وحق شرعي للمسلمين.
فهل هو كذلك استردادٌ أم استحواذ؟ ثم ماذا لو كان “قنسطانطيوس الثاني” حياً؟
استرداد أم استحواذ؟
قال النبي محمد عليه الصلاة والسلام :”لَتفتحن القسطنطينية ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”.
التقط السلطان العثماني محمد الفاتح البشارة النبوية، والتي كانت في نفس الوقت وصية من والده السلطان مراد، وتحرك في سنة 1453م صوب مدينة القسطنطينية مع أسطول بحري وجيش ضخم مُزوّد بالمدافع، ليحاصر بذلك المدينة براً وبحراً.
وبعد دفاع مستميت من عاصمة البيزنطيين سقطت الأخيرة في أيدي العثمانيين، وانتهت مع سقوطها الإمبراطورية البيزنطية بعد صمود دام أزيد من أحد عشر قرناً. فماذا حدث بعد ذلك؟
هنا تبدأ قصّة المسلمين مع آيا صوفيا، إذ توجه السلطان محمد الفاتح مباشرة إلى الكاتدرائية بعد سيطرته على المدينة، وصلى داخلها ركعتين قبل أن يأمر بتحويلها إلى مسجد.
هناك من يعتبر أن هذا التصرّف اضطهاد ديني، إلا أن الواقع عكس ذلك لأن السلطان العثماني آنذاك يُعتَبر المتصرّف القانوني بصفته “قيصراً جديداً للروم” قبل كل شيء بشهادة مؤرخين بيزنطيين اعتبروه إمبراطوراً شرعياً، ولأن المصلحة اقتضت ذلك بعد فتح المدينة التي كان عدد سكانها قليلاً مقارنة مع عدد الكنائس بسبب هجرة الكثير منهم إثر أزمة اقتصادية، وفي المقابل كان عدد المسلمين ضخماً.
وما يثبت هذه المصلحة أيضاً هو أن العثمانيين لم يكتفوا بتحويل كنيسة آيا صوفيا إلى مسجد، وإنما حوّلوا بعض الكنائس أيضاً إلى معابد لليهود، ومنحوا بعضاً منها إلى الأرمن لكي يقيموا شعائرهم فيها بعد أن كانت حكراً على الأرثوذكس، وهذا بدوره لا يعني محاربتهم للكنيسة الأرثذكسية؛ فقد تميَّز عهد السلطان الفاتح بِتمازج حضاري إسلامي ومسيحي فريد، فضلاً عن التسامح بين جميع الأديان منذ يومه الأول داخل القسطنطينية، علماً أن المنطقة عاشت صراعاً دينياً طويلاً تعزّز مع الانقسام إلى كنيستين أورثوذكس (شرقية) وكاثوليك (غربية)، وحتى مع اتحادهما في نهاية تلك الفترة.
لمّا دخل الفاتح وجيشه المدينة، لجأ البيزنطيون إلى كنيسة آيا صوفيا وهم الذين لم يدخلوها منذ اتحاد الطائفتين، واحتموا داخل المبنى في انتظار انشقاق الجدار، وظهور مَلَك بيده سيف ليخلصهم من الأتراك. يقول المؤرخ البيزنطي الأمير دوكاس: “إنه لو ظهر تلك اللحظة ملَكٌ وسأل البيزنطيين عمّا إذا كانوا يفضّلون أن يصبحوا كاثوليك وينجوا من الأتراك، أم أن يظلوا أرثوذكس ويعيشوا تحت إدارة الأتراك، لفضل كل بيزنطي الشق الثاني”.
وصل السلطان إلى ميدان الكاتدرائيّة حيثُ تجمّع آلاف البيزنطيين ومعهم الرهبان والقساوسة دون أن يعتدي جيشه على أحد منهم، فلمّا شاهدوه سجدوا له على الأرض، فطلب منهم الوقوف قائلاً: “انهضوا.. لا تخشوا بعد هذه اللحظة على حياتكم ولا على حريتكم”.
بعد تأمين سكان المدينة أمر الفاتح بالبحث عن جُثّة الإمبراطور وتسليمها إلى الرهبان لدفنه وإقامة المراسم ذاتها التي تُقام عند وفاة أي إمبراطور رومي، ثم دعا الكهنة لانتخاب بطريركاً جديداً وهو الراهب جناديوس الثاني الذي رسّمه السّلطان بِنفسه كما كان يفعل الأباطرة البيزنطيون، ومنحه حرساً خاصاً، وحق الحكم في القضايا المدنية والجنائية.
وشجَّع من هاجر من النصارى واليهود بسبب الأزمات والاضطهاد في عهد البيزنطيين أو خلال الحملات الصليبية ـ التي استهدفت المدينة ـ على العودة، والاستمرار في مُزاولة نشاطاتهم إلى جانب المسلمين.
من خلال هذه الصورة التي جسدت التراضي بين أرثوذكس القسطنطينية والإمبراطورية العثمانية، والتعايش الإنساني الذي ساد المدينة، يمكن القول إن قرار تحويل الكنيسة إلى مسجد كان مشروعاً باعتبار القانون المتعارف عليه آنذاك في ما يتعلق بالتداول على العروش، وهو ما ذهب إليه حتى المؤرخون البيزنطيون الذين اعتبروا السلطان الفاتح “إمبراطوراً رومانياً” حصل على جميع الأملاك المسجلة للأسرة البيزنطية، بما في ذلك مبنى “آياصوفيا”.
وبهذا يكون قرار تركيا الأخير حول “آيا صوفيا”، إعادةَ إحياء لمسجدٍ صدح فيه الأذان لأزيد من أربعة قرون، من خلال تحويل متحف إلى ما كان عليه قبل 80 عاماً، وليس تحويل كنيسة إلى مسجد كما يظن الكثيرون اليوم.
لو كان “قنسطانطيوس الثاني” حيّاً!
وأنا أتابع ردود الأفعال هنا وهناك بين حكومة أوروبية تهدّد، وبطريركية روسية تتألم، وعربي لم تتحدث إلا قوميته المتوجّسة من الأتراك، أو كراهيته لكل ما هو مرتبط بالإسلاميين، تبادر إلى ذهني سؤال: ماذا لو كان قنسطانطيوس الثاني الذي بنى تلك الكنيسة حيّاً اليوم؟
في رأيي كان ليعلن بنفسه نبأ إحياء “آيا صوفيا” مبنى لتوحيد الله، ويغضب في وجه البابا وكل بطريرك يعارض القرار، ويدعو الناس إلى عبادة الله الذي خلق المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ويسعى للقضاء على مظاهر الثالوث كما كان يفعل في زمانه، ويعمل على نشر العقيدة “الأريوسية” في كل مكان بعد أن يكتشف أنها انقرضت، وانتشرت بدلاً عنها عقائد جعلت لله ولداً وهو المنزه، وظنّت النبي إلاهاً.
مهلاً، ولِم لا يعلن اعتناقه الإسلام ما دام قد كان متمسّكاً بما جاء في الإنجيل المقدّس الذي بشّر بنبي اسمه أحمد!
بل وكان سيؤدي صلاة الجمعة في الـ 24 من تموز/يوليو الجاري داخل مسجد “آيا صوفيا” مفتخراً بشرف بنائه قبل 1660 عاماً.
عام 360م، تم افتتاح الكنيسة التي بناها قنسطانطيوس الثاني من قبل الأسقف الأريوسي يوكودوكيوس، حسب روايات مؤرخين بيزنطيين، ومادام الإمبراطور في ذلك الوقت يميل إلى “الأريوسية”، ويحارب مبدأ الثالوث وينشر عقيدة التوحيد، فإن الكنيسة التي تُبنى تحت سيادته ستحتضن العقيدة ذاتها.
فرض قنسطانطيوس عقيدة أتباع “أريوس” على المناطق التي كان يحكمها، وتمكن بعد وفاة أخيه قنسطنس من فرضها على جميع أنحاء الامبراطورية، مواجهاً وبشدّة معارضيه الأرثوذكسيين الذين يعتبرون أن للمسيح طبيعتين إلهية وإنسانية.
تساءلتُ مجدداً، ماذا لو كان أريوس الفتى الأمازيغي الذي هز كيان الإمبراطورية الرومانية قادماً من شمال إفريقيا من أجل كلمة التوحيد حيّاً هو الآخر اليوم، قلتُ في نفسي ربما كان سيقود ثورة في وجه الاستكبار العالمي لرفع الحيف عن المظلومين والمضطهدين على هذه الأرض، مثلما انتفض في وجه الكنيسة والامبراطورية الرومانية في وقته بعد تحريف رسالة المسيح، واضطهاد الموحدين.
وطبعاً كان سيحتفي بقرار عودة مبنى “آياصوفيا” إلى دوره الديني الأصلي باحتضان الموحدين من جديد.
(المصدر: وكالة أنباء تركيا)