مقالاتمقالات مختارة

وثيقة الأخوة الإنسانية ـ السياق والمساق

وثيقة الأخوة الإنسانية ـ السياق والمساق

بقلم د. عطية عدلان

 لقراءة النص بصيغة PDF إضغط هنا.

ليس غريباً ولا عجيباً على رجل كأحمد الطيب أن يقف هذا الموقف وأن يُوجَدَ في هذه المساحة؛ فهو الرجل الذي قضى سحابة حياته العلمية في فرنسا، ثم عاد ليقضي بقية عمره متقلباً في محاضن النظام المصريّ الظالم، الذي هو طُفَيْل ضئيل في حجر النظام العالميّ، أي أنه ابن النظام الدوليّ وربيبه؛ فمن الطبيعيّ أن يُطَبِّع مع الفاتيكان، وأن يشاركه باسم الأزهر الذي يمتطي صهوته قهراً منذ أمد بعيد في إصدار وثيقة سميت: “وثيقة الأخوة الإنسانية!!”.

لكن الغريب والعجيب هو تلقي كثير من المثقفين والمنسوبين للدعوة الإسلامية والعلم الشرعي لهذه الوثيقة بالترحاب والتهليل، والأغرب والأعجب أن يسارع رئيس أكبر مؤسسة علمائية يفترض أنها مستقلة (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) إلى مباركتها والثناء عليها، فهل يمكن أن تكون الأمَّة على رشد في أمرها إذا كان كبار علمائها لا يتحسسون مواقع أقدامهم، ولا يميزون بين الإقبال والإدبار في أي ريح تهب عليهم أو تعبث بأطرافهم؟!

إنَّنا – ابتداء – لسنا بحاجة إلى النظر إلى مضمون الوثيقة؛ فكم هي كثيرة تلك الوثائق التي وقعت عليها أقلام أثقل من مائة صليب كصليب البابا، وما انتفعت منها البشرية المعذبة بشيء، وما أكثر ما اشتملت عليه الوثائق المعاصرة من مبادئ وما أندر ما تحقق منها في الواقع المعاصر، فَدَعُونا من المضامين فكلها (كلام!) مكرور، لا أثر له خارج القراطيس التي سُطِّرت فيها، إنَّما النظر إلى أمرين لا يغض الطرف عنهما إلا من غضّ الطرف عن مبادئ دينه ومصالح أمَّته:

الأمر الأول: ما هو الواجب على الفاتيكان إن كان صادقاً في مشاعره تجاه “الفقراء والمحرومين والمساكين والمهمشين والضحايا الحروب والمظلومين”؟ لقد ذاقت البشرية الويلات على يد الغرب المسيحيّ على مدى قرون منذ الكشوف الجغرافية والحملات الصليبية ومروراً بالحملات الاستعمارية وانتهاء بالهيمنة الأمريكية والأوربية؛ فماذا كان موقفه؟ وأين هي آثاره؟

أما كان يجدر به أن يوجه خطاباً (باباوياً!) ينعي فيه ما وصلت إليه البشرية من بؤس في ظل الحضارة الغربية (الصليبية المدنية في آن!)؟ ثمَّ ما وجه إصدار وثيقة مشتركة مع الأزهر؛ فهل نحن في ظلال حرب عالمية بين العالم الإسلاميّ والعالم المسيحيّ، يموت فيها من الجانبين كل يوم من الأبرياء والمدنيين ما يقض مضاجع رجال الدين في المؤسستين “الإنسانيتين!”؟!

إنَّ الحروب جميعها قد انحسرت عن أطراف الكون كله وانحصرت في بؤرتنا المنكوبة، وإنَّها لتدور برحاها علي المسلمين وحدهم دون شعوب الأرض قاطبة، وإنّ المشردين والمسجونين والمعذبين والمقتولين هم المسلمون دون سائر خلق الله أجمعين، وإنَّ مقابل كل طفل منَّا يموت من الجوع أو البرد أو المرض يتقلب كلب أو قط أو خنزير في فائض النعيم الذي يرفل فيه الغرب المسيحيّ مما يبتزه من بلادنا، وإنَّ العالم المسيحيّ حصراً هو من يصنع لنا الأزمات ويضع في طريقنا العراقيل والعقبات، فما من ثورة للشعوب على الظلم والفساد والاستبداد إلا ويَدُهم ضالعة في إفشالها، وما من انقلاب أسود يدوس الخلق بدباباته ويمطرهم بطائراته إلا ونَفَسُهم حاضر في جوفه من الثغر إلى الثغر؛ فعلى أي وجه يمكن أن نفهم وثيقة مشتركة يصدرها ولي الجاني وولي المجني عليه ليس فيها أدنى إشارة إلى الجناية أو الشكاية؟!!

الأمر الثاني: ما معنى هذه العبارات في سياق وثيقة “الأخوة الإنسانية!!”: “فهذه المآسي حصيلة الانحراف عن التعاليم الدينية، ونتيجة استغلال الأديان في السياسة … لذا فنحن نطالب الجميع بوقف استخدام الأديان في تأجيج الكراهية والعنف والتطرف والتعصب الأعمى، والكف عن استخدام اسم الله لتبرير أعمال القتل والتشريد والإرهاب والبطش … إن الإرهاب البغيض الذى يهدد أمن الناس، سواء في الشرق أو الغرب، وفى الشمال والجنوب، ويلاحقهم بالفزع والرعب وترقب الأسوأ، ليس نتاجا للدين … لذا يجب وقف دعم الحركات الإرهابية بالمال أو بالسلاح أو التخطيط أو التبرير، أو بتوفير الغطاء الإعلامي لها، واعتبار ذلك من الجرائم الدولية التي تهدد الأمن والسلم العالميين، ويجب إدانة ذلك التطرف بكل أشكاله وصوره”

إنَّ سوق هذه العبارات الهلامية الملغومة في متن وثيقة مشتركة هو بمثابة إلقاء التهمة في حجر الأمَّة الإسلامية؛ لأنّ المتهم بالإرهاب والتطرف هم الإسلاميون دون غيرهم، والمحارَبون بذريعة دفع الإرهاب هم المسلمون لا غيرهم، فنحن إذن المقتول والقاتل ونحن المجني عليه والجاني، بل نحن وحدنا من يهدد السلم الاجتماعي في العالم بأسره، وهذا من أخطر ما اتهم به المسلمون ورُمِيَ به الإسلام، وهو كذلك من أشد الأمور ضرراً على الأمة؛ لأنَّ أعداءها يمارسون ضدها إرهاب الدولة، سواء مباشرة أو بالوكالة عبر الأنظمة العميلة التي يثبتونها في بلاد المسلمين.

فإذا قام المسلمون بحركات مقاومة اتهموا بالإرهاب، فإذا لم تَرُق للناس هذه التهمة ولم تنطلي عليهم صنعوا عن طريق أجهزة مخابراتهم كيانات تمارس الدعشنة؛ لتكريس التهمة وتعميمها وجر العساكر وسوق الجيوش بذريعة القضاء عليها، وعمَّا قريب – إن لم يكن واقعاً الآن – ستراهم يضعون (حماس) في قوائم الإرهاب والتطرف، بل ويضعون دولاً إسلامية لمجرد أنها أبت الخضوع للهيمنة الأمريكية والتسلط الغربيّ، ويكون المشرعن للجحيم الذي يصب فوق رؤوسنا وثائق من مثل هذه الوثيقة المترعة بالعبارات الخلابة.

ولو أنَّها – فرضاً – سلمت من الفخاخ والألغام – وليست بسالمة منها حتى يسلم الخنزير من الدنس – فإنَّها كخضراء الدمن؛ ألا تراها وردت في سياق صنعه ابن زايد ومن معه من صبية الأعراب؟! فصار للهندوس والبوذيين والوثنيين ولكل ضال مُشَرِّق في أرض الله أو مُغَرِّب معبدٌ آمن، في بلاد لم يأمن فيها أهل الإسلام إلا بأن ينافقوا ويداهنوا ويمالئوا ويأكل بعضهم لحوم بعض، وأقاموا القداس في أوطان لم يعد للحنفاء فيها موضع يرفعون فيه الأذان إلا وهم واجمون متوجسون كأنهم يرتكبون جرماً يوشك أن يؤخذوا به، فهل يمكن أن تكون هذه الوثيقة مسوقة في هذا السياق إلى غاية فيها خير للناس أو فلاح للعباد؟

ولو أنَّنا – بِشِقِّ الأنفس – أحسنَّا الظنّ؛ فلم نتهم هذه اللهجة التي طغت على الشكل والمضمون بأنَّها نفس ماسونيّ، أُطلق في توقيت هَزَّت فيه الهزيمة النفسية ثقة كثير من المسلمين في دينهم؛ فإنَّنا لا نجد لها انسجاماً مع طبيعة الإسلام.

فالإسلام لم يأت ليؤسس وحدة أديان، ولا ليصدر وثائق مشتركة ترعى خير البشرية ومصلحة الإنسان، وإنَّما جاء لينسخ ويهيمن، ويكون له وحده الكلمة الفصل فيما يتعلق بالإنسان (جنس الإنسان)، ولا يشك مسلم بسيط أو يماري في قول الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) (آل عمران 19) وقوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران 85).

وهذا يعني أنَّ الكلمة التي تشرعن للعلاقات الإنسانية يملكها هذا الدين وحده، أمَّا الكلمة السواء التي دعاهم إليها القرآن فهي التي لا يمكن أن يأتوا إليها إلا بالإقرار بسيادة هذا الدين وتفرده بالهيمنة، وهي: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران 64).

وقد يقول قائل ألم تر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثنى على حلف كان في الجاهلية في دار ابن جدعان؟

أقول: نعم سيدي علمت، ومن لي بحلف كحلف الفضول، ومن لي بدار كدار ابن جدعان تحميني من رعايا الفاتيكان، لكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصدر وثائق يشترك فيها دينه مع دين قريش في نصرة المظلومين، ولم يُرِدْ ذلك ولم يَدْع إليه، وإنَّما التحالف شيء آخر، التحالف هو اتفاق بين (قُوَى) على أن تكون معاً بما لديها من (قُوَى) في مواجهة عدو مشترك.

ومثل هذا جائز أن يقع بين دولة إسلامية ودولة غير إسلامية بشرط أن يتكون الأمر المتحالف عليه موافقا لشرع الله، وبشروط أخرى ليس هذا موضع بسطها، فلو أنَّ دولة مسلمة تحالفت مع دولة غير مسلمة على دفع المعتدي المحتل عن خلق من خلق الله مظلومين لكان ذلك جائزاً بشروطه، وهذا أمر مختلف جد الاختلاف عن أن تلتقي مؤسسة دينية تمثل الإسلام ومؤسسة دينية تمثل ديناً جاء الإسلام لنسخه ليصدرا معاً وثيقة تمثل دعوة الإسلام، والأمر برغم دقته واضح، وبرغم عمقه ظاهر، وليست هذه طلاسم يشق على الناس فهمها، وإنَّما هي معالم واضحة يدركها كل بصير بطبيعة الإسلام.

من هنا أجدد الدعوة للطيبين المخلصين البسطاء بأن ينزعوا الثقة من المدعو أحمد الطيب، وألا يغتروا بمواقفه التي فيها بعض المعارضة للسيسي وكلابه؛ فكلها مواقف بالنسبة لمنصب شيخ الأزهر تحت مستوى (العادي) وما الذي يفعله شيخ الأزهر إذا لم يقف في وجه من يدعو لإزالة كل ما قام عليه الأزهر، كفانا تلبيساً وتدليساَ وتغريراً للشعوب، إنَّ شيخ الأزهر هذا هو من بارك الانقلاب، والانقلاب في مصر تحديداً هو أكبر جريمة ارتكبت في حياة الأمة المعاصرة، فكل ما جرى للأمة من نكبات وانكسارات وكل ما سال فيها من دماء لم يكن ليحدث لولا هذا الانقلاب الأسود الملعون.

أمَّا مباركة رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لهذا العمل فأراها لا تليق بمنصبه ولا بدور الاتحاد، وليس الحرج الإعلاميّ بمبرر يسوغ للعالم الكبير أن يصرح بما يكون مضرة للإسلام والمسلمين، وأحسب أنّ الاتحاد فيه من العلماء الربانيين من يتوجب عليه تقديم النصح للشيخ، ليبصر مواقع قدمه حيث إنَّه في موضع مسئولية لا يستهان بها.

(المصدر: المعهد المصري للدراسات)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى