مقالاتمقالات المنتدى

آمنت بالله وحده

آمنت بالله وحده

 

بقلم أ. محمد إلهامي (خاص بالمنتدى)

 

وصدق القائل، إن الألفاظ أوعية للتعبير عن المعاني الصغيرة التي نستطيع أن نحتويها ونفرغها في كلمات وحروف.. وأما المعاني العظيمة التي تغمرنا وتملأ علينا أذهاننا وضمائرنا فهي أكبر من الكلام.

ربما يكون السبب أيضا في انتشار الكتابة ووسائل الإعلام والمسلسلات والأفلام انتشارا هائلا.. إن هذا الانتشار جعل الكتاب يتنافسون في الكتابة، ومعهم فقدت الألفاظ معناها.. صار من الهين عليهم أن يستعملوا لفظ كبير وعظيم وهائل وخطير ورائع وليس له مثيل… إلى آخر هذه الألفاظ، حتى فقدت الألفاظ معناها.

فلما جاءت الأمور العظيمة حقا، الكبيرة حقا، المروعة حقا.. لم نعرف كيف يمكن أن نصفها!!

هذا الزلزال الذي ضرب الشام وجنوب تركيا وما نتج عنه من المشاهد هي بحق أكبر من القدرة على وصفها، فهي مُلْجِمَة مُسْكِتة، يحار المرء ماذا يمكن أن يُقال فيها.

صدق القائل: لا يوجد ملحدون في الخنادق.. وذلك كما قال تعالى {وإذا مسَّكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه}.. فالإلحاد والعصيان مواقف نفسية لا عقلية، وهما من نتائج الترف والأمن والبطر، عندئذ تسيطر على المرء شهوته ومطامعه فينسى نفسه ويطمح إلى أن يُلغي الإله لكي لا يقف شيء أمام رغباته ونزواته.

اقرأ الآية مرة أخرى: {وإذا مسَّكم الضرّ في البحر ضلّ من تدعون إلا إياه، فلمّا نجاكم إلى البرّ أعرضتم، وكان الإنسان كفورا}

{قل من يُنَجِّيكم من ظلمات البر والبحر، تدعونه تضرعا وخُفية، لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين * قل: الله ينجيكم منها، ومن كل كرب، ثم أنتم تشركون}

ولكي يستقيم الإنسان فإنه بحاجة إلى هذا التذكير الشديد، فالبلاء الذي يصيب المرء إنما هو كالعلاج له.. ولقد عرفتُ من نفسي أني كنت في البلاء وفي أعقابه أحسن مما كنتُ قبله! وما أظن أحدًا يجادل في أنه عند الخوف والشدة يكون أقرب إلى الله وأخلص من حاله في حال الأمن والدعة.

ولكن الله يقيم حجته على الناس.. ولا يزال الله يرسل بالآيات البينات فإذا بالآية نفسها تكون سببا في هداية قوم، وسببا في ضلال آخرين.. هؤلاء الملحدون الذين اختفوا من الخنادق والزلازل، ما زالوا يعبثون على القنوات ومواقع التواصل.. فهم يعيدون تفسير وتوظيف هذا المشهد العظيم فيما يخدم فجورهم.. لا يشغل الواحد منهم في خضم هذا الدرس العظيم إلا أن يتمسك بالباطل الذي هو فيه..

هذا الملحد لا يرى في الحادث الضخم إلا أن يسأل: لماذا يعاقب الله المسلمين؟ لماذا لا تضرب الزلازل إسرائيل؟ لماذا يعذب الله الأطفال؟… إلى آخر هذا كله!

وهذه الأسئلة هو لا يجهل إجابة المؤمنين عليها، ولكنه يثيرها للتشكيك وإثارة الغبار.. فلئن كان ملحدا صادقا مع نفسه، واثقا في إلحاده، لم يكن ليسأل هذه الأسئلة.. فالإلحاد عدم، والكون صدفة، والزلازل نتيجة تفاعلات، والتفاعلات عمياء وهي حتمية، والإنسان الذي خُلِق بالصدفة، مات بالصدفة كما خُلِق.. الإلحاد لديه إجابة واحدة على كل سؤال، إجابة تقول: الكون أعمى، بلا حكمة ولا هدف، تصرفاته مجرد تفاعلات.. ولا يستطيع الإلحاد تفسير المشاعر، لأنها أمر فوق المادة.. فالرحمة والرقة والخوف والقسوة كلها أمور بلا معنى.. فالكون أعمى!

وأما المؤمنون فيقولون: سبحان ربنا.. ربنا الحكيم العليم الرحمن الرحيم.. يرسل بالآيات تخويفا.. يبتلي عباده بالآيات، يرفع بها بعضهم ويضل بها بعضهم، لا يُسأل عما يفعل لكمال علمه ورحمته وحكمته وعدله، يعلم الغيب ويعلم ما في النفوس، وهو يصلح شأن عباده بما هو أنفع لهم، ثم هو يعقبهم بعد هذه الحياة القصيرة حياة أخرى كبيرة خالدة.. غمسة واحدة في جنته تنسي الأشقياء كل شقاء الدنيا، وغمسة واحدة في ناره تنسي المنعمين كل نعيم الدنيا.. سبحانه هو طبيب عباده يداويهم بما يصلحهم ولو كان شديدا عليهم، ويعاقب المجرمين، ويُذَكِّر الغافلين.. سبحانه! أمره نافذ! فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط!

هذا الزلزال، وهو الآية البينة الواحدة، ترى فيها بعينك كيف يفترق فيها الناس، فمنهم شقي وسعيد..

ترى من يحمد الله ويشكره ويصبر على مصيبته، فتسمع منه من ألفاظ الإيمان ما يغرس الإيمان ويثبته في نفوس الآمنين المطمئنين.. وترى من يتسخط ويغضب وربما تلفظ بالكلام الذي يورده المهالك ويخرجه من الملة.

ترى من هبوا لمساعدة الناس، على اختلاف العرق واللون واللغة، فبذلوا من مالهم ووقتهم وجهدهم ما استطاعوا.. وترى من يمنعون الإغاثة عن أهل الشمال السوري المحرر، أو ترى العنصريين الذين وجدوها فرصة ليعيدوا بث الكراهية في الأتراك ويرفعوا من جديد شعار: التخلص من “عبء” السوريين!!

كيف تنغلق القلوب الصماء السوداء عن رؤية الموعظة البلغية في الآية الرهيبة، فلا تخرج منها إلا بالمزيد من الخزايا والجرائم؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى