آيا صوفيا: كشفت هاوية التغريب وقسوة الهزيمة النفسية التي يعاني منها البعض
بقلم محمد صلاح الدين عبد ربه
موقفان وصورتان تكشفان مدى سحق هاوية التغريب التي وقع فيها البعض ومدى الهزيمة النفسية التي لحقت بالبعض الآخر دون أن يدري
الصورة الأولى: بطلتها السيدة صاحبة القبعة الملكة إليزابيث ملكة بريطانيا العُظمى
تقيم مراسم رسمية لتقليد جامع تبرعات عمره 100 عام لقب “السير أو فارس” من خلال إمساكها بالسيف الملكي، الذي ترفعه في الهواء لتلمس به كتف من يتم تقليده هذا اللقب الرسمي القديم لكي يقوم بعدها الشخص ليُصبح “السير أو فارس”.
وهو تقليد تاريخي قام به كل من سبقها من الملوك الذين حكموا بريطانيا العظمى على مدار التاريخ.
بشكل شخصي احترم المحافظة على العادات والتقاليد لكل أمة وشعب واحترم الملكة إليزابيث والنظام الملكي كله الذي حافظ على تلك العادات عبر مئات بل آلاف السنين.
الصورة الثانية: فبطلها هو رئيس الشؤون الدينية التركية السيد علي ارباش الذي حمل سيف السلطان محمد الفاتح رحمه الله وظلّ ممسكاً به ومتكئاً عليه طوال الخطبة.
وهو تقليد عثماني أصيل، يُعبر عن رسالة قوية لأعداء وأصدقاء الدولة فالأمير التركي “الإمام” إذا أمسك بالسيف باليد اليُمنى يُراد به تخويف العدو، أما تلقّفه باليسرى فإشارة إلى إعطاء الأمان وعلامة على الثقة بالطرف الآخر، حسبما أشار التلفزيون الرسمي لرئاسة الشؤون الدينية التركية.
وهو فعل يستند فيه السلاطين العثمانيين إلى فعل النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذي كان يتكئ على عصاه أو قوسه خلال صعوده إلى المنبر وإلقاءه خطب الجمعة. إذاً ففعل السلاطين العثمانيين يستند لسنة إسلامية أصيلة يرجع أصلها لحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
السؤال: هل ردود الأفعال العربية على الموقفين ينطلقان من موقف مبدئي أم مواقف متناقضة تعبر عن حالة ازدواجية معايير؟
في البداية يُفترض بمن ينتقد موقف السيد ارباش بحمله للسيف في تقليد تاريخي له أساس من السنة، أن ينتقد التقليد التاريخي لملكة بريطانيا العظمى انطلاقاً من رغبته في الحداثة وترك الماضي وراء ظهره، وبعيداً عن كون هذه الفكرة في حد ذاتها فكرة غبية، إذ لا يمكن لأي أمة أن تتخلى عن تراثها وهويتها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها لتنتظق للحداثة والتطور.
لذا دعونا نكشف التناقض وازدواجية المعايير التي تنتطق من أجندة سياسية لا أخلاقية في المنطقة.
فالبعض قاد حملة شرسة لتشويه موقف رئيس الشؤون الدينية التركي السيد على ارباش على حمله السيف، مُتهماً إياه بالإرهاب بالمفهوم المعاصر، وهو لا يُدرك ما ذكره القرآن الكريم عن الإرهاب أو ما يُمكن قوله “الإرهاب بالمفهوم القرآني” الذي يعني إرهاب عدم الرغبة في الحرب وخوض القتال من الأساس.
فحديث القرآن عن الإرهاب جاء في سياق الحديث عن الإعداد العسكري الكبير الذي يجعل العدو الذي يرغب في قتال المسلمين أن يفكر ألف مرة قبل أن يعتدي علينا.
قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ…. (60- الأنفال)
ولكن من يتحدثون بلسان عربي وعقل غربي بيننا عن الإرهاب بالمفهوم الغربي الحديث لازالوا يتعمدون خلط الأوراق وتجاهل مبدأ القرآن وحرصه ونهييه عن الاعتداء بصورة مطلقة قال تعالى ” وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ” (190- البقرة)
وهذا التوجيه الإلهي بالإعداد مع شرط عدم الاعتداء أي إعداد” دفاعي وليس هجومي” يتفق مع المعنى المعاصر للعلاقات الدولية الحديثة التي تتبنى المقولة اللاتينية القديمة التي تحولت فيما بعد إلى شعار للبحرية البريطانية “إذا أردت السلام فاستعد للحرب”.
إذاً فالقوم لا يتخلون عن ثقافتهم وتراثهم البشري القديم بل يستخدونه كأساس وجوهر في خططهم وتحركاتهم العسكرية والسياسية، بينما يُريد منا بعض بني جلدتنا أن نتخلى عن التراث الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنهم أصبحوا يعتقدون لأسباب غير معلومة أو معلومة أنه لم يعد يصلح لهذا الزمان!!
وخلاصة الفكرة هنا هي إظهار لقوتك وإعدادك للسلاح الذي يُرهب العدو يمنع الحرب لا كما يفهم بعض من لا يفهمون دينهم ويحملون أفكار مسمومة في عقولهم ونفوسهم عن الدين الذي يدعون أنهم يدينون به، إذاً فخروج السيد على ارباش كان رسالة سياسية بأن تركيا القوية لا تريد الحرب بل تريد السلام وذلك على عكس ما يفهم من لا يفهمون دينهم.
وذلك على عكس الواقع الغربي الذي يظهر القوة ويستخدمها في الاعتداء مع تبرير الاعتداء بالكذب والتدليس لإشباع شهية الدماء لدى الحضارة الغربية الحديثة التي تبحث عنها
دائماً أباطرة الحروب والسلاح.
وهنا لابد من التذكير بالاعتداء الغربي على العراق في العام 2003 ذلك الاعتداء الذي أعاد العراق للعصور الوسطى وأودى بحياة عشرات الملايين من الأبرياء في حروب عالمية أولى وثانية كارثية على أوروبا والعالم أجمع، وغيرها من الحروب التي قادها جورج بوش الابن رئيس الولايات المتحدة الأمريكية مع توني بلير رئيس وزراء بريطانيا العُظمى على العراق. فبحسب روسيا اليوم بتاريخ 6 يوليو 2016 وتحت عنوان: بلير: حزني وأسفي واعتذاري أكبر مما يمكنكم أن تتصوروا
تناول الخبر تقرير جون شيلكوت رئيس لجنة التحقيق حول الدور البريطاني خلال غزو العراق عام 2003، والذي قال فيه أن التدخل العسكري البريطاني كان خطأ أدى إلى عواقب خطيرة لم يتم تجاوزها حتى اليوم.
واستنتجت اللجنة في التقرير النهائي الذي قدمه شيلكوت، أن حكومة توني بلير انضمت إلى العملية العسكرية في العراق، قبل استنفاد كافة الفرص المتوفرة للحل السلمي، مضيفا أن العمل العسكري لم يكن “الملاذ الأخير”.
وقال شيلكوت خلال تقديمه تقرير لجنة التحقيق: “كان التدخل البريطاني في العراق خطأ، ونحن مازلنا نواجه عواقب هذا القرار للحكومة البريطانية حتى اليوم”. وأضاف أن رئيس الوزراء توني بلير تلقى تحذيرات من تنامي الخطر الذي يشكله تنظيم “القاعدة”، على بريطانيا.
إذاً ما قامت به بريطانيا العظمى كان مخالفاً للقوانين والمواثيق الدولية، وأدى إلى ما وصفه التقرير بالخطأ والعواقب الخطرة التي لم يتم تجاوزها حتى اليوم في 25 يوليو 2020 أي بعد مرور أكثر من أربع سنوات على صدور هذا التقرير الذي خرج ليذر الرماد في العيون، دون أي إجراءات والتزامات تصحيحية لأوضاع العراق.
والآن…
هل من ينتقد بريطانيا العظمى على تلك الجريمة التي لازال يعاني منها العراق؟هل العرب الذين يتباكون اليوم على التدخل التركي الذي يستهدف التنظيم الإرهابي بي كي كيه الذي صنعه أعداء تركيا ووضعوه على حدودها لتنفيذ عمليات إرهابية انطلاقاً من الأراضي العراقية والسورية تمهيداً لتقسيم تركيا كما حلموا في انقلابهم العسكري الفاشل في 15 يوليو 2016 يستطيعوا تطهير العراق وسورية من هذا التنظيم الإرهابي ووقف عملياته أم أن لهم ثُلثي الخاطر في إزعاج تركيا أردوغان ولو على حساب أرواح الشعب التركي البريء؟
إن المناكفة السياسية التي يقوم بها النظام العربي وخاصة دول حصار قطر، التي تقود الثورة المضادة في المنطقة هي من تقف ضد تركيا في العراق وسورية وليبيا مروجين كذباً وزوراً بما يُسموه في دعاياتهم السياسية بالغزو التركي للدول العربية، وهذا محض أكاذيب وافتراء.
فتركيا ترجوكم أيها العرب أن تكفوها شر التدخل في العراق وسورية وتكبدها خسائر في الأرواح والمعدات والأموال نتيجة تلك العمليات العسكرية المستمرة، لتقوموا أنتم بحفظ أمنكم القومي بمنع المنظمات الإرهابية من التواجد في العراق وسورية.
أما ليبيا، فلقد كان التواجد التركي رداً على الحلف الذي تم تدشينه ضد تركيا والذي تساءل موقع نون بوست عن مدى نجاحه بتاريخ 15 يوليو 2015 قائلأً: هل تنجح إسرائيل في إقامة تحالف بالبحر المتوسط ضد تركيا؟ أي قبل التدخل التركي الشرعي في ليبيا والذي جاء بتوقيع مذكرة التعاون مع حكومة الوفاق الوطني في نوفمبر 2019 أي بعد مرور ما يقارب من الأربع سنوات انتظرتها تركيا لترد على مخططات هذا الحلف الذي تدعمه إسرائيل.
بالطبع لا.. لا يستطيع العرب فعل ذلك، مع أن العراق دولة عربية، وعضو في جامعة الدول العربية؟
إذاً الإرهاب الذي يصفوننا به هو صنيعتهم وبضاعتهم التي ترد إليهم على شكل إرهاب داعش وقبلهما القاعدة
السؤال:
● لماذا لم يقل أحد لملكة بريطانيا أن التقليد الذي تقومين به قديم ولا يتناسب مع المراسم الدبلوماسية للعصر الحديث؟
● لماذا لم يتحدث أحد للملكة قائلاً: لماذا تمنحين لقب “فارس” في عصر انتهت فيه عصور الفروسية وأصبح لدينا جيوشاً حديثة برتب عسكرية حديثة؟
الإجابة هي: أن هؤلاء أصبحوا يُعبرون عن مدى سحق هاوية التغريب التي وقع فيها البعض ومدى الهزيمة النفسية التي لحقت بالبعض الآخر دون أن يدري.
ولهؤلاء من المهوسيين بالغرب وغيرهم أقول.. كن مُسلماً يعتز بدينه وحضارته كما تفعل ملكة بريطانيا على الأقل ولا تُبالي أين وقعت كلمة الحق الذي تدين بها إلى الله.
الغرب يدرك أن رفع السيف عن قوة هي رسالة ودعوة لعدم الاعتداء وارساء السلام مع تركيا القوية التي أصبح لها صوت وكلمة مسموعة يحترمها ويعترف بحقها الأقوياء في عالم لا يعرف سوى بحق القوة، ولغة القوة.
هذا هو أهم الدروس التي يجب أن تتعلمها الأمة من الخطوة التركية لاستعادة حق الدولة التركية، لإرثها الحضاري والتاريخي التي اكتسبته بسيف الفتح، لتربط التاريخ القديم بالحديث. ولتعلن أن فترة 86 سنة عجاف كانت فترة مقطوعة من التاريخ، وقد آن أوان إسقاطها من حسابات الأمة التركية والإسلامية معاً.
(المصدر: وكالة الأناضول / ترك بوست)