مقالاتمقالات المنتدى

آدم عليه السلام والبيت الحرام

آدم عليه السلام والبيت الحرام

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

مما يذكر في هذا المقام ما ورد عن البيت الحرام ومكانه في الأرض، وأنه أول بيت وضع للناس في الأرض، وأن أول من بناءه آدم عليه السلام بقول الله عز وجل في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران:96].

فهو أول بيت وضع للناس يتعبدون الله فيه، يقول ابن كثير رحمة الله: يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس – أي لعموم الناس- لعبادتهم ونسكهم ويطوفون به، ويصلون إليه ويعتكفون عنده.( ابن كثير، 1997، ج1 ص 383)

ومما يتضح من كثير من الأحاديث أن أول بناء البيت الحرام كان من بدايات تاريخ البشرية على هذه الارض، قال ابن عباس رضى الله عنهما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ﴾ [البقرة:127]، وضع – يعني إبراهيم- البيت على أركان رآها قبل أن تخلق الدنيا بألفي عام، ثم دُحيت الأرض من تحته، وقال مجاهد: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي سنة، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى.(الخرعان، 2008، ص306)

وقال القرطبي رحمه الله: اختلف الناس فيمن بنى البيت أوّلاً وأسّسه فقيل: الملائكة، وقيل: إن الله عز وجل أوحى إلى آدم: إذا هبطت ابن لي بيتاً ثم احفف به كما رأيت الملائكة تحف بعرشي الذي في السماء، فهذا بناء آدم علية السلام، ثم بناه إبراهيم عليه السلام بعد ذلك، وهذه الأقوال وإن كانت تستند على أدلة لا تخلو من مقال -كما ذكر ابن كثير رحمة الله-، إلا أن هناك أدلة أخرى صحيحة تؤكد أن الله عز وجل قد اصطفى موقع بناء البيت منذ خلق السماوات والأرض وأنه قد بني قبل بناء ابراهيم عليه السلام له، فمن ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أوّل مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟  قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال أربعون عاماً… الحديث. ومما هو ثابت أن بناء بيت المقدس الأخير كان من قبل سليمان عليه السلام، كما رواه النسائي بإسناده من حديث عبد الله بن عمرو ومن المعلوم زمنياً أن بين إبراهيم وسليمان عليهما السلام أكثر من أربعين سنة بدون ريب، إذ سليمان هو ابن داود عليهما السلام وقد جاءا بعد موسى وهارون بزمن كذلك، وهم من ذرية بنى يعقوب ابن اسحاق عليهم السلام، فدل ذلك على ما أثبته الحديث السابق، وهو أنه بناء غير بناء إبراهيم علية السلام فقيل: إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنمّا جدّدا ما كان أسّسه غيرهما، وقد روي أن أوّل من بنى البيت آدم عليه السلام كما تقدّم فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاماً، ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله، وكل ٌمحتمل، والله أعلم.

وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به وكان هذا قبل خلق آدم، ثم آدم بنى منه ما بنى وطاف به، ثم الأنبياء بعده، ثم استتم بناءه إبراهيم علية السلام.

ومن الأدلة كذلك ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة،(الخرعان، 2008، ص 307) فقداسة هذا البلد وحرمته واصطفاؤه قديم قدم الأرض والسماوات، ويقول الإمام القرطبي في قوله تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ﴾ [إبراهيم:37]، يدل على أن البيت كان قديماً – على ما روي- قبل الطوفان. فهذه أدلة متضافرة على تأكيد أقدمية بيت الله الحرام، وأنه أول موضع تجلى به التوحيد الخالص على وجه هذه الأرض والتأم فيه شمل المؤمنين لعبادة الله عز وجل.

غير أن البيت رفع -كما ورد في بعض الروايات-أو أنه تهدم بسبب الطوفان، ولم يبق منه إلا قواعده وأسسه، وتشتت الأمم في الأرض، ولم يعد البيت الحرام هو مرتكز النبوة والرسالة، فقوم هود في الأحقاف، وقوم صالح في الحجر، وقوم شعيب في مدين، وهكذا من بعدهم من الأمم، ولم يعد بناؤه إلا على يد أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام. (الخرعان، 2008، ص307)

ولعل من أجل العبر والدلائل ما خص الله به هذه الأمة من رعاية هذا البيت العتيق، وأنه جعلها أمة البيت الحرام، وبعث الله هذا النبي الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم من أهله، في إشارة إلى البشرية قد بلغت منتهاها، وآن لها أن تعود إلى ما كانت عليه في عهدها الأول أمة واحدة، كما هي في عهد آدم وذريته الذين كانوا على دين واحد هو التوحيد، لا تتعدد فيه الشرائع ولا يقبل الله من أحد غيره.

إن ميراث أمة محمد صلى الله عليه وسلم للبيت الحرام، الذي هو أول بيت وضع للناس دليل على أن قيادة البشرية تنتهي إليها، وأنها وريثة آدم في التوحيد والإيمان بالله عز وجل، وإفراد العبادة له وحده سبحانه وتعالى، وأنها الشهيدة على الناس قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة:143]. (الخرعان، 2008، ص308)

إن الحج ركن من أركان الإسلام الكبرى، يثبت العقيدة في نفوس المؤمنين حتى تقتفي آثار رسولها الكريم وتأخذ عنه مناسكها، أو حين تلبي نداء الله من قبل حين أمر الله تعالى إبراهيم عليه السلام بقوله: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ۝ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج:27-28].

كما أنه يزيد الصلاح حيث تجتمع فيه العبادات كلها من صلاة وصيام وصدقة وذكر الله تعالى وإخلاص في العبادة، وصبر على طاعة الله وطواف بالكعبة وغير ذلك من الأعمال، التي ينال بها الحاج رضوان الله ومغفرته، ومباهاته سبحانه بهم يوم عرفة ملائكته، إنه مؤتمر إسلامي عالمي يتساوى فيه الناس في المشاركة فيه ويتفاوتون في درجات العمل وصدق التوجه إلى الله، فلا يكتمل صلاح الفرد إلاّ بالحج المبرور الذي ليس له جزاء إلا الجنة. (الغامدي، 2003، ص 299).

 

 

____________________________________________

مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، قصة بدء الخلق وقصة آدم عليه السلام، دار ابن كثير، بيروت، 1442ه-2021م صص 1181-1185

محمد بن عبد الله الخرعان، قصة الخلق، دار كنوز إشبيليا للنشر والتوزيع، الرياض،1429ه-2008م.

إسماعيل بن عمر ابن كثير، البداية والنهاية، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، 1471ه- 1997م.

علي خميس الغامدي، الإنسان الصالح وتربيته من منظور إسلامي، دار طيبة الخضراء، مكة المكرمة، ط1، 1424ه-2003م.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى