هل نخافُ مِن قَدَرِ الله!
بقلم أحمد التلاوي
يُعد الإيمان بالقضاء والقَدَر، خيرِه وشرِّه، مِن أركان الإيمان السِّتَّة -التي حددها علماء أصول الدين- والتي لا تستقيم عقيدة الإنسان وتكتمل إلا بها، بعد الإيمان باللهِ تعالى، وبجانب الإيمان بالملائكة، وبالكتبِ، وبالأنبياء والرُّسُل، والبعث واليوم الآخر.
ومثل كل ركن من هذه الأركان، تتصل قضية الإيمان بالقضاء والقَدَر بعدد من الأمور المركزية في العقيدة، أهمها نقطة مفصلية متعلقة بالإذعان؛ لأن من صميم عقيدة المسلم الإذعان والتسليم، وهي حتى من بين الأمور التي سُمِّيَ دين اللهِ تعالى بهذا الاسم لأجلها.
ولقد ورد هذا المعنى في أكثر من موضع من القرآن الكريم، منها موضعان ربط بينهما رب العزة سبحانه بين التسليم والإذعان كَصُلْبٍ أساسي للدين، مسمَّىً ومعنىً، ومن ذلك التسليم بالقضاء والقَدَر، وبين مرتبة الإحسان، وهي الأعلى بين مراتب الإيمان وفق علماء أصول الدين، ونقطة تمام عقيدة المسلم.
فيقول تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:112]، ويقول عزَّ مَن قائل أيضاً: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125].
ويقود ذلك إلى نقطة أخرى مهمة في عقيدة المسلم، وهي ثقته المطلقة في رب العزة سبحانه وتعالى، في مختلف أوجه ومجالات الثقة، سواء في طلاقة القدرة، أو في حكمته البالغة سبحانه.
فأنت عندما ترضى بقضاء اللهِ تعالى وقَدَرِه، ولو بدا لك أنه يتضارب مع مصالحك –كما تراها– أو أنه حقق لك ضرراً؛ فأنت هنا تبرز ثقتك المطلقة في حكمة اللهِ تعالى، وتؤمن أنك مُلْكٌ له، ويفعل بك ما يشاء ولو أراد إهلاكك.
وتتصل بذلك أمورٌ أخرى مهمة، من صميم التوحيد ومعرفة الخالق الواحد الأحد، الفردُ الصَّمَد، الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ولم يكن له كُفُواً أحد، مثل توحيد الصفات والأسماء؛ فذلك يقود –مثلاً– إلى أن نؤمن بأنه الخالق الواحد كما قلنا، وبالتالي، هو المتصرِّف في، والقيُّوم على، شؤون العباد والخلْق كلِّه.
وهذا ليس مثالية زائدة أن نقول إننا يجب أن نؤمن بها، أو مستوىً خياليّاً من الإيمان لا يمكن الوصول إليه؛ فلدينا الكثير من المواقف التي تقول بأن ذلك ممكن، بل ومن السهل الوصول إلى هذه المرتبة، ورواها لنا القرآن الكريم والسيرة النبوية، سواء من جانب الأنبياء والرُّسُلِ وآلِهم، أو من جانب الرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وصحابته رضوان اللهِ تعالى عليهم أجمعين.
والأصل والأساس الذي يقود إلى ذلك هو التربية الصحيحة.
فالتربية النبوية قادت سيدنا عليّاً بن أبي طالب -رضي اللهُ عنه- إلى أنْ ينام في فِرَاش الرسول -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- تحت طائلة سيوف صناديد كُفَّار ومُشْرِكي مكة.
كذلك التربية التي تلقاها نبيُّ اللهِ إسماعيل، على يد أبيه، أبي الأنبياء، الخليل إبراهيم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وأمه السيدة هاجر، قادته إلى أن يأتي بردِّ فعلٍ بشكل بدا شديد العفوية والبساطة في أمرٍ جلل، وهو حياته ذاتها.
يقول تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاء الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)” [الصَّافَّات: 106-102].
ومن المهم هنا الإشارة إلى نقطة أن هذا المستوى من الإيمان الذي قاد إلى التسليم والإذعان مرتبط بمرتبة الإحسان كما ذكرنا في موضع سابق من الحديث.
ومن قبل أخذتْ أُمُّه السيدة هاجر نفس الموقف عندما تركها سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في بلقعٍ قفرٍ. كان كل ما فعلته وفق ما جاء في الحديث، أن سألته إذا ما كان ذلك هو أمرٌ من اللهِ تعالى، ولما أجابها زوجها بالإيجاب، استسلمت، ثقة منها بأنه تبارك وتعالى “لن يُضيِّعَنا”، وكان أن تحول المكان بالفعل بعد ذلك إلى أهم مناطق شبه جزيرة العرب، وأكثرها سُقيا وخيراً.
وبالتالي فإننا عندما عن كيفية تلقِّينا قَدَر اللهِ تعالى فإن هذا يتوقف على مدى إيماننا بكل ما سبق من أمور، وبالتالي فإن هذا التلقِّي، هو في حد ذاته مقياسٌ ومعيارٌ لمدى إيماننا.
ولكن المشكلة الحقيقية التي تعتور وصول هذه المفاهيم أنْ تُوقِر في أنفسنا، عندما تقع البلايا العظيمة، والمصائب الكبيرة، والتي تمس صُلْب مصالحنا الحيوية.
فتظهر هنا أهمية التربية كما قلنا، وأهمية أن نمتلك أدوات النفس المطمئنة، والتي عمادها الأساسي هو الثقة في اللهِ تعالى وفي حكمته، وفي أننا -في الأول وفي الأخير- نحيا في هذه الدنيا حياةً مؤقتة، وبالتالي فإن معاناتنا وأحزاننا، وأيضاً مسرَّاتنا، هي بدورها مؤقتة.
وبالتالي، فإن الأهم هو أن نفكِّر في كيفية إعدادنا للحياة الآخرة، التي هي الحياة الحقيقية كما قال القرآن الكريم في الكثير من المواضع، ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
وهنا نجد التكامل الذي يؤكد سلامة عقيدتنا؛ من أنها كلها من عند ذات المصدر، اللهِ تعالى وحده؛ لأن ذلك لن يتحقق إلا بالإيمان بركنٍ آخر من أركان الإيمان، وهو ركن البعث واليوم الآخر.
والقرآن الكريم، والتاريخ يقولان لنا الكثير من العِبَرِ والدروس في هذا الصدد؛ كم مرَّ الناس بمعاناة، وكم عانى المؤمنون، وكيف صبروا، وكيف تعاملوا مع البلايا والمواقف، وتقبَّلوا قَدَرَ اللهُ تعالى مهما كان، ومهما ترتب عليه من ألمٍ نفسي وبدني.
فها هو موسى يخرج خائفاً يترقَّب من القوم، وها هم مؤمنو الأخدود تحمَّلوا أشد العذاب، وما رجعوا عن إيمانهم، ولم يتساءلوا أصلاً: أين الله الذي آمنَّا به لكي يخرجنا من هذا العذاب. مطلقاً؛ فقد وصلوا إلى درجة الإيمان الكامل الذي يتضمَّن بدوره الفهم الكامل.
وعجباً لأمر المؤمن كله خيرٌ كما قال خيرُ الأنام -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- فإذا ما أصابته سرَّاء شَكَر، وإن أصابته ضرَّاء صَبَر.
وكذلك، وعند وقوع البلايا -أيّاً كان لونها- يقول لنا القرآن الكريم بما لا يدع مجالاً للشك، أن ذلك قد يكون بسبب عملنا، إمَّا اختباراً من اللهِ تعالى لإيماننا فنربح لو صبرنا وشكرنا وواجهنا الأمور بإيجابية، أو تنبيهاً من اللهِ سبحانه لكي نستفيق، أو عقاباً دنيويّاً لنا نستحقه بذنبٍ عظيم أذنبناه، أو بتقصير.
يقول تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آلِ عِمْرَان:165]، ويقول أيضاً: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النِّسَاء:79].
وفي الحالتَيْن الأخيرتَيْن، التنبيه والعقاب هذه نجد فيها من اللهِ خيراً. فهو ينبهك لكي لا توغل في ذنوبك، أو تنتبه لتقصيرك، وفي ذلك مصلحة لك، فنحن لن ننفع اللهَ بعباداتنا، ولن نضرَّ اللهَ لو عصيناه؛ فهو الغنيُّ عن العالمين، وإنما عملنا الصالح يكون لنا، والطالح ينقلب علينا.
وفي العقاب الدنيوي، كرمٌ من اللهِ تعالى؛ إذ أنه يخصم ذلك من رصيد سيئاتك، ويكفِّرُها عن عبده المُبتلى، فيتجلى كَرَمُه علينا ورحمته بنا.
وبالتالي فإن الحالة الوحيدة التي ينبغي أن يخافَ فيها المسلم قَدَرَ اللهِ تعالى، هي أن يكون هذا الحَدَث، هو علامة غضبٍ من اللهِ عز وجل.
وفي هذا كله هناك مواقف وكلامٌ للرسول الكريم -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يؤكده، وهو مُرَبِّينا الأول، وقدوتنا الأولى.
فهو عندما تعرَّض لسفاهة السفهاء في الطائف لم يقف لكي يعاتب ربَّه، ولم يسأله أين أنتَ ولماذا لا تحميني وتنقذني مما أنا فيه. مطلقاً. بل إنه -عليه الصلاة والسلام- أوعز الأمر إلى أنه قد يكون بسبب يخصه ويخص علاقته بربِّه، فنجده يقول في دعائه الذي رواه الطبراني وآخرون: “إن لَّم يكن بكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي، غير أنَّ عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقتْ له الظلمات، وصلُحَ عليه أمر الدنيا والآخرة، أنْ تنزِلَ بي غضبك، أو يحلَّ عليَّ سخطُك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك”.
وبالرغم من أن بعض الرواة ضعَّفوه إلا أن أصحاب السِّيَر رووه، ولم يكن التضعيف فيه قادحاً بلغة أهل العلم، وفيه منطق جميل يقبله العقل وتقبله النفس.
وفي ذلك أيضاً، فإننا ينبغي أن نتحلَّى بمُدْرَكٍ مهم، وهو أن نفهم أن أي بلاء يقع علينا بذنب أذنبناه؛ فهذا فيه تخفيف من اللهِ تعالى. نحن لا ندرك ولا نفهم عظيم المهام الموكولة إلينا، ولا عمق تقصيرنا، ولا خطورة الأمانة التي كُلِّفْنا بها.
ولأن اللهَ تعالى يعلم ذلك فعندما يوقِع بنا عقابَه في صورة بَلِيَّة أو ما شابه؛ يكون رفيقاً بنا. يقول تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النُّور: 14].
مما سبق نجد أن هناك الكثير في ديننا العظيم هذا ينبغي أن نعلمه، وبالذات في أوقات النوازل والجائحات، والتي تبلغ فيها القلوب الحناجر، ويظن فيها الناس الظنون.
هنا من المفيد التنويه إلى أن الإسلام رحيم بالناس، ففي مثل هذه الأوقات لا ينبغي للإنسان المسلم إذا ما اعترضته عوارض الضعف النفسي ووصل إلى مرحلة من سوء الظن باللهِ تعالى، أو الضيق بما قدَّره وأنزله عليه، وألا يقسو في الحكم على ذاته ومعاقبتها نفسيّاً.
فهذا الموقف واجهه أكثر الناس إيماناً؛ الصحابة رضوان اللهِ تعالى عليهم، وقت غزوة حُنَين، وذكره القرآن الكريم بوضوح، {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التَّوْبَة: 25].
ولم تخبرنا كُتُب التاريخ الإسلامي والسِّيَر، أن اللهَ تعالى قد عاقبهم على أنْ ضاقوا بقضائه عليهم في بداية المعركة من شدَّة وما بدا لهم أنه هزيمة، فهو خالقهم، وهو أعلم بضعف الإنسان، وبنوازعه وعوارضه، فيعذرهم. {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [المُلْك: 14].
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هذا الباب واسع لو تناولناه في المجال العلمي الشرعي، وأدلته عديدة، ولكن هذه الآية العظيمة تلخِّص كل شيء، وتلخِّص كما هو أسلوب القرآن العظيم في كلمات قليلة، ما ينبغي أن نؤمن به، وما ينبغي أن نتعامل به مع قضاء اللهِ تعالى وقَدَرِه: {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ} [النَّمْل: 62].
(المصدر: موقع بصائر)