مقالاتمقالات مختارة

هل نحتاج “قراءة ثانية” للإسلام؟

هل نحتاج “قراءة ثانية” للإسلام؟

بقلم أ. محمد إلهامي

ثلاث حلقات حتى الآن من برنامج “قراءة ثانية” الذي يبثه التلفزيون العربي، ومع أن مسار الحلقات يدل على نفسه من الحلقة الأولى إلا أن أصحاب حسن الظن لا يشعرون بالكارثة إلا حين تقع على رؤوسهم، ولات حين مندم!

تريد القراءة الثانية للإسلام أن تنقل ثوابت الإسلام التي استقر عليها المسلمون أربعة عشر قرناً إلى مساحة الخلاف، لكي يبدو الموضوع خلافياً محتملاً، فناقشت الحلقة الأولى مسألة الدولة؛ وهل في الإسلام دولة؟ وقالت الحلقة الثانية: وهل في الإسلام حد الرجم؟ وقالت الثالثة: وهل يلزم أن ترث المرأة نصف ما يرثه الرجل؟.. ونتوقع أن تكون الحلقات التالية عن نفي حد الردة، وتجويز رئاسة الكافر للدولة المسلمة، وإمكانية استبدال الشريعة بالقوانين الوضعية، وتجويز خلع الحجاب والاكتفاء بالحشمة، وسفر المرأة بغير محرم، وتعديل مفهوم الجهاد ليكون فقط دفاعاً وفقط ضد المحتل الصهيوني.. إلى آخر هذه الموضوعات المحفوظة.

هي موضوعات محفوظة لأنها منتظمة في خط واحد، هو خط تطويع الإسلام للثقافة الغربية الغالبة، ولذلك لا يُعرض النقاش إلا في مواضع التناقض والاحتكاك بين الإسلام والفكر الغربي. وهذه الموضوعات لم تكن مطروحة في عالم المسلمين من قبل لأنه لم تكن ثمة حالة انهزامية تفرض عليهم مراجعة دينهم وتقديم قراءة ثانية له كي تتوافق مع رغبات الغالبين!

وممَّا يدل على أن المطلوب ليس مراجعة علمية حقيقية لبعض الآراء التراثية أن البرنامج لن (أكرر: لن) يعرض موضوعاً ليبدو فيه أكثر تشدداً وأصالة ممَّا هو شائع، فلن نجد فيه حلقة تذكر المسلمين بضرورة الجهاد في مناطق محتلة مثل الشام والعراق وأفغانستان، ولن نجد حلقة تروج لمواجهة الاستبداد المحلي، أو الحلول الممكنة اقتصادياً للخروج من أسر النظام المصرفي العالمي، ولن نجد حلقة تروج لتعدد الزوجات باعتباره حلاً مجتمعياً يعالج الكثير من الأزمات، ولن نجد حلقة تُرَوِّج للنقاب باعتباره زي أمهات المؤمنين وكمقاومة لحالة الإباحية المنتشرة عالمياً.. وهكذا!

يضع البرنامج لنفسه شكلاً محايداً، ضيفان يتوزع بينهما الوقت، لكن روح البرنامج تبدو واضحة في لحن القول، وفي التقرير الذي يسبق الحلقة، وفي اختيار الضيوف، وأمور أخرى.

ومن الطريف أن البرنامج سيستمر على هذه الشاكلة حتى يصير مجمعاً للآراء الشاذة:

1. ففي حلقة “هل في الإسلام دولة؟” اعتمد الضيف على أن لفظ الدولة بدلالته المعاصرة لم يرد في القرآن والسنة، ولم يفهمه الصحابة ولا عموم الفقهاء كما نفهمه الآن، وتكلف أن يفرِّغ كل لفظ قرآني أو نبوي من معناه الواضح ليؤوله إلى معنى آخر.

ممَّا يوحي أنه لو وُجِد اللفظ الصريح في القرآن أو السنة أو عمل الصحابة فلم نكن لنختلف؟!

2. لكن في الحلقة الثانية: “هل في الإسلام رجم؟” وُجِد اللفظ الصريح في السنة المتواترة، ومع ذلك تمسك الضيف بأن اللفظ لم يرد في القرآن، واصطنع قاعدة بأن ما جاء في القرآن وحده هو الحد وما جاء في السنة تعزير!

ممَّا يوحي -مرة أخرى- أن الأمر لو جاء في القرآن فلم نكن لنختلف!

3. لكن جاءت الحلقة الثالثة لتناقش نصاً صريحاً في القرآن (للذكر مثل حظ الأنثيين)! لتسعى في اطراحه واستبدال نصوص أخرى به، نصوص من كتاب حقوق الإنسان الليبرالي الغربي المعاصر الذي صار أصلح من كتاب الله، وتجميلاً للطرح يُقال: كان كتاب الله صالحاً لزمان نزوله ولبيئة العرب، وأحكامه ارتبطت بأوضاع هذا الزمان والمكان.

وهذا القول الخطير (وهو المذهب التاريخاني) مقتضاه أن كتاب الله لم يكن وحياً نازلاً من السماء فوق الزمان والمكان وإنما هو نتاج بيئته، ومن ثم فهو ليس وحياً وإنما اختراع من محمد الذي لن يستطيع الانفكاك من بيئته وهو يقدم رسالته.

وهكذا لم يعد الأمر قراءة علمية بأي معنى، بل هو اتجاه مغرض، يسعى لتطويع الإسلام في قالب الثقافة الغربية الغالبة، اتجاه يتحول به القرآن والسنة من موقع المرجعية العليا والحاكم على ما سواه إلى موقع المشكلة والعقبة التي تحول دون ظهورنا أمام الأجانب بمظهر عصري إنساني يوافق هواهم وثقافتهم.

ولذا سنحتاج في حلقة الدولة إلى علي عبد الرازق، مهما كان قوله شذوذاً عن علماء المسلمين، وسنحتاج في حلقة الرجم إلى أبي زهرة والقرضاوي، مهما كان قولهما شذوذاً عن علماء المسلمين، وسنحتاج في حلقة المواريث إلى من هم خارج أهل العلم بالكلية كنصر أبو زيد وشحرور والحداثيين المناهضين للشريعة كلها، فالشأن أننا سنجمع من كلٍّ قَوْلَه الذي شذَّ فيه لنقدم ديناً جديداً، فإن لم نجد من الفقهاء ذهبنا إلى غيرهم.

ولكن، ومع هذا، ربما يثور السؤال: ألسنا في حاجة إلى قراءة جديدة للإسلام؟

والإجابة عن هذا السؤال تنطوي على إجابة سؤالين قبله؛ الأول: ما هو غرض هذه القراءة الجديدة؟ والثاني: ما هي وسائلنا وحدودنا في هذه القراءة الجديدة؟

فأما غرض القراءة الجديدة فلا يخرج عن اتجاهين، فإما أن نقرأ لنفهم مراد الله والوصول إلى اجتهاد معاصر يضبط حركتنا في ظل ما نحن فيه من نوازل كثيرة وتغيرات هائلة، وإما أن نقرأ لنحاول تقريب الإسلام من دين آخر أو ثقافة أخرى.

القراءة الأولى هي عمل المجتهدين وأمانة العلماء؛ إذ هم ورثة الأنبياء، وهي واجبٌ عليهم بالمقام الأول، وهذا لا يعترض عليه أحد، بل يشعر كل مخلص لدينه وأمته بالحاجة إليه، وأما القراءة الثانية فهي عين الضلال والانحراف وتبديل الدين، ولا يقدم عليها إلا منهزم فكرياً ونفسياً أمام بريق الغالبين، وهذا الذي يُعتَرَض عليه ويشعر كل مخلص لدينه وأمته أنه الخطر العظيم.

وأما وسائلنا وحدودنا في تقديم هذه القراءة الجديدة، أو بالأحرى تقديم الاجتهاد الشرعي، فقد ناقشه العلماء قديماً مناقشة علمية بديعة، فاستخرجوا قاعدة ذهبية تضع أساساً وفارقاً راسخاً بين القراءة الجديدة التي هي اجتهاد منضبط، وبين القراءة الجديدة التي هي ضلال وانحراف.

تقول القاعدة: “إذا اختلف أهل العصر في مسألة على قوليْن لم يَجُز لمن بعدهم إحداث قول ثالث إن لزم منه رفع ما أجمعوا عليه، وإلا جاز”.

وهذه القاعدة فرع عن موضوع الإجماع، ومعنى الإجماع ببساطة أن العلماء إذا أجمعوا على قول كان قولهم هذا هو الحق وهو مراد الله، لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وخلاف العلماء في باب الإجماع يقع في ضبطه لا في أصله، بمعنى أنه يختلفون هل وقع في هذه المسألة إجماع أم لم يقع؟ لا أنهم يختلفون في كون الإجماع ملزماً أو غير ملزم.

ومعناها بتبسيط شديد أنه إذا حدث إجماع على قولٍ لم يكن جائزاً القولُ بخلاف هذا الإجماع، لأنه رمي للأمة بالضلالة وبأنها عاشت سنين وقروناً ضالة عن الحق ومجتمعة على هذه الضلالة، وهو أمر ينسف الدين نفسه، لأنه إن أجمع الصحابة على أمر ولم يكن حقاً لم يكن ثمة معنى للقرآن ولا السنة، فإنهم هم الذين نزل القرآن عليهم وكان النبي بينهم، فإن أخطأ هؤلاء في فهْم ما نزل عليهم وما وقع بينهم وأجمعوا على الضلالة فلن يكون القرآن ولا السنة هداية لأحد من بعد. ولذلك فدليل الإجماع أقوى من دليل النص الذي يحتمل أكثر من معنى، لأنه اتفاق أهل العلم على معنى بعينه.

ولكن: إذا اختلف أهل العلم في مسألة على قولين اثنين، هل يكون من الجائز اتخاذ قول ثالث؟ أجابوا بأنه غير جائز، لأن اختلافهم على قولين اثنين هو إجماع على ضلالة وبطلان القول الثالث، وإذا اختلفوا على ثلاثة أقوال فهو إجماع على بطلان القول الرابع.. وهكذا!

وبعض العلماء وضع تفصيلاً يقول: إن القول الثالث إن كان يخرج عن القولين فهو باطل، وإن كان يستفيد منهما ويؤلف بينهما فهو جائز؛ لأنه لا يخرج عنهما. ولهم في هذا تدقيق يُرجع إليه في كتب الأصول والقواعد الأصولية، وفيها نقاش علمي بديع يشهد لعقولهم بالعبقرية والسعة واستشراف ثغرات الضلال والتفلت.

ربما يخطر بالبال أن هذا تضييق وتشدد، ولكن الذي يعلم ثراء الفقه وتعدد أقوال العلماء يعلم تماماً أنه ليس ضيقاً بحال، فبعض المسائل اختلف فيها أهل العلم على أربعين قولاً وزيادة، ولكن الثوابت الكبرى لم يختلفوا فيها، وإنما هذه القاعدة وشبيهاتها ضمانٌ ألا يخرج الاجتهاد عن الحق، وألا يكون مضاداً لإجماع الأمة الذي إن جاز الخروج عليه لم يبق الدين كله، وإلا فماذا يمنع أن يباح الزنا والربا والخمر والقتل والظلم والسرقة والخيانة بل والشرك بالله وعبادة الأصنام؟! فليس من فكرة إلا ويُستطاع تزيينها وفلسفتها لتبدو براقة ومقبولة.

كل شيء يمكن تقديم قراءة جديدة له ليتحول من مرذول إلى مقبول، وها نحن في زمن تسير المرأة فيه شبه عارية ويُرى أن هذا من حقوقها، ويُقَطِّع فيه الناس ثيابهم ليسايروا الموضة التي كانت قبل سنين معدودة عملاً مستبشعاً يدل على الفقر وسوء الحال فصار الآن يدل على الغنى والأناقة، ويقال فيه: الصلاة في مسجد أوغندا أكثر بركة من الصلاة في الأقصى، ويقال فيه: اللواط والسحاق حق لمن أراد، ويُجَرَّم من يدينه أو من يكره فاعليه.. إلى آخر كل هذه الأمور التي كانت قبل سنوات أو عقود ثوابت إنسانية عامة لا تعرض للنقاش!

لهذا، فإن تقديم قراءة جديدة للإسلام لا بد أن ينضبط بألا يخرج عن إجماع المسلمين، هذا إن كانت تهدف حقاً للوصول إلى الحق وفهم مراد الله مع الخضوع والتسليم لله وحكمته والإيمان بأن هذا الدين وحيٌ من عنده. أما بغير هذا الضابط فهذا في حقيقته محاولة تبديل الدين واستخراج نسخة جديدة بطلب من سلطة النظام العالمي.

أخيراً يجب التأكيد أنه ليس كل من يعتنق رأياً يخالف فيه السابقين هو بالضرورة متآمر أو أو خبيث أو عميل، بل فيهم من نحسبه– والله حسيبه- من المخلصين،  وفيهم متبحرون في العلم وإنما شذوا في مسائل، والكمال لله وحده، وفيهم من نحسبه حريصاً على خدمة الدين وتحسينه للناس لدعوتهم إليه، ولكن حديثنا هنا هو حديث عن المشروع والسياق الكبير الذي يحاول جمع الشذوذات في سياق واحد، لتكوين الدين الجديد، وهو المشروع الذي تنفق فيه الأموال والجهود.

وشهيرةٌ هي قصة شيخ جمع شذوذ الفقهاء في كتاب يقدمه إلى السلطان ليوافق فيه لذاته، فوضع له كتابه في إباحة الخمر والمتعة والمعازف، فلما عرضه الخليفة المعتضد على القاضي إسماعيل بن إسحاق الذي بهت لما فيه قال: “يا أمير المؤمنين إنما جمع هذا زنديق. فقال: كيف؟ فقلت: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه. فأمر (المعتضد) بتحريق ذلك الكتاب”.

وعلى هذا المثال: فعلي عبد الرازق لم ينكر الرجم ولا نادى بالتسوية بين الذكر والأنثى في الميراث، وأبو زهرة والقرضاوي يثبتان ضرورة الدولة للإسلام وأنه دين ودولة ولم ينادِ أحدهما بالتسوية في المواريث، وهكذا..

لكن.. ترى هل كان عنوان الكتاب الذي أحرقه المعتضد أيضاً “قراءة ثانية”!!

(المصدر: الخليج أونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى