هل المشكلة في راشد الغنوشي؟
بقلم د. محمد الصغير
ارتبطت فكرة الانقلاب على السلطة بالعسكر، لأنهم يملكون القوة التي تمكنهم من الإطاحة بالنظام، حتى أصبح مصطلح الانقلاب العسكري من قبيل المركب المزجي كما يقول علماء اللغة، أما المدنيون فيستخدمهم العساكر أحيانا كطبقة ناعمة، وواجهة رقيقة مقبولة خلال الفترة الأولى ثم ينقلبون عليهم بطبيعة الحال لأن الجيش لا ينقلب لصالح الغير.
أما الرئيس قيس سعيد فليس أول أستاذ قانون دستوري يشارك في انقلاب أو ينقلب على الدستور، فقد سبقه عدلي منصور رئيس المحكمة الدستورية بمصر، وكذلك رئيس المحكمة الدستورية العليا في تركيا الذي انتخبوه رئيسا عام 2000.
أصبح من المسلمات الآن أن العالم “المتحضر” وذيوله في العالم المتخلف أجمعوا على محاربة وجود التيار الإسلامي في الحكم، حتى مع قبوله بقوانين اللعبة الديمقراطية واعتماد الوسائل السلمية، والتحاكم إلى صندوق الانتخاب واختيار الشعب، وحوربت كل أحزابه وفصائله حتى التي تنازلت عن المبادئ و تسامحت في الثوابت!
وعلى سبيل المثال قدمت حركة النهضة من التنازلات حرصا على المسار الديمقراطي مالم يتوقعه سدنة الديمقراطية وعتاة الليبرالية، وقدم الأستاذ راشد الغنوشي نفسه كنموذج للتعايش حتى تماهى مع مشاريع خصومه، وحرص على عدم التميز عنهم، وأعلن بعد الانقلاب استعداده لمزيد من التنازل لتصحيح المسار، وكأن التنازلات الأولى آتت ثمارها!
إن أعداء الفكرة الإسلامية لا يقبلون إلا باقتلاعها من جذورها، وإحراق الأرض التي حوت بذورها، لأن نسخة العلمانية المتوحشة التي في بلادنا ترى في المشروع الإسلامي خطرا وجوديا عليها، ولا ترى حلا إلا في سياسة الاستئصال، وتلاقت أحلامهم في هذا مع طموحات العسكر، ونتج عن ذلك ما يعرف بالعلمانية العسكرية.
كانت تونس أول أزهار الربيع العربي وآخر معاقله، والحالة التي يستشهد بها كل من ينظر لفكرة أن المشروع الإسلامي يمكن أن يصل في البلاد العربية عبر التدرج في التنازل، ثم التنازل المتدرج، حتى جاء انقلاب أستاذ القانون فأطاح بالفكرة وأكل الدستور.
في التعامل مع المصائب لا بدّ من الصبر عند الصدمة الأولى، أما في الانقلابات فينبغي التحرك عند الساعة الأولى، لكن بدا واضحا أن حركة النهضة لم تعد العدة لهذه اللحظة، ولا تملك من الوسائل ما ترد به على هذا الانقلاب الذي تسربت أخباره، وتصريحات قادة النهضة كأنها تمهد للتسليم بالأمر الواقع، بل تعطي مساحة من الوقت هي عين ما يحتاجه قيس سعيد لاستكمال مراحل الانقلاب، ولكن هل سيقبل هو ومن وراءه بغياب الغنوشي ومن حوله عن المشهد؟ أم سينتقل الانقلاب ورعاته إلى مرحلة الاستئصال والتنكيل التي بدأت شواهدها في اعتقال بعض الناشطين واستدعاء نواب من البرلمان إلى محاكم عسكرية؟
العاقل من اتعظ بغيره فإن النظم العربية إذا بلغت ذروة تسلطها تنتقل من مرحلة محاربة التيار الإسلامي إلى محاربة كل من يدعو للإسلام، حتى وإن حرم على نفسه العمل السياسي، فجماعة الدعوة والتبليغ مثلا لم تبرح مكانها ولم تغير نهجها أو تعدل من طريقتها حتى مع انفراجة الربيع العربي، ونأت بنفسها عن كل معتركات السياسة، ومع ذلك محظور عملها في دول عربية كبيرة، ومُنع أعضاؤها من المشاركات الاجتماعات الخارجية، وضيق على جولتهم الدعوية في مصر بعد انقلاب 2013.
إن استسلام الأستاذ راشد الغنوشي لمنعه من دخول البرلمان يثبت أن سن الرجل وصحته وطريقته لا تؤهله لقيادة شعب والوقوف أمام انقلاب، وإن كان مبررا تمسكه في السابق بقيادة النهضة وقت السلم فالأمر يتطلب الآن قيادة للثورة وليس للحركة، لأن الانقلاب يحظى بتأييد من محور الثورة المضادة للربيع العربي، وإعلامهم هو من يقود الانقلاب فضائيا، وجاءت تعليقات أمريكا ودول أوربا باهتة تدلل على الرضا به ومساندته، وانتظار خلاف ذلك منهم سراب خادع، وفي المقابل أدانت تركيا مبكرا ما يحدث في تونس، أما بقية الدول فهي بين محايد ومشارك.
نتمنى لتونس أن تتغلب بوعي شعبها وإدراك نخبتها على هذه النكبة، وتخرج منها وعودها أقوى، وإن ما نكتبه ليس تشفيا أو تنظيرا، وإنما نصيحة المحب الشفوق الذي يسعى لاستخلاص الدرس، حتى لا نورث من بعدنا ما ورثناه من غفلة الأوائل، مما جعلنا نكرر نفس الخطأ ونضع أيدينا في الجحر نفسه حتى أدمنا سم الأفاعي.
أما من تزعجهم المكاشفة ويطالبون بتغطية الجرح بدلا من تنظيفه وتضميده، فأذكرهم بأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأن المجاملة في القضايا العامة تمنع من الاستفادة من الخطأ، ومناقشة المكتوب أولى من المصادرة على الكاتب.
المصدر: رابطة علماء أهل السنة