آلهة الهوى!
في سياق المخاطبة الودودة للنبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفرقان، التي كان منها الحديث عن ضلال المشركين عن توحيد الله وكفرهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم لخص القرآن أصل الإشكال، فقال سبحانه وتعالى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا 43 أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إنْ هُمْ إلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: ٤٣ – ٤٤].
وهذا في أوله سـؤال تعجب من حالهم، فهم في الحقيقة لا يعبدون شيئاً من دون الله لأنه ثبت لديهم أنه المعبود المستحق للعبادة؛ وإنما فعلوا ذلك بحسب ما تملي عليهم أهواؤهم، وبحسب ما تستحسنه ذائقتهم فحسب، فكان المعبود الحقيقي الذي يصرفون له العبادة هو هواهم لا الصنم ولا الوثن الذي صرفوا له أنواع العبودية. قال ابن عباس: «كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً، فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول»[1].
فما الحجة الشرعية والبرهان العلمي لعبادة الحجر الأبيض؟
وما الحجة الشرعية والبرهان العلمي لترك عبادته والتحول إلى عبادة الحجر الثاني؟
والله سبحانه وتعالى يصف هذا بالشرك: اتخاذ الهوى إلهاً. ثم عطف عليه باستفهام استنكاري عن كونهم لا يسمعون الحق أنى كان فيفهمونه ويتبعونه، أو يعقلون الأدلة والبراهين فتؤثر عليهم أصلاً، إنهم «أسوأ حالاً من الأنعام السارحة، فإنَّ تلك تعقل ما خُلقت له، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له؛ وهم يعبدون غيره ويشركون به، مع قيام الحجة عليهم، وإرسال الرسل إليهم»[2].
هكذا كانت حال المشركين؛ فلا حجة يتبعونها، ولا دليل يهديهم، فلا الحق أصابوا ولا أرادوا إصابته بداية!
عبادة الذات:
قد تصل الهشاشة الفكرية بالإنسان وخواء روحه من حقائق القرآن إلى أنْ يستبيح عقله، وأنْ يرفض الانقياد للأدلة والحجج والبراهين الدالة دلالة قطعية على توحيد الله تعالى بالعبادة، وأنْ يتحول من الخضوع لوثن إلى الخضوع لوثن آخر أحب إلى النفس.
وهي حالة مَرَضية تشفُّ عن قلب فاسد وروح ضالة تائهة، ولذلك نزلت هذه الآية لتقول لمحمد صلى الله عليه وسلم : «لا تتأسف عليهم، ودعهم لرأيهم، ولا تحسب أنهم على ما يجب من التحصيل والعقل، بل هم كالأنعام في الجهل بالمنافع وقلة التحسس للعواقب»[3].
ورفض الحجة الشرعية والبرهان العلمي، واتباع الهوى في كل ما يمليه دون النظر في المصالح الحقيقية العاجلة والآجلة هو روح عبودية الذات وهو جوهر اتخاذ الهوى إلهاً من دون الله، لأنَّ حقيقة العبودية تكمن في الخضوع والانقياد والاتباع والطاعة، فإذا صرفت هذه الأربع للأهواء والنفس والذات لم يتبقَ لله شيءٌ من العبودية الحقة، فإنَّ العبودية ليست حركات وتمتمات خالية من وظيفة القلب المرتكزة على الخضوع والانقياد.
وقد يسهل على الإنسان أنْ يخلع نفسه من عبادة الأصنام، وقد يسهل عليه أنْ يتبرأ من الأوثان، لكن الامتحان كل الامتحان أنْ لا يقدِّم هواه على الحجة والدليل، وأنْ لا يجعل ذاته ونفسه محور أفعاله وسلوكه واهتماماته، والامتحان كل الامتحان أنْ تعمد إلى ذلك الوثن القابع في خبايا صدرك وسويداء قلبك، فتكسره بفأس الخضوع لله وتذبحه بسكين الانقياد لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . هذي هي حقيقة التوحيد. قال ابن القيم: «التوحيد واتباع الهوى متضادان، فإنَّ الهوى صنم، ولكلِّ عبدٍ صنم في قلبه بحسب هواه، وإنما بعث الله رسله بكسر الأصنام وعبادته وحده لا شريك له، وليس مراد الله سبحانه كسر الأصنام المجسدة وترك الأصنام التي في القلب، بل المراد كسرها من القلب أولاً»[4].
ألا ترى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أرشد عمر إلى مسألة تأخير حب النفس بعد حبه صلى الله عليه وسلم ؛ فعن عبد الله بن هشام قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا، والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك. فقال له عمر: فإنه الآن والله، لأنت أحب إليَّ من نفسي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر»[5].
والاعتداد بالذات إلى الحد الذي يجعلها إلهاً يبذل لها الإنسان كل شيء هو آفة العصر الفاتكة، وأحد نواتج الحضارة الغربية الداعية إلى تعظيم الذات وجعلها مركزاً تبنى عليها المفاهيم والتصورات، ومن خلالها تتم عمليات التقويم والمعايرة؛ فما الفرق بعد ذلك بين إنسان الجاهلية الأولى الذي نزل القرآن بذمِّه وبين إنسان الحضارة الغربية الذي يعيش لذاته وللذاته؟ كلاهما مُعرِض عن الشرع والوحي، لا لأنَّ الحجة الشرعية صرفته ولا لأن البرهان العلمي دله؛ وإنما لأنه يتبع ما تهواه نفسه ويسلك كل سبيل تشتهيها نفسه، قال الحسن البصري: «لا يهوى شيئاً إلا تبعه»[6]. فكما أنَّ لله عباداً يتتبعون مراضي الله فيسلكون سبيلها، ويتعلمون آيات الله فيعملون بأحكامها فإنَّ قوماً يتتبعون ما تهواه أنفسهم فيسلكون سبيلها، ويبذلون لها المال والوقت والغالي والنفيس… تلك عبادة الذات.
وتحت شعار حقوق الإنسان أبيح للإنسان كل ما يشتهيه ما لم ينتهك القوانين، فهو أعرف بما يصلحه ويسعده، فله أنْ يأكل المال بغير وجه الحق، وله أنْ يشبع غرائزه بأي طريقة كانت، وله أنْ يبني العلاقات بدون أي محذور، وله أنْ يلبس ويتعرى، وله أنْ يخالف أصل فطرته وأنْ يغير من خلقه، كل ذلك دون تثريب ولا لوم، فالقانون يحميه، والوسائل المفضية إلى هذي المحذورات متيسرة.
وتحت شعار (الإنسان راشدٌ بذاته) لم يعد للمرشد الخارجي قيمة، وسقطت بهذا الشعار الأدلة وطمست أنوار الوحي، فهو قادر على تمييز الحق من الباطل والصواب من الخطأ، وله أنْ يعبد من شاء متى شاء على أي وجه شاء، وله أنْ يختار الدين الذي يريده، وله أنْ يخترع ما شاء كيفما شاء؛ حتى لو كان ضاراً وما أكثره اليوم، وحتى لو كان مدمراً (القنبلة النووية مثلاً)، فالإنسان السوبرمان إله بذاته، ويعيش إنسان الحضارة الغربية روح (بروميثيوس) التي تربى عليها منذ الصغر، في بيته ومدرسته وإعلامه.
واليوم يعيش العالم بأسره تمجيد الذات، ورفعها فوق كل اعتبار، ولأجل رفاهيتها ملأت الأسواقُ الأرضَ، وساد الاستهلاك وأصبح منهج حياة، وركض الإنسان خلف الموضة؛ الموضة في الماديات، والموضة في الأفكار، فلا يكاد يشبع نهمته من واحدة منها، إلا ونادى منادي الأخرى أنْ هلمُّوا، فأنت ترى كثيرين في دأب لا ينقطع وقلق لا يهدأ، بغية اللحاق بهذه الموضات؛ المادية والفكرية. وقد أخبرنا علماء النفس أنَّ الذي يتبع هواه لا يشبع ولا يقف عند حد، قال ابن القيم: (وليعلم اللبيب أنَّ مدمني الشهوات يصيرون إلى حالة لا يلتذون بها، وهم مع ذلك لا يستطيعون تركها، لأنهم قد صارت عندهم بمنزلة العيش الذي لا بد لهم منه)[7].
هوى الأفكار والمعتقدات:
واتباع الهوى ليس مقصوراً على السير في هوى النفس وميلها إلى الشهوات والمعاصي، وإنْ كان ذلك منه، وهو يقع في أهل الإسلام كثيراً، وجاءت النصوص بالتحذير منه، وفيه طرف من العبودية للذات وملذاتها، أقول: ليس اتباع الهوى مقصوراً على ذلك، بل يشمل أيضاً هوى العقائد والأفكار، وهي التي تكلم عنها أهل العلم في أبواب العقيدة، ووصفوا أهلها بأنهم أهل الأهواء، وجعلوهم في مقابل أهل السنة، قال الشاطبي: «سُمي أهلُ البدع أهلَ الأهواء لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظوراً فيها من وراء ذلك، وأكثر هؤلاء هم أهل التحسين والتقبيح، ومن مال إلى الفلاسفة وغيرهم»[8].
وقال ابن تيمية: «واتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات، فإنَّ الأول حال الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وذلك أنَّ كل من لم يتبع العلم فقد اتبع هواه، والعلم بالدين لا يكون إلا بهدى الله الذي بعث به رسوله، ولهذا قال تعالى في موضع: {وَإنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالْمُعْتَدِيْنَ} [الأنعام: ١١٩]. وقال في موضع آخر: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: ٥٠]»[9].
وخلاصة مفهوم هذه الأهواء مقالات وآراء وتصورات يتشربها المرء وتستهويه فيميل إليها ويرى فيها صلاح نفسه ومعاشه وحياته، فينشأ منها منظومة من الأفكار والمسلكيات التي يعتمدها في حياته.
وسواء كانت هذه الأهواء تتعلق بأصول الدين، أم بفروعه أم بهديه العام، ولذلك فرَّق أهل العلم بين مراتب الأهواء، فجعلـوا جزءاً منها في نطاق البدعة المخرجة من الملة، وجزءاً آخر في نطاق البدعة التي لا تخرج من الملة؛ وهي مراتب متفاوتة أيضاً.
وهي بهذا المفهوم يمكن وصفها بالدين، فإنَّ حقيقة الدين هو منظومة الأفكار والتصورات والاعتقادات التي تولِّد بالضرورة سلوكاً وهدياً ومذهباً في عامة حياة المرء.
ويدخل في ذلك البدع التي ظهرت في قرون الإسلام الأولى؛ كبدعة الخوارج والإرجاء والاعتزال والرفض، والتي لا تزال مقالاتها موجودة إلى زمننا هذا.
ويدخل في ذلك الدعوات المخالفة للإسلام التي ظهرت في القرون الأخيرة، لا سيما بعد الاستعمار، كالدعوة إلى القوانين الوضعية ونزع حجاب المرأة ورفض التمييز بين الجنسين وتصحيح دين اليهود والنصارى وحاكمية العقل على النص والتنمية البشرية عبر تقنيات الجذب والطاقة، وغير ذلك من الدعوات التي ربما استهوتها بعض النفوس واستحسنتها.
وكثير من الذين ولغوا في هذه الأهواء لم يكن لديهم الحجة الشرعية الكافية ولا البرهان العلمي اللازم لكي يتلبسوا بها وهم في كامل الاقتناع إلى حد اليقين بكونها صحيحة مستقيمة؛ إنما استحسنوها وهوتها أنفسهم لأسباب غير علمية، قال ابن كثير: «مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه، كما قال تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: ٨]»[10].
فربما استحسنوها لما وافقت شهواتهم أو أنهم اقتنعوا بمجرد الانبهار بطريقة عرضها وتسويقها، إذ يفقد (أهل الأهواء) المرجعية النقية والمعيار الجيد لفحص الأفكار والتصورات والمعتقدات، وهذا وجه نفي الله تعالى عنهم فهم الحق وإدراك الدلائل: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: ٨] بل جعلهم في باب الاحتجاج والسير وَفْقَ الأدلة في منزلة أحط فيها من الأنعام، قال ابن تيمية: (وسبب الفرق بين أهل العلم وأهل الأهواء أنَّ العالم قد فعل ما أُمر به من حُسن القصد والاجتهاد، وهو مأمور في الظاهر باعتقاد ما قام عنده دليله؛ وإنْ لم يكن مطابقاً، فالاعتقاد المطلوب هو الذي يغلب على الظن مما يؤمر به العباد، وإنْ كان قد يكون غير مطابق، فإذا اعتقد العالم اعتقادين متناقضين في قضية أو قضيتين؛ مع قصده للحق واتباعه لما أُمر باتباعه من الكتاب والحكمة: عُذر بما لم يعلمه؛ وهو الخطأ المرفوع عنا، بخلاف أصحاب الأهواء، فإنهم يجزمون بما يقولونه بالظن والهوى؛ جزماً لا يقبل النقيض، مع عدم العلم بجزمه، فيعتقدون ما لم يؤمروا باعتقاده لا باطناً ولا ظاهراً، ويقصدون ما لم يؤمروا بقصده، ويجتهدون اجتهاداً لم يؤمروا به، فلم يصدر عنهم من الاجتهاد والقصد ما يقتضي مغفرة ما لم يعلموه، فكانوا ظالمين شبيهاً بالمغضوب عليهم، أو جاهلين شبيهاً بالضالين»[11].
فهؤلاء – رغم ما يبذلونه من جهد في إصلاح حياتهم وطلب سعادتهم – يضلون الطريق، فيعتقدون أنَّ تلك المقالات والأفكار والمعتقدات المحْدَثة خيرٌ من هدي النبي صلى الله عليه وسلم لما حصل في قلوبهم من استحسانها لا بسبب الحجة الشرعية العلمية. وهذا أمر يختلف عن مجرد المعصية التي يقع فيها صاحبها وهو معتقد خطأ سلوكه، ويعقب وقوعه فيها ندم وتوبة أو تأنيب ضمير.
ذلك أنَّ الاستحسان يمنع التوبة والاستغفار، ويُشعر بالصواب، ويحفز على الاستمرار، وكذلك خطة الشيطان.
التسويق الشيطاني:
طالما أنَّ الحجة الشرعية غائبة، وطالما أن العقل معطل عن التفكير السليم؛ فكيف استساغ أولئك اتباع أهوائهم التي دلتهم على الفكرة الخاطئة والمعتقد الفاسد والسلوك المشين؟ بل يصيرون معتقدين أنهم على الحق، كما قال مشركو قريش: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا 41 إن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَن صَبَرْنَا عَلَيْهَا} [الفرقان: ٤١ – ٤٢]. فهم على ما فيهم من الجهل وانعدام الأدلة يتحدثون عن ضلال أهل الحق والحجة والبرهان!
القرآن يجيب عن ذلك، ويبيِّن لنا أنَّ للشيطان دوراً مهمّاً في هذه الغواية، وكيف أنه يقلب الموازين فيحسِّن القبيح ويعظِّم الجهل ويزيِّن العمل، في عدد من الآيات، منها ما ورد في قصة الهدهد عن قوم سبأ: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ 24 أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْـخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ 25 اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: ٢٤ – ٢٦].
الشيطان زين هذا الفعل، بأنْ جعله مقبولاً ومعقولاً، فيسبغ على العمل السيئ والاعتقاد السيئ شيئاً من المحبوبات للنفس، ويخدعه بأنْ يوهمه بأنَّ ما فيـه مصلحة مرجوحة ذو مصلحة راجحة، وما فيه مفسدة راجحة ذو مفسدة مرجوحة، قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإنَّهُ لَفِسْقٌ وَإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إنَّكُمْ لَـمُشْرِكُونَ} [الأنعام: ١٢١]. قال السعدي: «فإنَّ المشركين حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميتة وتحليله للمذكاة – وكانوا يستحلون أكل الميتة – قالوا معاندة لله ورسوله ومجادلة بغير حجة ولا برهان: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؟ يعنون بذلك: الميتة.
وهذا رأي فاسد، لا يستند إلى حجة ولا دليل، بل يستند إلى آرائهم الفاسدة التي لو كان الحق تبعاً لها لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن.
فتباً لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه الموافقة للمصالح العامة والمنافع الخاصة. ولا يستغرَب هذا منهم، فإنَّ هذه الآراء وأشباهها صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين الذين يريدون أنْ يضلوا الخلق عن دينهم، ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير.
وإنْ أطعتموهم في شركهم وتحليلهم الحرام وتحريمهم الحلال؛ إنكم لمشركون، لأنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله، ووافقتموهم على ما به فارقوا المسلمين، فلذلك كان طريقكم طريقهم»[12].
والآية تنص على وقوع هؤلاء في الشرك عياذاً بالله، وهذا ما يجعل المؤمن متحرياً للحق، حذِراً من اتباع الأهواء وتزيين الشيطان للأعمال، قال السعدي معقباً على تفسيره للآية السابقة: «ودلت هذه الآية الكريمة على أنَّ ما يقع في القلوب من الإلهامات والكشوف التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم، لا تدل بمجردها على أنها حق، ولا تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله، فإنْ شهدا لها بالقبول قبلت، وإنْ ناقضتهما رُدَّت، وإنْ لم يعلم شيء من ذلك توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب، لأنَّ الوحي والإلهام يكون من الرحمن ويكون من الشيطان، فلا بد من التمييز بينهما والفرقان، وبعدم التفريق بين الأمرين حصل من الغلط والضلال ما لا يحصيه إلا الله»[13].
واليوم في عصر التسويق وسلطة الإعلام يسلك الشيطان مَهْيَعاً[14] في إغواء الناس وصدهم عن الدين الحق ويسهل عليه تزيين الأعمال والأفكار والمعتقدات الباطلة، وتُغمر إدراكات الكثيرين بذلك، وأصبح بعض الناس صيداً سهلاً لكل صياد، والواجب الحذر، والحفاظ على الإدراك من الاختراق، وعرض الواردات على القرآن والسنة، وبهذا يسلم المرء من عبودية الهوى.
[1] تفسير ابن كثير: 5/596.
[2] تفسير ابن كثير: 5/596.
[3] تفسير ابن عطية: 7/296.
[4] روضة المحبين، ص482.
[5] أخرجه البخاري: 7/98، (6641).
[6] موسوعة التفسير بالمأثور: 16/108.
[7] روضة المحبين، ص522.
[8] الاعتصام: 2/684.
[9] مجموع الفتاوى: 28/132.
[10] تفسير ابن كثير: 5/596.
[11] القواعد النورانية، ص187.
[12] تفسير السعدي: 1/271.
[13] تفسير السعدي: 1/271.
[14] المَهْيَعُ: الطَّرِيق الواسع الواضح. (معحم مقاييس اللغة).
(المصدر: مجلة البيان)