? أنَفَة العرب من الظلم!
بقلم أ. د. فؤاد البنا
من يستقرئ تاريخ الأمم التي برزت في مضمار العروج الحضاري؛ يجد أنها قد امتلكت حظا وافراً من الكرامة والاعتزاز بالذات وتمتعت بقدر نسبي من الحرية، وأنها تأنف الذل والصغار وتأبى قبول الضيم والعيش بمهانة، بمعنى أن كرامتها أغلى من نفوسها!
وفي تأملاتي حول أسرار اختيار الله للعرب من أجل حمل الرسالة الخاتمة، رغم أنهم كانوا حينئذ أفقر الأمم ثروة وثقافة وأضيقها أرضا، ومن أقلها عددا وعدة وأشدها تنافرا واحترابا، فوجدت أنها كانت تمتلك قدرا وافرا من الأخلاق الكريمة، وتتمتع بحرية تصل إلى حد الفوضى وبحمية لا تتورع عن ارتكاب المظالم، فقد كان كثير من العرب يظلمون غيرهم حتى لا يقع عليهم الظلم، كما قال شاعرهم:
ومن لا يظلم الناس يُظلم!
وللعرب حكايات عجيبة في هذا الشأن، فقد سئل أحدهم: أتحب أن تموت ظالما أو مظلوما؟ فقال: بل ظالما. قيل له: ولمَ؟ قال: ما عذري إن قال لي ربي: خلقتك سويا قويا، فلماذا قبلت الظلم؟! وقيل لآخر: أيَسرّك أن تدخل الجنة وتتسامح مع من أساء إليك؟ فقال: بل آخذ ثأري وأدخل النار!
وبسبب هذه النفسيات، فقد نشبت الفتن بين قبائل العرب لأتفه الأسباب، واشتعلت الحروب نتيجة إهانة بسيطة أو زلل غير مقصود، وربما طاحت رؤوس وانسكبت دماء من أجل حيوان، كما في حرب البسوس التي استمرت ٤٠ سنة، والحقيقة أن الحرب لم تكن من أجل ناقة البسوس، فقد كان العربي كريما إلى حد السفه، إذ يمكن أن يذبح ناقته الوحيدة لعابر سبيل لا يعرفه، وفقا لتقاليد الضيافة المقدسة عندهم، وإنما كان من أجل كرامة بني بكر التي سفك دمها بنو تغلب في ذات الوقت الذي اتجه فيه سهم زعيمهم كليب بن وائل نحو تلك الناقة التي كانت ملكا لخالة جساس وهو من رؤوس بني بكر!
ولما انبعث الإسلام وسط هؤلاء الأعراب جعل من مشاعر الحرية والحمية ومن انفعالات الأنفة والإباء، ذخيرة له في إذكاء همم المؤمنين الذين انطلقوا كجنود باسلة لإنجاز الفتوحات الإسلامية، حيث هذبها من مشاعر الثأر والانتقام وخلّصها من زوائد الظلم والتمثيل، وأبعدها عن غرائز الاستئثار بأموال المخالف والاستعباد لمقاتليه، ثم استثمرها في إشعال جذوة الجهاد من أجل الفكرة الإسلامية التي تبتغي تحرير المستضعفين من عبودية العباد وتحقيق العدالة بين جميع البشر بمختلف أعراقهم وألوانهم وطبقاتهم، حيث انطلقت الفتوحات تطوي الأرض لا تلوي على شيء، فتساقط الظالمون أمام رياح التحرير كما تتساقط أوراق الشجر في فصل الخريف.
ولقد أعلن قادة الفتوحات بألسنة الحال قبل المقال أن لا ظلم ولا اضطهاد لأحد من الناس، مهما كانت ديانته وطائفته أو مكانته وطبقته أو لونه وعرقيته، وأكدوا أنه لا قَسْر ولا إكراه لمن كرّمه الله بعطية العقل وابتلاه بأمانة الاختيار، منطلقين من وعيهم بمقاصد القرآن وامتثالهم التام لتعاليمه السماوية السامية، حيث أطلق القرآن قاعدة الاختيار العقدي التي تقول بكل حسم وحزم: {لا إكراه في الدين}، مؤكدا على تجريم كل صور الإكراه، كما يفيد تنكير كلمة {إكراه}، ذلك أن التنكير يفيد العموم ويستغرق كافة الصور التي تدخل تحت عنوان التأثير على الإرادة الحرة، وحتى لا يتخفى المؤمنون تحت عناوين خادعة في إجبار الناس على اعتناق الإسلام؛ فقد جعل الشرع الاختيار العقلي التام والقناعة القلبية الكاملة شرطا لقبول الإيمان.
وقد حدد القرآن الكريم الغاية من الجهاد القتالي في قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله}، والفتنة هنا تأتي بمعنى استخدام أي أسلوب أو وسيلة تحول دون تطبيق المرء لما يقتنع به من أفكار ومواقف، ومرة أخرى استخدم القرآن كلمة نكرة وهي {فتنة}، حتى تشمل كل ما يحول دون اعتناق المرء لما يقتنع به من رؤى وتصورات.
ونستنتج مما سبق أن عرب عصرنا يستحيل عليهم أن يستأنفوا العروج الحضاري ويصلوا إلى مقام القوامة على الناس ما لم يكونوا كاملي الحرية في ذواتهم وشديدي الحساسية تجاه حريات جميع الناس، وهذا ما يجب أن تتضافر جهود جميع من يهمهم أمر الأمة من أجل تحقيقه، على الأقل في الكتلة الحرجة التي تستطيع قيادة التغيير، ودفع ضرائبه وتحمل تكاليفه!