بقلم د.إيهاب برهم
كانت العرب قبل الإسلام تعيش حياة بسيطة تعتريها الأمية والسذاجة والفوضوية و التخلف الحضاري ، وفساد في شبكة العلاقات والمنظومة القيمية ، فلم يكن لديها فلسفة أيدلوجية أو فكرية خاصة بها حول الوجود والكون والغيب – إلا ما ندر من أتباع الحنيفية – تميزها عن غيرها من الأمم .
من الفكرة المجردة إلى سعادة الدارين
ولما جاء الإسلام دين الله الخاتم الخالد ونزل القرآن الحكيم ، استطاع أن يصيغ من عقائده وأفكاره المجردة حول الخالق وصفاته و الآخرة بأحداثها وتفصيلاتها ( بعث ، حشر ، حساب ، جنة ، نار ) ، والغيب بكل جوانبه ، استطاع أن يصيغ وازعاً دينيا عميقا متمثلا بالتقوى ويقظة الضمير ، وحاكما اجتماعيا متينا يعتبر ميزانا للسلوك الإنساني ، ودافعا نفسيا فاعلا ( إرادة وهمة وإيجابية ) نحو سعادة الإنسان والمجتمع في الدارين .
فليس الإيمان بالغيب بالفكرة المجردة عن واقع الحياة ومعاشها ، ولا بالعقيدة الخرافية – حاشاها – والخيالية التي لا تأثير لها في السنن والقوانين الاجتماعية ، كما إنها ليست بالروحانية الجوفاء المنعزلة الفارغة من التفاعل مع منظومة العلاقات الإنسانية ، ولكن بالتصديق الجازم المشفوع بالعمل الصالح بكل صوره ، والإنتاج الحضاري والعمراني بشتى جوانبه .
قال تعالى في محكم التنزيل ( الم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين . الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) البقرة ( 2-3 ). فأول ما افتتح به من صفات المتقين الذين يهتدون بهدي القرآن: الإيمان بالغيب بعمومه ، والذي يشتمل على كل العقائد وركائز الإيمان ، والمتمثل بالفكرة مجردة .
تلاها انفعال وتفاعل مع هذه الفكرة (غير الخاضعة للحس ) ، وعمل وسلوك نحو الذات ( إقامة الصلاة ) ، و تجاه المجتمع ( الإنفاق ) .
إن الإسلام القائم على الفكرة المجردة ( عالم الغيب ) متصل اتصالاً قوياً ومباشراً بعالم الشهادة ، بل و متوجه نحو إصلاحه وصياغة فرده ومجتمعه وحضارته ومدنيته ، بالعلم النافع الفاعل والدين الطاهر النقي والفضيلة في أبهى حلة . فلا تعارض بين العلم والدين إذا ً، بل تكامل وتناسق وانسجام محكوم بعالم الغيب .
و الأمة الإسلامية الحقة لا تفرق ولا تعزل بين شؤون المعاش في الدنيا وأمور المعاد في الآخرة فهما مرتبطان في عقيدتها وذهنها أوثق ارتباط ، كارتباط المقدمة بالنتيجة والعلة بالمعلول .
من إصلاح الضمير إلى صلاح شبكة العلاقات الاجتماعية
لقد استطاع القرآن بمنظومة عقائده وشعائره وقيمه ، وبتكامل وشمولية وانسجام نظمه وأفكاره ، تهذيب النفس البشرية والمجتمعات الإنسانية في أصعب حالات انحرافها وفسادها و إلحادها ، قبل أن يبني الحضارة والمدنية والعمران في أردى وأدنى حالات تأخرها وتخلفها ، إذ إن التغيير الحقيقي في المجتمعات والنظم وشبكة العلاقات ، إنما يبدأ من النفس البشرية بأمراضها ومعتقداتها وعالم أفكارها ، فلا غرو إذاً أن منّ الله على المؤمنين في محكم التنزيل ونسب الفضل لنفسه العلية في تحقيق أسمى معاني الأخوة بين أفراد الأمة المتناحرين على مر سنين وعقود حين قال : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) الأنفال: 63 .
“يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : لو أنفقت ، يا محمد ، ما في الأرض جميعا من ذهب وورِق وعَرَض ، ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيلك ، ولكن الله جمعها على الهدى فائتلفت واجتمعت ، تقوية من الله لك وتأييدا منه ومعونة على عدوك . يقول جل ثناؤه : والذي فعل ذلك وسببه لك حتى صاروا لك أعوانا وأنصارا ويدا واحدة على من بغاك سوءا هو الذي إن رام عدو منك مراما يكفيك كيده وينصرك عليه ، فثق به وامض لأمره ، وتوكل عليه” . تفسير الطبري .
فانتظام شبكة العلاقات في لحمة متماسكة ونسيج واحد ، لم يكن ليكون لولا أن صهرت العقيدة الإيمانية كل الأعراق والأجناس و الألوان في بوتقة واحدة ، بوتقة الإيمان الصادق الراسخ ، الذي أذاب الشحناء والبغضاء والحواجز بكل أشكالها .
لقد وعى المسلمون الأوائل هدي القرآن الكريم و الفكرة الإسلامية جيداً ، وامتلأت قلوبهم وعقولهم بها فتفجرت طاقاتهم وقدراتهم ووضحت أهدافهم وغاياتهم ومسالكهم ، وانطلقوا فاتحين في الأرض مبشرين ومنذرين يحملون هذه الرسالة التي صاغها وعبر عنها ربعي بن عامر – رضي الله عنه – عندما ذهب لرستم قبيل معركة القادسية الفاصلة قائلا: [لقد ابتعثنا الله لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة] .
المصدر: اسلام أون لاين.