مقالاتمقالات المنتدى

هل يجب على الله أمر؟!

هل يجب على الله أمر؟!

 

بقلم د. أنور الخضري (خاص بالمنتدى)

 

الكلام عن الله تعالى يكون بعلم مِنه سبحانه، وأخذ عن وحيه، لأنَّه أعلم بنفسه، وأخبر عن نفسه، وبيَّن لنا ما نحتاج بيانه، وبلَّغنا ما نحتاج بلاغه.

ومِن بين ما أخبرنا الله تعالى عن نفسه أنَّه أوجب على نفسه أمورًا عدَّة، لم يوجبها أحد عليه، لكنَّه أوجبها على نفسه بذاته.

تارة بصيغة الكتابة: ((كَتَبَ عَلَى نَفسِهِ الرَّحْمَةَ))، الأنعام: 12.

وتارة بصيغة الحقِّ اللَّازم: ((ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَينَا نُنجِ الـمُؤمِنِينَ))، يونس: 103.

وتارة بصيغة الوعد: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَنِي لا يُشرِكُونَ بِي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ))، النور: 55. ووعد الله حقٌّ أكان لأمر في الدُّنيا أم لأمر في الآخرة: ((فَرَدَدنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَي تَقَرَّ عَينُهَا وَلَا تَحزَنَ وَلِتَعلَمَ أَنَّ وَعدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لَا يَعلَمُونَ))، القصص: 13. وقد جاء كثيرا في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: ((غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدنَى الأَرضِ وَهُم مِن بَعدِ غَلَبِهِم سَيَغلِبُونَ * فِي بِضعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ وَيَومَئِذٍ يَفرَحُ الـمُؤمِنُونَ * بِنَصرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعدَ اللَّهِ لَا يُخلِفُ اللَّهُ وَعدَهُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لَا يَعلَمُونَ)) الروم: 2- 6.

وتارة بصيغة العهد كما قال تعالى: ((وَأَوفُوا بِعَهدِي أُوفِ بِعَهدِكُم وَإِيَّايَ فَارهَبُونِ))، البقرة: 40. والله تعالى لا يخلف عهده: ((وَقَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعدُودَةً قُل أَتَّخَذتُم عِندَ اللَّهِ عَهدًا فَلَن يُخلِفَ اللَّهُ عَهدَهُ أَم تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعلَمُونَ))، البقرة: 80.

وتارة بصيغة الشِّراء، والشِّراء تعاقد يلزم الوفاء به، يقول تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ اشتَرَى مِنَ الـمُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعدًا عَلَيهِ حَقًّا فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاستَبشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايَعتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ))، البقرة: 111.

وتارة بتمام كلماته الكونيَّة والدِّينيَّة، القدريَّة والتَّكليفيَّة، الإخباريَّة والتَّشريعيَّة، ووصفها بأنَّها صدق وعدل، فالله نزَّه نفسه عن الكذب، وموجب ذلك وقوع ما أخبر، ونزَّه نفسه عن الظُّلم، وموجب ذلك إمضاء ما سنَّه قدرا وشرعًا مِن قوانين وأحكام، يقول تعالى: ((وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدقًا وَعَدلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ))، الأنعام: 115. لذلك قال تعالى في تحقُّق وعده لبني إسرائيل: ((وَأَورَثنَا القَومَ الَّذِينَ كَانُوا يُستَضعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكنَا فِيهَا وَتَمَّت كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسنَى عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرنَا مَا كَانَ يَصنَعُ فِرعَونُ وَقَومُهُ وَمَا كَانُوا يَعرِشُونَ))، الأعراف: 137.

وتارة بترتيب أمر على أمر على سبيل المقابلة والجزاء اطِّرادًا، كما في قوله تعالى: ((وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرتُم لَأَزِيدَنَّكُم وَلَئِن كَفَرتُم إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ))، إبراهيم: 7؛ وقوله سبحانه: ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الـمُحسِنِينَ))، العنكبوت: 69؛ وقوله أيضا: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم))، محمد: 7. وقوله كذلك: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَومٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ))، الرعد: 11.

وتارة بإثبات السُّنن القدريَّة الجزائيَّة، يقول تعالى: ((وَإِن مِن قَريَةٍ إِلَّا نَحنُ مُهلِكُوهَا قَبلَ يَومِ القِيَامَةِ أَو مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ مَسطُورًا))، الإسراء: 58.

وتارة بإثبات القضاء المحكم على الأعيان، كقوله تعالى: ((وَقَضَينَا إِلَى بَنِي إسرائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفسِدُنَّ فِي الأَرضِ مَرَّتَينِ وَلَتَعلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعدُ أُولَاهُمَا بَعَثنَا عَلَيكُم عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعدًا مَفعُولًا * ثُمَّ رَدَدنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيهِم وَأَمدَدنَاكُم بِأَموَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلنَاكُم أَكثَرَ نَفِيرًا * إِن أَحسَنتُم أَحسَنتُم لِأَنفُسِكُم وَإِن أَسَأتُم فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدخُلُوا الـمَسجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوا تَتبِيرًا * عَسَى رَبُّكُم أَن يَرحَمَكُم وَإِن عُدتُم عُدنَا وَجَعَلنَا جَهَنَّمَ لِلكَافِرِينَ حَصِيرًا))، الإسراء: 4- 8.

فهذه جميعا آيات تخبر بوجوب أمور أوجبها الله تعالى على نفسه بمقتضى كلماته السُّننيَّة القدريَّة أو الخبريَّة والتَّشريعيَّة.

فـ”ليس لمخلوقٍ عليه حقٌّ، إلَّا ما أحقَّه هو على نفسه المقدَّسة،… وذلك بحكم وعده وصِدقِه في خبره، وهذا متَّفق عليه بين المسلمين؛ وبحكم كتابه على نفسه وحكمته ورحمته، وهذا فيه تفصيل ونزاع مذكور في غير هذا الموضع”. [منهاج السنة النبوية، ابن تيميَّة: ج6/397].

والإشكال الَّذي وقع على المسلمين في هذا الباب هو ممَّن أوجب على الله تعالى أمورًا لم يوجبها على نفسه، وإنَّما أوجبوها هم عليه بمجرَّد الأقيسة الفاسدة على البشر، مِن تلقاء عقولهم ممَّا لم يوجبها سبحانه على نفسه لا قدرًا ولا خبرا. فقال ابن تيمية -رحمه الله: “فمِن النَّاس مَن يقول: للمخلوق على الخالق حقٌّ يُعلمُ بالعقل، وقاس المخلوق على الخالق؛ كما يقول ذلك مَن يقوله مِن المعتزلة وغيرهم. ومِن النَّاس مَن يقول: لا حقَّ للمخلوق على الخالق بحال، لكن يعلَمُ ما يفعله بحكم وعده وخبره؛ كما يقول ذلك مَن يقوله مِن أتباع جهم والأشعريِّ وغيرهما ممَّن ينتسب إلى السُّنَّة.

ومِنهم مَن يقول: بل كتب الله على نفسه الرَّحمة، وأوجب على نفسه حقًّا لعباده المؤمنين، كما حرَّم الظُّلم على نفسه، لم يُوجِب ذلك مخلوق عليه، ولا يقاس بمخلوقاته، بل هو بحكم رحمته وحكمته وعدله كتب على نفسه الرَّحمة وحرَّم على نفسه الظُّلم؛ كما قال في الحديث الصَّحيح الإلهي: (يا عبادي.. إنِّي حرَّمت الظُّلم على نفسي، وجعلته بينكم محرَّمًا، فلا تظالموا). وقال تعالى: ((كَتَبَ رَبُّكُم عَلَى نَفسِهِ الرَّحمَةَ))، وقال تعالى: ((وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ الـمُؤمِنِينَ)). وفي الصَّحيحين، عن معاذ، عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: (يا معاذ.. أتدري ما حقُّ الله على عباده؟) قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (حقُّه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا. يا معاذ.. أتدري ما حقُّ العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟). قال: الله ورسوله أعلم. قال: (حقُّهم عليه ألَّا يعذبهم). فعلى هذا: القول لأنبيائه وعباده الصَّالحين عليه سبحانه حقٌّ أوجبه على نفسه مع إخباره. وعلى الثَّاني يستحقِّون ما أخبر بوقوعه وإن لم يكن ثمَّ سببٌ يقتضيه.

فمن قال: ليس للمخلوق على الخالق حقٌّ يُسأل به، كما روي أنَّ الله تعالى قال لداود: وأيُّ حقٍّ لآبائك عليَّ؟. فهو صحيح إذا أريد بذلك أنَّه ليس للمخلوق عليه حقٌّ بالقياس والاعتبار على خلقه، كما يجب للمخلوق على المخلوق، وهذا كما يظنُّه جهَّال العبّاد، مِن أنَّ لهم على الله سبحانه حقًّا بعبادتهم. وذلك أنَّ النُّفوس الجاهليَّة تتخيَّل أنَّ الإنسان بعبادته وعلمه يصير له على الله حقٌّ مِن جنس ما يصير للمخلوق على المخلوق، كالَّذين يخدمون ملوكهم وملاكهم فيجلبون لهم منفعة ويدفعون عنهم مضرَّة، ويبقى أحدهم يتقاضى العوض والمجازاة على ذلك، ويقول له عند جفاء أو إعراض يراه مِنه: ألم أفعل كذا! يمنُّ عليه بما يفعله معه، وإن لم يقله بلسانه كان ذلك في نفسه. وتخيُّلُ مِثل هذا في حقِّ الله تعالى مِن جهل الإنسان وظلمه”.

ثمَّ قال -رحمه الله: “ومَن قال: بل للمخلوق على الله حقٌّ، فهو صحيح إذا أراد به الحقُّ الَّذي أخبر الله بوقوعه، فإنَّ الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الَّذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته. وهذا المستحِقُّ لهذا الحقِّ إذا سأل الله تعالى به، فسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو سأله بالأسباب الَّتي علَّق الله بها المسبِّبات، كالأعمال الصَّالحة، فهذا مناسب”. [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ج1/108- 111؛ وج1/115].

ففصَّل ابن تيميَّة الأمر وبنى الكلام على مقصود المنفي أو المثبت، فإنَّ القول بعدم وجوب شيء على الإطلاق أو بوجوب شيء على الله بإطلاق لا يصِحُّ، بل ينبغي التَّقييد بأن يُقال: لا واجب على الله تعالى إلَّا ما أوجبه على نفسه. لذلك يقول ابن تيمية -رحمه الله: “فلا ريب أنَّ الله تعالى وعد المطيعين بأن يثيبهم، ووعد السَّائلين بأن يجيبهم، وهو الصَّادق الَّذي لا يخلف الميعاد، قال الله تعالى: ((وَعدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَن أَصدَقُ مِن اللَّهِ قِيلاً))، ((وَعدَ اللَّهِ لاَ يُخلِفُ اللَّهُ وَعدَهُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لاَ يَعلَمُونَ))، و((فَلاَ تَحسَبَنَّ اللَّهَ مُخلِفَ وَعدِهِ رُسُلَهُ)). فهذا ممَّا يجِبُ وقوعه بحكم الوعد باتِّفاق المسلمين. وتنازعوا: هل عليه واجب بدون ذلك؟ على ثلاثة أقوال -كما تقدَّم:

قيل: لا يجب لأحد عليه حقٌّ بدون ذلك؛

وقيل: بل يجب عليه واجبات، ويحرم عليه محرَّمات، بالقياس على عباده؛

وقيل: هو أوجبَ على نفسه وحرَّم على نفسه، فيجب عليه ما أوجبه على نفسه، ويحرم عليه ما حرَّمه على نفسه”. [قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة: ج1/116].

وقد علَّق –رحمه الله- على حديث أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه، أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- علَّمَ الخارجَ إلى الصَّلاة أن يقول في دعائه: (وأسألك بحقِّ السَّائلين عليك، وبحقِّ ممشايَ هذا، فإنِّي لم أخرج أشرًا ولا بطرًا ولا رياءً ولا سمعة، ولكن خرجت اتِّقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك)، فقال: “إن كان هذا صحيحًا فحقُّ السَّائلين عليه أن يجيبهم، وحقُّ العابدين له أن يثيبهم، وهو حقٌّ أوجبه على نفسه لهم”. [قاعدة جليلة في التَّوسُّل والوسيلة، ج1/103]. وقال -رحمه الله، في قول القائل: “أسألك بحقِّ السَّائلين عليك وما في معناه”: “أمَّا قول القائل أسألك بحقِّ السَّائلين عليك: فإنَّه قد روي في حديث عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم، رواه ابن ماجه، لكن لا يقوم بإسناده حجَّة؛ وإنَّ صحَّ هذا عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- كان معناه: أنَّ حقَّ السَّائلين على الله أن يجيبهم، وحقَّ العابدين له أن يثيبهم، وهو كتب ذلك على نفسه. كما قال: ((وإذَا سَأَلَك عبَادِي عنِّي فإنِّي قرِيبٌ أجِيبُ دعوَةَ الدَّاعِ إذا دعَان)). فهذا سؤال الله بما أوجبه على نفسه، كقول القائلين: ((ربَّنَا وآتِنا ما وعدتَّنَا على رُسُلِك))، وكدعاء الثَّلاثة: الَّذين أووا إلى الغار لما سألوه بأعمالهم الصَّالحة الَّتي وعدهم أن يثيبهم عليها”. [مجموع الفتاوى: ج1/369].

والإيجابُ الموافق للخطاب الشَّرعيِّ ليس هو مِن قبيل التَّألِّي على الله تعالى، ولكن قد يخطئ النَّاس في تنزيله على الأفراد والجماعات والظُّروف والأحوال، وهو إمَّا أن يكون خطأً عن اجتهاد فلهم فيه أجر، أو أن يكون عن غير اجتهاد رميًا بالغيب أو تكلُّفا في التَّنزيل فيأثمون عليه. ومِن النَّاس مَن يجتهد فيصيب في تنزيل هذا الإيجاب على محالِّه فله أجران، وهذا كما جرى مع شيخ الإسلام ابن تيميَّة عندما كان يقسم بانتصار المسلمين على التَّتر في معركة “شقحب” دون أن يستثني، اعتمادًا على موعود الله تعالى في نصر مَن ينصره، وانتقامه مِن الظَّالمين، وإنقاذه للمستضعفين، إذ بلغ الضعف بأهل الإسلام في الشَّام وما حولها مبلغا عظيما، وزاد التَّتر ظلما وطغيانا، وأصبح المسلمون يواجهون عدوَّهم حميَّة للدِّين ودفاعا عن عدالة قضيَّتهم، مستعينين بالله تعالى وقد رأوا أنَّ كلَّ مؤشِّرات النَّصر ترجِّح في ظاهرها ميزان خصمهم. وهذا المشهد هو ما لخَّصته آيات سورة القصص في عرض المشهد السُّننيِّ المتكرِّر: ((نَتلُوا عَلَيكَ مِن نَبَإِ مُوسَى وَفِرعَونَ بِالحَقِّ لِقَومٍ يُؤمِنُونَ * إِنَّ فِرعَونَ عَلَا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهلَهَا شِيَعًا يَستَضعِفُ طَائِفَةً مِنهُم يُذَبِّحُ أَبنَاءَهُم وَيَستَحيِي نِسَاءَهُم إِنَّهُ كَانَ مِنَ الـمُفسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ استُضعِفُوا فِي الأَرضِ وَنَجعَلَهُم أَئِمَّةً وَنَجعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُم فِي الأَرضِ وَنُرِيَ فِرعَونَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنهُم مَا كَانُوا يَحذَرُونَ))، القصص: 3- 6. والانتقام مِن المظلوم للظَّالم سنَّة تجري على كلِّ البشر مؤمنهم وكافرهم على حدِّ السَّواء.

ما ثمرة هذه المعرفة بهذا الأمر؟

مِن ثمار معرفة هذا الأمر:

أوَّلا: معرفة سنن الله تعالى في الآفاق والأنفس، وقوانينه المطَّردة في الخلق، فوراء كلِّ فعل حكمة، ووراء كلِّ تشريع عدل، ووراء كلِّ قدر علم، ما يمكِّن العقل البشري مِن التَّعامل مع خالقه ومع أقداره وشرائعه ومخلوقاته، فبدون علم العقل البشري بهذه السًّنن والقوانين القدريَّة والشَّرعيَّة الكونيَّة والدِّينيَّة لا يستقيم له فهم ولا تفكير ولا تدبُّر ولا تعقُّل.

ثانيًا: اليقين بموعود الله تعالى، وصدق أخباره، ومضاء مشيئته، المرتَّبة على وجود الأسباب وتوفُّر الشُّروط وانتفاء الموانع الَّتي ركَّب الله تعالى عليها الحياة والكون والشَّرع والجزاء والعقاب، وإلَّا لم يكن لليقين معنى ولا للتَّصديق معنى.

ثالثًا: التَّنبُّؤ والاستشراف قياسا على اطِّراد هذه القوانين والسًّنن، والقدرة على تفريع وتمديد ظلال الشَّريعة استنادًا لهذا الاطِّراد السَّنَنيِّ في الآفاق والأنفس والشَّرع. فإذا لم يثبت الأصل لم يصحَّ القياس، وإذا لم تطَّرد العوائد لم يصحَّ الاستقراء.

رابعا: انتظار تحقِّق موعود الله في المبشِّرات، فإذا ما سعى العبد في أموره السَّعي الكامل والتَّام مخلصًا لله ومتيقِّنا بوعده استبشر في تحقيق مطلوبه: ((فاستبشروا ببيعكم الَّذي بايعتم به)).

خامسًا: التَّواضع لله تعالى، فلولا أنَّه سبحانه التزم لعباده بالثَّواب والجنَّة على أعمالهم الصَّالحة، وأوجب ذلك على نفسه لم يكن لهم عليه حقٌّ ولا واجب. إذ مقتضى ربوبيَّته وألوهيَّته عبادته لذاته دون ثواب كما تفعل الملائكة والكون كلُّه. وعلى هذا يؤوَّل حديث النَّبيِّ -ﷺ: (والَّذي نفسي بيده، لا يدخل الجنَّة أحدٌ مِنكم بعمله)، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا، إلَّا أن يتغمَّدنيَ اللهُ برحمة مِنه وفضل). فالباء هنا باء العِوض، يعني: ليست الجنَّة عوضًا للعمل، ولكنَّها برحمة الله وعفوه وفضله. فهو الَّذي أوجب على نفسه قبول العمل، والمكافأة عليه بدخول الجنَّة والنَّجاة مِن النَّار، فضلًا ومِنَّة. وما كان عمل العبد ليكون لولا توفيقه وتيسيره له وإعانته عليه.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى