مقالاتمقالات مختارة

وهؤلاء المتطاولون على السنة المشرفة متى يُجَّرمُ فعلهم؟

وهؤلاء المتطاولون على السنة المشرفة متى يُجَّرمُ فعلهم؟

بقلم فضيلة د. عبد الآخر حماد الغنيمي ( عضو رابطة علماء المسلمين )

قرأت منذ أيام خبراً مفاده أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان قد أصدرت حكماً بأنَّ الإساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تندرج ضمن حرية التعبير ، وقد جاء ذلك الحكم تأييداً لحكم سابق صدر من محكمة نمساوية بإدانة امرأة كانت قد تفوهت بتصريحات مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك من خلال ندوة تحدثت فيها عن زيجات الرسول صلى الله عليه وسلم ،واعتبرت المحكمة أنّ تصريحات تلك السيدة قد ” تجاوزت الحد المسموح به في النقاش، وتصنف كهجوم مسيء على رسول الإسلام، كما تعرض السلام الديني للخطر”.
حين قرأت هذا الخبر قلت : سبحان الله هكذا ينتصر القضاء الأوربي لرسول الإسلام ضد من يحاولون التهجم عليه والانتقاص من شريعته ،بينما نجد في ديار الإسلام من جعل الهجوم على سنة خير الأنام ديدناً له دون خوف من عقوبة أو رادع من ضمير .
فهناك مجموعة ممن يسمون أنفسهم بالمفكرين أو الباحثين جعلوا كل همهم الهجوم المستمر على كتب السنة المعتمدة ،وعلى رأسها صحيحا البخاري ومسلم ، حتى وصف أحدهم البخاري بأنه ( مسخرة )، وزعم أحدهم أن صحيح البخاري هو السبب فيما يسميه بالتطرف الذى تشهده المنطقة هذه الأيام . ورفع أحدهم قضية على شيخ الأزهر يطالب فيها بإلزامه بتنقيح كتاب صحيح البخارى وتنقيته من الأحاديث المدسوسة، على حد وصفه .
إننا نعتقد تمام الاعتقاد أن الغاية من مثل هذه الاتهامات ليست تنقية السنة كما يزعمون ، وإنما هم يريدون الطعن في السنة ذاتها توصلاً لهدم الدين كله ، وهم يتهموننا بأننا نقدس البخاري وندعي له العصمة ، وذلك ليس بصحيح ، وإنما الصحيح أن علماءنا منذ القديم قد وضعوا من القواعد العلمية الدقيقة ما يمكن به تمييز الحديث الصحيح عن غيره ، وأنهم بمقتضى تلك القواعد حكموا بصحة ما في الجامع الصحيح للإمام البخاري رحمه الله ، ومع ذلك فإن هذا لا يمنع من انتقاد بعض أشياء في صحيح البخاري ،بل قد انتقد بعض جهابذة هذا العلم الشريف أحاديث وردت في البخاري ومسلم كما فعل الدارقطني رحمه الله ، لكن الفرق شاسع بين انتقاد الدارقطني وأمثاله -الذين ينتقدون بمقتضى قواعد ومنطلقات علمية سليمة يمكن التحاور معهم على أساسها – وبين انتقاد هؤلاء الذين ينطلقون من منطلقاتٍ لا أقول إنها تجافي قواعد علم الحديث ، بل هي أيضاً تجافي أبسط قواعد المنطق وبدائه العقول.
1-فهذا كاتب منهم يكتب في إحدى الجرائد اليومية مدافعاً عن الكلاب بزعمه ،منتقداً الأحاديث الواردة في البخاري وغيره في الأمر بغسل ما ولغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب ،زاعماً أن تلك الأحاديث إنما قالها أبو هريرة لأنه كان يحب القطط جداً . فهل رأيتم تفسيراً أسمج ولا أسخف من هذا التفسير ؟ وهل كل من يحب القطط لا بد أن يعادي الكلاب ؟ . إن هذا الكاتب المسكين قد لا يعلم أن أبا هريرة نفسه قد روى حديثين فيهما الإحسان إلى الكلب والبرِّ به ،أما الأول فهو ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (بينما كلبٌ يطيفُ برَكِيَّةٍ قد كاد يقتلُه العطشُ . إذ رأَته بَغيٌّ من بغايا بني إسرائيل . فنزعتْ موقَها ، فاستقتْ له به ، فسقَتْه إياه ، فغُفِر لها به ).[ أخرجه البخاري(3467) ومسلم(2245)]، وأما الحديث الثاني فهو في الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بينا رجل بطريقٍ ، اشتدَّ عليه العطشُ ، فوجد بئراً فنزل فيها ، فشرب ثم خرج ، فإذا كلبٌ يلهثُ ، يأكلُ الثرى من العطشِ ، فقال الرجلُ : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثلَ الذي كان بلغ مني ، فنزل البئرَ فملأ خفَه ماءً ، فسقى الكلبَ ، فشكر اللهُ له فغفر له . قالوا : يا رسولَ اللهِ ، وإن لنا في البهائمِ لأجراً ؟ فقال : في كلِّ ذاتِ كبدٍ رطبةٍ أجرٌ).[البخاري (2466) ومسلم (2244)].فماذا سيقول صاحبنا في شأن هذين الحديثين ،والراوي لهما هو أبو هريرة الذي يتهمه بمعاداة الكلاب ومصاحبة القطط !
ثم إن الأحاديث التي فيها الأمر بغسل ما ولغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب ليست كلها من رواية أبي هريرة، وإنما ثبتت من رواية عدة من الصحابة غيره فعن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات ،وعَفِّروه الثامنةَ في التراب)[ أخرجه مسلم (280) وأبو داود( 74)].
وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات )[ أخرجه ابن ماجه (366) وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه ].فهل كان عبد الله بن عمر وعبد الله بن مغفل صديقيْن للقطط أيضاً ؟!
2- وهذا مدعٍ ثانٍ يطعن في روايات ابن عباس رضي الله عنه ، ويسميه بالصبي لأنه كان عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم صغير السن ، ويقول : ( هل من المعقول أن يحكي صبي صغير كابن عباس وهو طفل بالعاشرة من عمره 1660 حديثاً وأكثر كثيراً، تُرى أكان هذا الصبي متفرغاً للرسول ،وكان سيدنا الرسول متفرغا له!!؟؛ …..ثم نسمح بعدها أن تكون أقوال الصبي مصدراً من مصادر الإسلام تبنى عليها الأحكام وتُقاد لها الأنفس، ألا تستحي أمة أن تقول على طفل بأنه حبر للأمة )
ولا يدري هذا المفتري على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هناك شيئاً في مصطلح الحديث اسمه مرسل الصحابي ،خلاصته أن الصحابي -وبخاصة من كان من صغار الصحابة -قد يسمع الحديث من صحابي غيره سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرفعه الصحابي الصغير مباشرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأن تلك المراسيل مقبولة عند عامة أهل العلم إذ إن جهالة الصحابي لا تضر فكلهم ثقات عدول .
3- وهذا ثالث يجتر رواية ممجوجة فيها الإساءة إلى أبي هريرة رضي الله عنه كان قد ذكرها من قبل المدعو محمود أبو رية في كتاب له بعنوان : ( شيخ المضيرة أبو هريرة ) ،وخلاصتها أن أبا هريرة كان يحب أكلةً اسمها المضيرة، فيأكلها مع معاوية، وإذا حضرت الصلاة صلى خلف علي، فإذا قيل له في ذلك قال: ( مضيرة معاوية أدسم، والصلاة خلف علي أفضل ) .وهي رواية باطلة لا يعرف لها سند صحيح ،ذكرها من قديم بعض أهل التشيع والاعتزال ، وكيف يصح ذلك في العقول كما يقول الدكتور محمد أبو شهبة رحمه الله في كتابه دفاع عن السنة النبوية ( وعليٌ كان بالعراق، ومعاويةُ كان بالشام، وأبو هريرة كان بالحجاز، إذ الثابت أنه بعد أن تولى إمارة البحرين فى عهد عمر رضي الله عنه لم يفارق الحجاز .. وبهذا يتبين لنا كذب ادعاءاتهم، ويظهر لنا مدى حقدهم، اللهم إلا إذا كانت الشيعة ترى أن أبا هريرة أعطى بساط سيدنا سليمان عليه السلام أو كانت الأرض تطوى له طياً!!!)
4- وهذا رابع ينشر في إحدى مجلاتهم ما أسماه دراسة أصولية تاريخية حول حد الردة ، فكان مما سود به دراسته المزعومة قدحه في الإمام البخاري رحمه الله بطريقةٍ تدل إما على أقصى درجات الجهل وإما على أقصى درجات التدليس ، فقد قال عن البخاري رحمه الله : ( وجعله الذهبي ضمن الضعفاء والمتروكين في كتابه الذي يحمل نفس الاسم ) .
وهذا والله كذب ذو قرون كما يقولون ؛ وذلك لأن البخاري الذي جعله الذهبي ضمن الضعفاء والمتروكين هو بخاري آخر غير البخاري صاحب الصحيح ، فإن نص كلام الذهبي كما في ( ديوان الضعفاء والمتروكين : 2/ 283 ) هو : (( محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري قدم بغداد بعد الخمسمائة وكتب عنه جماعة ، قال ابن الجوزي : كذاب ، قلت : أما محمد بن إسماعيل الإمام مؤلف الصحيح فثقة .. )). وفي كتاب المغني يذكر الذهبي نحو كلامه السابق ، غير أنه يدافع عن الإمام البخاري بصورة أقوى فيقول : (( فأما أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري مولى الجعفيين فحجة إمام ولا عبرة بترك أبي زرعة وأبي حاتم له من أجل اللفظ لأنه مجتهد في المسألة بل ومصيب )).[ المغني في الضعفاء (2/165) .
وبعد : فإننا نرى أن كل ما سلفت الإشارة إليه إنما هو جزء من حرب ضروس تُشنُّ على السُّنة المطهرة من خلال الطعن في رواة الحديث الشريف من الصحابة ومَن بعدهم ، يشنها بعض أدعياء العلم والمعرفة ، ينقل بعضهم عن بعض ،بداية ببعض أهل البدع في القديم من أهل الاعتزال ومن لفَّ لفهم ،ثم سار على دربهم بعض المعاصرين من أمثال الشيعي عبد الحسين شرف الدين ،ومروراً بأبي رية وبعض تلاميذه ،وكذا جولد تسيهر ومَن على شاكلته من المستشرقين ،وصولاً إلى كتبة هذه الأيام ، الذين لا يزالون يكررون نفس الكلام ، وتَفتح لهم كثيرٌ من القنوات أبوابها ليبثوا من خلالها أباطيلهم وسمومهم ، فإلى الله المشتكى.

(المصدر: رابطة علماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى