مقالاتمقالات المنتدى

? مقاصدُ الحَجّ (2-2)

? مقاصدُ الحَجّ (2-2)

 

بقلم أ. د. فؤاد البنا

(المنتدى)

 

? إبرازُ مقْصد التيسير:
الحج هو أشَقّ العبادات بعد الجهاد، ومع ذلك فإن الله الذي قال لمحمد: {طَه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ} [طه:1، 2] هو الذي فرض الحَجّ على من استطاع إليه سبيلاً، ومن كان فقيراً أو ضعيفاً فلا يجب عليه الحج.
ثم إن من انطبقت عليه شروط الوجوب لا يُكلِّفه الله في الحج بما لا طاقة له به، ذلك أن المبدأ العام يقوم على: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة: 185] ولأن السُّنّة مُبيِّنة للقرآن فإن من يقرأ كيفية حَجِّه ﷺ سيرى بجلاء اليُسر والسّلاسة ينسابان من تصرفاته وتوجيهاته صلى الله عليه وسلم، وسيعرف أنه نهى عن التكلّف والقسوة على الذات، وعندما كان الناس يستفتونه في كثير من هيئات الحج وفرعياته كان يقول لكل أحد: “إفعل ولا حَرَج”، تجسيداً ليُسْر الإسلام وسماحته.
وراعى الإسلام الفروق الفردية بين الناس في سائر مشاعر الحج، ففي مَشعر المبيت في منى ورمْيِ الجمرات مثلاً نجد قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ لِمَنِ اتَّقَىٰ ۗ} [البقرة: 203].
ولم يَقُل بأن المُتعجِّل لا إثم عليه وللمتأخر أجرا أكبر، من أجل أن يُربّي المسلمين على التسامح واحترام التنوع، ويدفعهم إلى مراعاة طبيعة الاختلاف في الخَلق والإيمان بإمكانية تعدد الصواب!

? المُزاوجة بين الدنيا والآخرة:
في الرؤية الإسلامية لا تفريق بين الدنيا والآخرة، فالآخرة هي الغاية والحصاد، لكن لابد من وسيلة الوصول ومن بذرة الحصاد وهي الدنيا.
ويُبْرز الحَجُّ هذه الخصيصة بجلاء، فقد علّل المولى عزّ وجَلّ إيجاب الحج بقوله: {لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] والمنافع متعددة منها ما تخص المعاش ومنها ما تخصّ المعاد، ومن ذلك طلب الرزق حيث أجمع العلماء على جواز التجارة في موسم الحج، مستدلين بالآية السابقة، وبقوله تعالى :{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْۚ} [البقرة: 198].
وفي سياق التوجيه للاستعداد لموسم الحج قال تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ} [البقرة: 197]، والأمر بالتزود في الآية يختص بالزاد المادي، وبذلك يتعانق الزادان المادي والمعنوي، وتتعاون حاجات الجسم ومطالب الروح في بناء الشخصية المتوازنة التي تستعمر الأرض وهي تتطلّع نحو السماء، والتي تُبَسْتِنُ الدنيا وهي تَسْتَشْوف الفردوس الأخروي!
ولوضوح هذا الأمر في بال النبي ﷺ فقد كان يدمج بين الدنيا والآخرة في أدعيته حتى أثناء الحج، إذ كان أكثر ما يدعو بالدعاء القرآني: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201].

? تنميةُ الرّوح الإيجابية:
يبني الإسلام الروح الإيجابية في الشخصية المسلمة من خلال العديد من محطات الحج، كإباحة المُتاجرة والحثّ على التعارف والتعاون، وتحريم سائر أسباب الفساد حتى ولو كانت صغيرة، وجَعَل من كفّاراتها تعزيزاً للروح الايجابية، الفردية منها والجمعية، وحثّ على اجتراح الخيرات جميعها.
ثم إنه يربط هذه الروح الإيجابية بنماذج تأريخية خلّد ذكرها عبر مشاعر ومحطّات الحج التي جسّدت مواقف تلك النماذج السامقة، كهاجر أمّ إسماعيل التي نزلت في واد غير ذي زرع ثقةً بحكمة الله بعد أن عرفت من الخليل إبراهيم أن هذا أمره تعالى، وعندما انتهى الماء وعطش وليدُها بحثت عن الأسباب التي ستحقق وعد الله ، وظلت تسعى بدأب بين ما أصبح يُعرف بالصفا والمَرْوة.
إن تخليد الإسلام لقَلَقها البشري وتحرُّكها السّببي، هو تخليد لقيمة الإيجابية وإبراز لأهمية الأسباب ومشاعر المسؤولية.
ويعطينا القرآن درساً آخر من دروس الإيجابية في الحَجّ، قال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203]، فإن المقصود بذكر الله المَبيت في مِنَى، وأهم ما يتم عمله هناك هو رمْيُ الجَمَرات التي تُجسِّد إبليس ووسوساته، وقد أوردت الآية الأمر بذكر الله في هذه الأيام ولم تتحدث عن الشيطان، إشارةً إلى أن العامل الأساسي في الاستجاية للشيطان هو غفلة الإنسان عن الله، ولقد انتصر إبراهيم على الشيطان باستحضاره لجلال الله، وسيظل ذكر الله هو الدرع الذي من لبسه أمن من سهام إبليس مهما كانت قوية.
إن ذكر الله يمنح المسلم النباهة العقلية واليقظة الروحية مما يضعف قابليته لتسلل الشيطان.
ومع أن كيد الشيطان ضعيف، فإن الإنسان إن لم يتحصّن منه بالذكر فقد يصير مجرد لعبة بين يديه!

#بورك_المتدبرون.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى