هل المجتمع المدني في تونس دعامة للهوية الإسلامية؟ (2من2)
بقلم الحسين بن عمر
لئن مثّل دستور 27 كانون الثاني (يناير) 2014 لحظة فارقة في تاريخ تونس، وضعت حدّا للمناكفات الهووية التي وسمت النخبة التونسية قبيل الثورة وبعدها، على وجه الخصوص في فترات الصراعات الانتخابية أو بمناسبة إصدار بعض التشريعات وغيرها، من جهة حسم الفصل الأوّل منه على أنّ تونس “دولة دينها الإسلام”، فإنّ متابعين كثرا يرون في المرسوم الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 والمؤرخ في 23 أيلول (سبتمبر) 2021 مقدّمة لنسف دستور الجمهورية الثانية الذي حظي بمصادقة 200 نائب من جملة 217 هم عدد أعضاء المجلس التأسيسي المنتخب، وهو ما ينبئ بعودة الجدل الهووي إلى مربعات الإعلام والأكاديميا ويُنذر باستقطاب سياسي وأيديولوجي جديد قد يعمّق أخاديد الأزمة الاقتصادية المترامية.
كما أنّ تكريس المرسوم الرئاسي المذكور وتدابيره الاستثنائية لما أسماه القاضي أحمد الرحموني، رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء والرئيس الأسبق والشرفي لجمعية القضاة التونسيين، في تدوينة له في صفحته الرسمية على شبكة فيسبوك، بـ”الرؤية الاستبدادية الشعبوية التي هدفها تركيز السلطات الأساسية بيد رئيس الجمهورية”، من شأنه أن يدفع المجتمع المدني في تونس إلى لعب دوره النضالي في الذبّ عن مكتسبات المجتمع وهويته، كما كان دأبه إبّان الاحتلال الفرنسي وطيلة حكمي الراحلين بورقيبة وبن علي.
ولأن سعد الدّين إبراهيم يشير إلى وجود صلة وثيقة بين عمليّتي بناء المجتمع المدني والتّحوّل الدّيمقراطي، لاسيما في المنطقة العربيّة بقوله “ففي الوقت الذي تنمو وتتبلور فيه التّكوينات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الحديثة، فإنّها تخلق معها تنظيمات مجتمعها المدني التي تسعى بدورها إلى ترسيخ دعائم المشاركة في الحكم”، فإنّ اللحظة السياسية الراهنة وما تعرفه من مخاض عسير قد يهدد جملة اللبنات المتواترة على سلم البناء الديمقراطي الهادئ الذي راكمته قبيل إعصار 25 تموز (يوليو) 2021، من شأنها أن تحفّز الحفر في ثنائية المجتمع المدني والهويّة وسياقاتهما التاريخية والسياسية الاجتماعية والقانونية.
جملة التساؤلات حول أهم اللحظات التاريخيّة التي مرّ بها طرح سؤال الهويّة ومدى دقة القول بأن الشعب التونسي مهدّد اليوم في هويّته والاستفسار عن الدور الذي لعبه المجتمع المدني قبل الثورة وبعدها، على وجه الخصوص المنظّمات الطلابية ذات المرجعية الإسلامية كصوت الطالب الزيتوني والاتحاد العام التونسي للطلبة، في تكريس الهوية الإسلامية في تونس، طرحتها “عربي21” على الباحث الدكتور إبراهيم عمري الذي ناقش الأسبوع الماضي أطروحة دكتوراه بعنوان “دور المجتمع المدني في تكريس الهويّة من خلال الفكر السياسي التونسي المعاصر” بمعهد الحضارة الإسلامية بجامعة الزيتونة، والحاصل سابقا على دكتوراه العلوم السياسية من كلية الحقوق والعلوم السياسية بتونس.
وفي ما يأتي الجزء الثاني والأخير من الحوار:
س ـ إذا سلّمنا بأنّ المجتمع المدني هو مجتمع نقيض للمجتمع السّلطوي، بما يحويه من منظمات حقوقية وطالبية مناهضة للسلطة سواء قبل الاستقلال أو بعده، ولنبدأ من الفترة الاستعمارية التي أتيتم عليها، فأيّ دور لـ”صوت الطالب الزيتوني” بوصفه المجتمع الطالبي الذي حافظ على رابطة “الجامعة الإسلامية” في الدفاع عن الهوية الإسلامية لتونس؟
ـ قامت هذه المنظمة بدور فعال في النضال الوطني إذ كانت كل التحركات المختلفة التي قادها الزيتونيون تمثل إحدى أسس تحركات الحركة الوطنية ضد الاستعمار (تحركات الأساتذة والطلبة). عاش هؤلاء الطلبة حالة صدام مع الثقافة الغربية التي تسيطر على العاصمة ما أدى إلى تواصل حركة الاحتجاج ضد عملية التغريب والقيم الوافدة.
وقد مثلت قضية اللغة إحدى أبرز المسائل التي حظيت بالاهتمام الطالبي إبان الفترة الممتدة بين 1910، تاريخ الفعل الطالبي الأول ونهاية الحرب العالمية الثانية. لقد كانت الإدارة الاستعمارية تدرك طبيعة العلاقة بين اللغة العربية والإسلام حتى إن أحد الدارسين الاستعماريين اعتبر أنّ اللغة العربية منبثقة مباشرة عن الدين الإسلامي، بحسب ما ورد في بحث “الدين في خدمة القومية في تونس” لمؤلفه غابريال باير.
إثر إصدار تلك السلطة الأمر المؤرخ في مايو 1928 الذي يفرض على المترشحين لمناظرة عدول الإشهاد إجراء اختبار في اللغة الفرنسية. وقد جوبه ذلك الإجراء بعدة تحركات بدأت في مطلع السنة الدراسية الموالية بالإضرابات سرعان ما تحولت إلى مظاهرات انضمت إليها عدة شرائح شعبية أخرى ولقيت دعم قوى سياسية عديدة.
فقد جاء في أحد المناشير الداعمة لذلك التحرك: “لنقاوم الاستعمار الذي يريد محو خصائص الشعب التونسي بالاعتداء على لغته وتقاليده وتعليمه القومي… اعلموا أن هذا الإضراب لن ينجح بدون مساندتكم فاحتجوا حينئذ بالأعمال لا بالأقوال وعبروا عن استنكاركم بالتجمهر في الشارع”.. وبالرغم من انتهاء ذلك التحرك بممارسة حملات قمعية ضد الطلبة الزيتونيين واعتقال بعضهم وطرد البعض الآخر ونفيهم إلى أقصى الجنوب، فإن عمليات التهميش الاستعماري الفرنسي للغة العربية بقيت تشكل موضوعا سريع التأثير في الفعل الطلابي. فقد تجددت التحركات بعد صدور الأمر العلي المؤرخ في 7 شباط (فبراير) 1936 القاضي بفرض معرفة اللغة الفرنسية لترسيم الموظفين التونسيين.
وعلى الرغم من أن أغلب الطلبة الزيتونيين كانوا يحذقون اللغة الفرنسية نظرا إلى أنهم تعلموها في المدارس الفرنكو-عربية فإن تعاملهم مع تلك المسألة كان تعاملا مبدئيا معتبرين ذلك الإجراء بمثابة الاعتداء على ثقافتهم العربية، رافضين منح اللّغة الفرنسية أي امتياز وأي فرصة للتسرب إلى برامجهم الدراسية باعتبارها لغة المستعمر. وكما هو الشأن بالنسبة لأمر 8 أيار (مايو) 1928 فقد أثارهذا الإجراء ردود فعل الشريحة الطلابية بالدرجة الأولى التي عبرت عن رفضها المطلق لربط الترسيم في الوظيفة العمومية بمعرفة الفرنسية ودعت إلى القيام بتحركات بدأت بالمناشير التحريضية لتتحول بسرعة إلى إعلان الإضراب اللانهائي عن الدروس، بدأ يوم 22 شباط (فبراير) في مركز الجامع الأعظم وانتشر إلى فروع عديدة، تلا ذلك تظاهر الطلبة في الشوارع ومواجهة القوات العسكرية الفرنسية، وكانت نتيجة تلك المعارك سقوط جرحى ومعتقلين وتنفيذ محاكمات في حق 33 طالبا نتجت عنها إجراءات زجرية عديدة مثلا للسجن والطرد من الدراسة والإبعاد إلى منطقة التراب العسكري.
أدرك الزيتونيون أن الهيمنة الاستعمارية لا تقوم على السيطرة الاقتصادية والعسكرية فقط وإنّما تمتد للبعد الثقافي وهو قد يكون أخطر من الأبعاد الأخرى حيث يعمل الاستعمار على تغيير الهوية من خلال خلق ازدواجية في اللغة والعقيدة.
س ـ وهل كان النضال السياسي الزيتوني قبل الاستقلال مقترنا بوعي ثقافي كامل؟
ـ الثابت لدينا أنّ الشبيبة الزيتونية ممثّلة في حركة صوت الطالب الزيتوني كان وعيها عميقا بخطورة المسألة الثقافية في حاضر تونس ومستقبلها. وإذا كان ظاهر نضالها المرير تركّز في مسألة تعصير التعليم الزيتوني في مستوى البرامج والهيكلة والتأطير والبنية الأساسيّة، فإنّ باطنه قد تجاوز ذلك إلى الربط بين التعليم والتثقيف ربطا محكما نظرا إلى أنّه لا فائدة ترجى من تعليم مفصول عن الثقافة الوطنية التي تشكّل أحد أسس الشخصية القاعدية من منظور التيار الثقافي الأمريكي ممثّلا في “رالف لنتون R. Linton” وغيره. وهو تصوّر مقابل للسياسة الثقافية الاستعمارية.
وهل تواصل النضال الثقافي لصوت الطالب الزيتوني بعيد الاستقلال؟
بعد الاستقلال وأمام انكشاف التوجه اللاّئكي لبورقيبة، اجتهدت المنظمة في التأكيد على الخصوصية الحضارية للمجتمع التونسي وإبراز العامل الثقافي الذي يعني “إحياء الثقافة العربيّة الإسلاميّة وتطويرها للإسهام الجاد في تحقيق استقلال حقيقي يضمن المساهمة الفعّالة في الحضارة الإنسانية دون إهدار الحقّ العربي الإسلامي في المحافظة على خصوصيّته الحضارية والحقّ في الاختلاف الفكري والفلسفي. وهو ما يمكن إدراجه ضمن العقلانية الموسّعة أو “العقلانية المفتوحة” على حدّ تعبير إدغار موران E. Morinالتي لا ترى تعارضا بين الدين والحداثة بصفتها “مشروعا غير مكتمل” بعبارة هابرماس Habermas .
إن صوت الطالب الزيتوني كان حسّا استراتيجيا مبكّرا للربط بين الاستقلال والبعد الحضاري والثقافي من أجل ضمان استقلال آمن وفعلي حتى لا يجد المجتمع نفسه في حالة فراغ (وهو ما حصل فعلا) بعد خروج الاستعمار واللجوء إلى المدرسين الفرنسيين ليواصلوا التدريس بعد استقلال تونس إلى قرابة السبعينيات من القرن الماضي أو التخطيط للتعليم التونسي ووضع برامجه.
س ـ كثيرا ما قدّم الاتحاد العام التونسي للطلبة نفسه بمثابة الامتداد التاريخي لصوت الطالب الزيتوني، فإلى أيّ مدى انخرط الاتحاد في معركة الهوية؟
ـ رغم أنّ الوظيفة الأساسية للاتحاد العام التونسي للطلبة، بوصفه منظمة نقابية طالبيّة، هي الموضوعات النقابية التي تتعلق مباشرة بالحقوق المادية والمعنوية للطلبة، على وجه الخصوص تحسين ظروف الدراسة من مبيت وأكلة جامعية وإلغاء قانون الوزير عبد العزيز بن ضياء، وزير التربية بداية ثمانينيات القرن الماضي، المحدد لعدد الفرص في الدراسة بالجامعة والذي ذهب ضحيته آلاف الطلاب، فإنّه لم يهمل جانب الهويّة عند مطالبته بضرورة إصلاح التعليم الجامعي وإعادة هيكلته، من ذلك الموقف من مسألة الهوية الإسلامية، حيث جاء في مقدمة نص الميثاق الجامعي الذي طرحه أواسط ثمانينيات القرن الماضي: “إن الحركة الطّالبية أمام تحديات جسيمة تفرض عليها تحمل مسؤوليتها التاريخية أكثر من أي وقت مضى (…) دفاعا عن حرية شعبنا وكرامته وهويته الثقافية والحضارية”(…)… من أجل الدفاع عن المؤسسة الجامعية ورسالتها العلمية والحضارية في إطار النضال الشامل من أجل التحرير الكامل لأمتنا”. كما ورد في النقطة الثانية من الفصل الأول من الباب الأول المعنون بـ”الجامعة وظيفتها وهيكلتها”، ما نصّه: “ضرورة تكوين الطالب المثقف الواعي بالمرحلة التي يعيشها مجتمعه ورسالته فيها بما يرسخ الثقة في النفس والانتماء الحضاري العربي الإسلامي”.
وبما أن النخبة زادت إمعانا في تحدي ثقافة المجتمع وهويته فقد جاءت النصوص التي أنتجها الاتحاد العام التونسي للطلبة سواء التي تعلّقت بلوائح المؤتمرات أو النّصوص التوثيقيّة مدافعة عن الهوية ورافضة للمسخ الثقافي والإلحاق الحضاري للدول الاستعمارية على رأسها فرنسا التي همّشت ثقافات الشعوب في المستعمرات وبذلك كان موقف الاتحاد واضحا من مسألة التبعية الثقافية والعلاقات الدولية غير المتكافئة، حيث شخصت تحاليل الاتحاد الوضع في البلاد التونسية كجزء من الوطن الإسلامي والمنطقة العربية.
لقد أبرزت تلك التوضيحات انتماء الطالب الحضاري العربي الإسلامي، فالميثاق يقرب وجود حضارة عربية إسلامية تشكل الفضاء الذي يشتغل فيها الاتحاد العام التونسي للطلبة وعلى تلك الأرضية حددت المنظمة النقابية تصوراتها للاختيارات الكبرى التي يجب أن تسود في التعليم العالي.
المصدر: عربي21