مقالاتمقالات مختارة

“هلاك شحرور”!

“هلاك شحرور”!

بقلم الشيخ د. عبدالله السادة

ما إن تظهر الغيرة الإيمانية لدى العوام والخواص لأمر يتعلق بدين الأمة؛ إلا وتصحبها نقاشات في أمور جانبية تصرف الناس عن أصل الحدث وتخفف حماسة غيرتهم.

وتختلف هذه الأطروحات بين قاصدة لمحاربة الدين، وبين قاصدة للحكمة والتحليل وفق نظر أصحابها.

ومن أواخر هذه الأحداث هلاك “شحرور”.

ومن هذه النقاشات إدخال مصطلح (الموضوعية)أو (عدم الشخصنة). ومن تأمل هذا المصطلح؛ يُدرك أن من أطلقوه متفاوتون في الالتزام بمضمونه، فنبذهم للشخصنة في العلوم التجريبية والمادية ليس كنبذهم لها في العلوم الإنسانية والاجتماعية، فكثير من الدراسات في الثانية ينطبق عليها مفهوم الشخصنة.

وإذا تأملنا طعن الناس في شحرور: نجد أن طعن الناس بسبب أفكاره ودعوته، وليس لأمور جانبية أو شخصية. وطعنهم انطلق استناداً إلى مرجعية من صحيح النقل والعقل، ولم ينطلق من رؤى أو أهواء شخصية. فهل مصطلح الشخصنة هنا يصح إطلاقه على ما أوجبه الله على أهل العلم من الشهادة على الخلق بالحق؟!

وإن اقتضى مدلولُ الموضوعية مُعارضةَ وحيِ ربنا: فليس من الإيمان ولا الحكمة ولا العقل ولا الفقه تركُ الشرع لأجل هذه المصطلحات المخترعة ودلالاتها الفضفاضة وهذه الأهواء المختلفة. فنحن في نهاية الأمر في جميع الأحوال متعبدون بالشرع ومنقادون لله ولكتابه ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وقد قَعَّدَ دعاةُ (الموضوعية وعدم الشخصنة) أموراً كثيرةً جعلوها من المُسَلَّمات القطعيات، وسَفَّهوا دينَ الناس وعقولَهم لأجلها كما رأيتم.

ومن هذه الأمور قاعدتان قطعيتان عندهم:

1- تحريم توجيه الطعن لذات الشخص مهما بلغ ضلاله العقدي وانحرافه الكُفْري، ومن باب الإنصاف يُحَرم أغلب هؤلاء النيلَ من أديان الناس ومقدساتهم ورموزهم بالسخرية، لكن لم نر حماسةً منهم لنظريتهم هذه كحماستهم ضد من طعنَ في شخصية المُستهزِئ شحرور.

2- تحريم الدعاء على دعاة الضلالة مهما بلغ فُحشهم، وتحريم ذكر أسمائهم بسُوء أو غيبة، وتحريم وصفهم بغلو أو فسق أو بدعة، وإن جاهر بعضُهم بضلاله ودعا الناس إليه في ليالي رمضان.

ولا رابط لهاتين القاعدتين عقلا بتعريفات الشخصنة والموضوعية لفظا ولا معنى، فهذه أمور دينية متعلقة بالعقائد والدعاء وحِفظ الدين، وتلك أمور بحثية وُضعت لأهداف أخرى. وإن تعارضت فالمُقدم الشرع لا المُحدَثُ الآخِر، فلا ينبغي أن تُدرج هذه الأعمال ضمن (الشخصنة والموضوعية) أبداً.

بلاء أمتنا في هذا العصر: تأثرُ كثيرٍ من الناس بالثقافة الغالبة وخضوعهم لسلطتها، فيحاول كثير من المفتونين إخضاعَ كل شؤون الحياة قصداً ومن غير قصد، وإرضاءَ أهل الغلبة من الأمم الأخرى. لكن الخير باق في الأمة، فلا زال الناس بخير ما دام فيهم من يقاوم سُلطة الغالب الثقافية والفكرية.

ومن سَرفِ دُعاة الموضوعية وإفراط تسفيههم للناس: اتهام الناس بالباطل أنهم يدعون امتلاك مفاتيح الجنة والنار؛ إذا وصف أهل العلم شخصا بالضلالة واتهموه بالزندقة وهذه طريقة جَدَليةٌ منهم لا نرتضيها، فلنا في هذه الدنيا أحكامُ الظاهر.

ونظرياً أو على قياس مذهبهم -كما يقول الفقهاء- لا يرى أهلُ (الموضوعية وعدم الشخصنة) جوازَ الطعن في أشخاص الدجاجلة ومدعي النبوات ومنكري القطعيات، ويجيزون للناس فقط نقدَ الفكرة دون التعرض لذواتهم.

فإن رأيتَ شخصا يدعي النبوة جاز لك -عندهم- بيانُ حرمة ادعاء النبوة دون التعرض لذات وشخص هذا النبي الكذاب، بل موقفهم مع حادثة شحرور يجعل هذا منطوقَ مذهبهم ومفهومَه قبل أن نعتبره قياساً عليه، فبالله عليكم هل ضلالات شحرور وما دعا إليه هي من الصغائر والاجتهادات المعتبرة ؟!!

ولا ندري ما موقف هؤلاء مما تواتر عليه عمل الأمة من العصر الأول إلى يومنا هذا من تسمية دعاة الضلال والطعن فيهم والتحذير منهم، بل ألف أهل العلم في مختلف الأزمنة كتبا وعنونوها بأسماء المردود عليهم.

فهل أصاب أهل العلم والفكر حين ألفوا: (الرد على ابن عربي) أو (الرد على بشر المريسي) وطعنوا فيها في أشخاصهم وآرائهم. أو نقول إنهم شخصنوا الأمور؟! وإن كانوا مصيبين أو ساغَ لهم فما هي حسنات شحرور التي تعطيه حكما خاصا؟ إنه جمع الضلالات المفرقة عند غيره ودعا لها.

وفي نهاية المطاف نقول إنصافا ومستصحبين وسطيتنا: من أراد أن يسمي أهل الضلالة، ويرد عليهم ويحذر الناس منهم بأسمائهم فله ذلك، ومن أراد أن يعرض أفكارهم وينقدها ويفندها دون التعرض لأسمائهم فله ذلك. ولكل مقام مقال.

فكما أن لمبدأ (ما بال أقوامٍ ..) موضعه، فكذا لمقام مئات الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تعرضت لأسماء أهل الضلال والبغي موضعها، والقرآنُ الكريم من تعرض لأشخاص فيهم من هو ابن نبي أو أبوه، ولا تخفى الأمثلة

ومن قلة الفطنة لمآلات الأمور إهمالُ أسماء أهل الضلال إذا: افتُتن بعض ضعاف المسلمين بهم، ووصفوهم بألقاب العظمة والتبجيل كالإمام والمجدد والمفكر، وتتضارب آراؤهم مع العقل السليم هادمةً للدين والأخلاق.

ختاماً (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتَنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب)

(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى