ورفعنا لك ذكرك
بقلم د . محمد عبد الكريم الشيخ “الأمين العام لرابطة علماء المسلمين”
(خاص بالمنتدى)
﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [الشرح: ٤].
يقول مُجَاهِدُ بنُ جَبرٍ (تلميذُُ ابن عباسٍ رضي الله عنهما ): ﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ قَالَ: (لاَ أُذْكَرُ إِلاَّ ذُكِرْتَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) .
هذا .. وإنَّ من مقتضيات رفعِ الذِّكرِ لرسولنا محمدٍ ﷺ، ما أخبرنا الله به من حمايتِهِ من كلِّ ما يضعهُ؛ وصيانةِ جنابهِ من جميعِ ما يُنقصهُ .
وقد تأكَّدَت تلك الحمايةُ في أرْبَعةٍ وعودٍ إلهيَّةٍ :
أوَّلُها :عصمةُ اللهِ نبيَّهُ ﷺ من الناسِ قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: ٦٧]يقول شيخُنا العثيمين رحمه الله: “ اللهُ عزَّ وجلَّ التزمَ بأنْ يعصمَهُ من الناس، ومعلوم أنَّ اللهَ إذا التزم بمثل هذا فإنه محروس أشدَّ من حراسة بني آدم “ .
ثانياً:كفايتُهُ له ﷺ عموماً؛ قال الله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: ٦٤].أيْ: كافِيكَ وكافِي مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ .
ثالثاً: كفايتُهُ خصوصاً ممن سخر منه أو استهزءَ به .قال الله تعالى :﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر ٩٥]والمعنى: كفيناك الانتقامَ منهم، وإراحتك من استهزائهم، فنحنُ منْ سنتولّى ذلك عنك ، فهو وعْدٌ من الله لرسوله ﷺ أن لا يَضُرَّهُ المستهزئون، وأن يكفيه الله إيَّاهم .
وقد أنزل الله تعالى هذه الآيات لما تمادى المستهزءون من قريش بالنبي ﷺ ، فجعلها الله كفايةً عامةً لا تُحصر أنواعُها، ولا يُحَدُّ أفرادُها .
رابعاً : بترُ دابرِ مُبغضيهِ؛ ﴿ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ﴾ [الكوثر: ٣]،فكلُّ من شَنَأَهُ أو أبْغَضهُ وعاداهُ فإنَّ اللهَ يقطعُ دابرَهُ ويمحقُ عينَهُ وأثَرَهُ .
والتاريخُ الغابرُ أبلغُ دليلٍ؛ والوقائعُ الكثيرة خير شاهد؛فما يجيءُ أحد – على مر التاريخ – فيَسْتهزِءُ بنبيِّنا محمدٍ ﷺ، أو يسخر ُمنه؛ إلاَّ قطعَ الله دابرَهُ؛ وعاجَلَهُ اللهُ بالعقوبة؛ حتى مضى ذلك الإنتقامُ سنةً كونيةً متكررةً.
?قال ابنُ إسحاقَ: فحدثني يزيدُ بن رومان، عن عروةَ بن الزبير، أو غيره من العلماء، أنَّ جبريل أتى رسول الله ﷺ وهو يطوف بالبيت، فقام وقام رسول الله ﷺ إلى جنبه،
☑️- فمرَّ به الأسود ابن المطلب فرمى في وجهه بورقة خضراء، فعَمي.
☑️- ومر به الأسود بن عبد يغوث، فأشار إلى بطنه، فمات منه.
☑️- ومرّ به الوليد بن المغيرة، فأشار إلى أثر جرح بأسفل كعب رجله – كان أصابه قبل ذلك بسنتين وهو يجر إزاره – وذلك أنه مر برجل من خزاعة يريش نبلا له، فتعلق سهم من نبله بإزاره، فخدش رجله ذلك الخدش، وليس بشيء – فانتقض به فقتله.
☑️- ومرّ به العاص بن وائل، فأشار إلى أخمص قدمه، فخرج على حمار له يريد الطائف، فربض على شبرقة فدخلت في أخمص رجله منها شوكة فقتلته.
☑️- ومرّ به الحارث بن الطلاطلة، فأشار إلى رأسه، فامتخط قيحا، فقتله..[[السيرة لابن إسحاق ( ٢٥٤/٥)، وتفسير القرآن لابن كثير (٥٥٢/٤)].
? وروى البيهقيُّ والحاكمُ وصححه ووافقه الذهبي:” أنَّ (لَهَبَ بْنَ أَبِي لَهَبٍ) كان يَسُبُّ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: “اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ”، فَخَرَجَ فِي قَافِلَةٍ يُرِيدُ الشَّامَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ دَعْوَةَ مُحَمَّدٍ -ﷺ- قَالُوا لَهُ: كَلَّا، فَحَطُّوا مَتَاعَهُمْ حَوْلَهُ وَقَعَدُوا يَحْرُسُونَهُ، فَجَاءَ الْأَسَدُ فَانْتَزَعَهُ فَذَهَبَ بِه.
أخرجه البيهقي في “دلائل النبوَّة”(٣٣٨/٢)، والحاكم في “المستدرك”(٣٩٨٤)
? وروى البخاريُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ رَجُلٌ نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمَ، وَقَرَأَ البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ، فَكَانَ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَعَادَ نَصْرَانِيًّا، فَكَانَ يَقُولُ: مَا يَدْرِي مُحَمَّدٌ إِلَّا مَا كَتَبْتُ لَهُ، فَأَمَاتَهُ اللَّهُ فَدَفَنُوهُ، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ فَأَعْمَقُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَقَالُوا: هَذَا فِعْلُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، نَبَشُوا عَنْ صَاحِبِنَا لَمَّا هَرَبَ مِنْهُمْ فَأَلْقَوْهُ، فَحَفَرُوا لَهُ وَأَعْمَقُوا لَهُ فِي الأَرْضِ مَا اسْتَطَاعُوا، فَأَصْبَحَ وَقَدْ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَعَلِمُوا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ، فَأَلْقَوْهُ”.
? وهكذا فإنَّ كفايةَ الله نبيَّه ﷺ كيدَ المستهزئين؛ كفايةٌ تتخطى تعاقبَ الأزمان؛ وتتعدى إلى كل أرضٍ ومكان؛ مهما تنوعتْ وتكاثرَت الأعداءُ؛ أوْ تعددتْ صورُ السخريةِ والأستهزاء .
يقول شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله في كتابه [الصارم المسلول على شاتم الرسول ٣١٨/٢]:”وقد ذكرنا ما جرّبه المسلمون؛ من تعجيل الانتقام من الكفار؛ إذا تعرضوا لسبِّ رسول الله ﷺ، وبلغنا مثل ذلك في وقائع متعددة وهذا باب واسع لا يحاط به”.
كَناطِحٍ صَخْرةً يوماً ليِوُهِنَها
فَلَمْ يَضِرْهَا وَأَوْهَى قَرْنَهُ الوَعِلُ.