هذه هي إسهامات عمر بن الخطاب في تأسيس الدولة الإسلامية
يواصل الكاتب والباحث المصري محمد بدر الدين، قراءة كتاب عميد الأدب العربي طه حسين، عن الشيخين، أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ويركز في الجزء الثاني والأخير، على سيرة عمر بن الخطاب بداية من استخلافه وصولا إلى وفاته..
عمر بن الخطاب:
كان استخلاف عمر أجل خدمة أداها أبو بكر للمسلمين، فهو قد توفي وجيوش المسلمين في الشام والعراق بإزاء الأسدين: الفرس والروم، كما كان يسميهما، والعرب حديثو عهد بالردة، فكان المسلمون في أشد الحاجة إلى رجل قوي شديد في الحق، ماض في الأمور إلى غايتها، حريص على الإنصاف، قادر على أن ينهض بهذه الأعباء الثقال التي تركها أبو بكر، فيستصلح العرب بعد ردتهم، ويتم ما بدأه أبو بكر من الفتح، ويقيم الدولة الناشئة على ما ينبغي أن تقوم عليه من نظام يجمع المسلمين، ويرعى مصالح البلاد المفتوحة وأهلها، وينفذ كتاب الله وسنة نبيه.
وليس عجيباً أن يقول ابن مسعود: “كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصرا، وإمارته رحمة”. وكلمة ابن مسعود هذه على اختصارها هي أدق وصف يختصر حياة عمر منذ أسلم إلى أن توفى، فقد كان إسلامه فتحاً حقاً، لأنه أتاح للمسلمين أن يعلنوا دينهم، وأن يصلوا أمام الملأ من قريش وهم آمنون، وكانت هجرته نصراً، لأنه كان أنصح أعوان النبي (ص) في المدينة لله ورسوله والمسلمين، وأغلظ أصحاب النبي على اليهود والمنافقين، وكانت إمارته رحمة، لأنه أتاح للمسلمين أثناء خلافته لوناً من الحياة ما زالت الأمم المتحضرة الآن في الغرب لم تبلغه، وما زال المسلمون في هذه الأيام يرون هذا اللون من الحياة التي أتاحها عمر للناس حلماً لا يدرون متى يصبح حقيقة على ما أتيح لهم وما يتاح لهم في كل يوم من الوسائل التي تعينهم على تيسير الحياة، ولم يكن عمر يملك من هذه الوسائل شيئاً.
يقول المؤلف في (صفحة 122): “كان عمر أثناء جاهليته يرق قلبه في بعض المواطن، فأما بعد إسلامه فقد كانت رقة قلبه تبلغ به البكاء بل النشيج في أكثر الأحيان، ومن أجل هذا كله كان أثناء خلافته مهيباً كأعظم ما تكون الهيبة، رقيقاً كأشد ما تكون الرقة”.
على أن استخلاف عمر ونهوضه بأعباء الحكم، ومواجهته لمشكلات السلم والحرب، كل ذلك أظهر خلقاً من أخلاق عمر لم تظهره الأحداث قبل ذلك، لأنه قبل أن يستخلف كان سيفاً من سيوف النبي صلى الله عليه وسلم يسله إن شاء، ويغمده إن أحب، وكان أيام أبي بكر سيفاً من سيوف الخليفة إن شاء سله، وإن شاء أغمده.
كان عمر شديداً على نفسه كل الشدة، وشديداً على غيره كل الشدة أيضاً في مال المسلمين، فكان يحاسب نفسه أشد الحساب على ما يأخذ من مال المسلمين لنفقته ونفقة أهله، وكان يقول: “إني أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة مال اليتيم”.
هذه الشدة التي فرضها عمر على نفسه منذ استخلف، هي التي تفسر لنا موقفه عام الرمادة حين أصاب العرب في الجزيرة ما أصابهم من الجدب حتى اضطروا أن يأكلوا الميتة، وقد استمر هذا الجدب تسعة أشهر، وقف عمر أثناء هذه الأشهر موقفاً لا يعرف التاريخ له نظيراً، فما أكثر ما أصاب الجوع بعض البلاد، وما أكثر ما شقي الناس بهذا الجوع، واجتهد ملوكهم وولاتهم في أن يخففوا عنهم هذا الجهد، ولكنا لا نعرف أحداً من هؤلاء الملوك والولاة شارك الناس في الجوع، وفيما كانوا يجدون من الجهد، كما شارك عمر أهل الحجاز ونجد وتهامة في كل ما أصابهم من الجهد والعناء، فقد جاع عمر كما جاع الناس، وحرم على نفسه لين العيش كله، حتى عاش على الزيت، وحتى تغير لونه لكثرة ما أكل من الزيت نيئاً ومطبوخاً، ثم كان يحمل إلى الأعراب داخل المدينة وخارجها طعامهم على ظهره ويأبى أن يكفيه ذاك أحد غيره، وكان لا يترك من يحمل إليهم الطعام حتى يراهم قد أكلوا من الطعام حاجتهم.
المشكلات التي واجهها عمر:
كانت أول مشكلة واجهت عمر حين نهض بأمور المسلمين مشكلة الفتوح، وموقف الجيوش التي أرسلها أبو بكر رحمه الله إلى العراق والشام.
استطاع عمر أن يجمع ألف رجل من المهاجرين والأنصار ودفعهم إلى الجهاد، وأمر عليهم أبا عبيد بن مسعود، وسار أبو عبيد بجيشه إلى العراق، فقاتلوا مستبسلين، لكن الفرس على كثرتهم قد قدموا شيئاً لم يألفه العرب في قتالهم من قبل وهي الفيلة، فلما رأتها خيل المسلمين نفرت منها، وكان في مقدمة هذه الفيلة فيل ضخم تعرض له أبو عبيد فطعنه، فلما أحس الفيل حر الطعنة ثار فطرح أبا عبيد في الأرض وقتله، وقتل يومئذ من المسلمين عدد غير قليل، وبلغ خبر الهزيمة عمر فبكى وقال: رحم الله أبا عبيد لو انحاز إليّ لكنت فئته، ثم ولى سعد بن أبي وقاص على الجيش، وأوصاه ألا يغامر بالمسلمين، وأن ينزلهم منزلاً بين حضر العراق ومدر العرب، وأن ينتظر الإمداد.
الفتوحات في عهده ومخالفته لسياسة أبي بكر في أمر الشام:
لم يكد عمر ينهض بأعباء الخلافة حتى كتب إلى جيوش الشام ينعي إليهم أبا بكر، وينبئهم ببيعته، ويعزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيش، ويجعل هذه الإمارة لأبي عبيدة بن الجراح، ويأمره إذا فتح الله على المسلمين أن يوجه من جاء مع خالد من العراق إلى عراقهم، ليكونوا مدداً لسعد ومن معه من المسلمين.
يقول المؤلف في (صفحة 150) نقلاً عن الرواة: “إن كتاب عمر وصل إلى أبي عبيدة في ليلة كان المسلمون يتهيأون فيها لمصادفة الروم من غد، فأخفى أبو عبيدة كتاب عمر وأسر ما جاء فيه من عزل خالد وتوليته هو. كره ـ فيما يقول الرواة ـ أن يثبط المسلمين ويفل من حد خالد، الذي كانت إليه إمرة الجيش في تلك الموقعة”.
لم يظهر أبو عبيدة خالداً على أمر عمر بعزله إلا بعد فتح دمشق، ثم كانت للمسلمين بعد ذلك خطوب، أتاح الله لهم فيها النصر على الروم في أكثر من موقعة، حتى فتحت فلسطين كلها، وفتح الأردن، ثم فتحت حمص وسائر مدن الشام، وكان هرقل قيصر قسطنطينية مرابطاً في أنطاكية يمد جيوشه منها، فلما رأى ما أتيح للمسلمين من النصر في هذه المواطن كلها عاد إلى القسطنطينية وودع سوريا وداعاً لا لقاء بعده.
لم يكد عمر ينهض بأعباء الخلافة حتى كتب إلى جيوش الشام ينعي إليهم أبا بكر، وينبئهم ببيعته، ويعزل خالد بن الوليد عن إمارة الجيش، ويجعل هذه الإمارة لأبي عبيدة بن الجراح، ويأمره إذا فتح الله على المسلمين أن يوجه من جاء مع خالد من العراق إلى عراقهم، ليكونوا مدداً لسعد ومن معه من المسلمين.
ومع أن فلسطين قد فتحت كلها، فإن مدينة بيت المقدس التي هم المسلمون باقتحامها طلب أهل المدينة الصلح، واشترطوا ألا يتم هذا الصلح إلا مع أمير المؤمنين نفسه، وقد أنبئ عمر بذلك فأقبل إلى الشام وأتم الصلح مع بيت المقدس ودخل مظفراً.
ثم انتزع منه عمرو بن العاص الإذن بفتح مصر، فلما تم له الفتح، استطاع المسلمون أن يتجاوزوا غرباً إلى برقة وطرابلس.
من ناحية أخرى، كانت حرب الفرس عسيرة أشد العسر، طويلة أشد الطول، ومع ذلك فقد بلغ منها عمر رضي الله عنه ما أراد، في أن يؤمن العرب في جزيرتهم، وفي الشام والعراق من حكم الأجنبي، وكانت موقعة القادسية التي طالت وشقت وامتحن المسلمون فيها امتحاناً شديداً، لكن الله أنزل عليهم نصره، وقد استقر في نفس عمر، وفي نفس الذين كانوا يشيرون عليه في المدينة أن المسلمين لن يكسروا شوكة الفرس، إلا إذا غزوهم في عقر دارهم، وأخذوا عاصمتهم المدائن، وقد مضى سعد بن أبي وقاص بجيشه إلى المدائن فدخلها مظفراً وخرج منها الملك هارباً، وأتيح للمسلمين أن يتخذوا إيوان كسرى مصلى.
هكذا، فتحت على عمر بلاد كسرى كلها في هذه المدة القصيرة التي تولى فيها أمور المسلمين في عشر سنين وأشهر.
التقويم الهجري:
كانت الكتب ترد إلى عمر من عماله وقادته مؤرخة بالشهور التي تكتب فيها، دون أن تؤرخ بالسنين، لأن المسلمين لم يكونوا قد اتخذوا لأنفسهم تاريخاً، فضاق عمر بذلك، واستشار أصحاب النبي في تاريخ يجعل الناس يؤرخون به، فأشير عليه بأن يتخذ العام الذي هاجر فيه النبي (ص) من مكة إلى المدينة بدءاً للتاريخ الإسلامي.
تعامله مع مشكلة الغنائم:
كان عمر يتلقى أخماس الغنائم كلما انتصر جيش من جيوشه، وكان يتلقى الخراج على الأرض التي يعيش عليها المعاهدون، كما كان يتلقى الجزية التي فرضت على من لم يسلم من المغلوبين، فكان المال الذي يرد عليه أكثر جداً مما كان يتوقع، ومما كان العرب يظنون أنه سيساق إليهم في يوم من الأيام، كان هذا المال أكثر من أن يقسم على الناس، وكان تقسيمه خطراً، كان نوعاً من السرف، وكان مغرياً للناس بالكسل والاتكال والاعتماد على حظوظهم من الأخماس والجزية والخراج، وقد انشغل عمر بهذه المشكلة واهتم بها، لاسيما بعد أن دخل سعد بن أبي وقاص وجيشه المدائن عاصمة الفرس وأرسلوا له خمس ما غنموا في هذه المدينة. وقد استشار عمر أصحاب النبي في أمر هذا المال، فأشار عليه الوليد بن هشام بن المغيرة بأن قال: إني قد جئت الشام فرأيت ملوكه قد دوّنوا ديواناً، وجندوا جنداً، فدون ديواناً وجند جنوداً، وقد أخذ عمر برأي الوليد وكلف ثلاثة من قريش، هم: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، أن يكتبوا الناس على قبائلهم، وأن يبدأوا ببني هاشم لقرابتهم من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
لو بحثنا في سيرة عمر لوجدنا في سير آخرين تشابها معه، لكن يبقى عدله وزهده آيتين على مر الزمان لا مثيل لهما، ولم يتكررا سوى مرة أخرى على يد حفيده عمر بن عبد العزيز، ابن بائعة اللبن التي رفضت أن تغش اللبن، ليس خوفاً من ابن الخطاب الذي لن يعرف بعملتها، بل خوفاً من خالقها هي وابن الخطاب.
ومعنى الرأي الذي أشار إليه الوليد بن هشام، ألا يقسم المال على الناس لغير غرض معروف، وإنما ينفق لغرض جدير أن ينفق فيه، وهذا الغرض هو تجنيد الجنود، فإذا جند الجنود وجب على أمير المؤمنين أن يعطيهم أعطياتهم من هذا المال وأن يترك لهم حقهم من الغنيمة بعد ذلك، والجنود لم يكونوا يعيشون قبل تجنيدهم منفردين، وإنما كانوا يعيشون في أسرهم، لهم أبناؤهم وآباؤهم وإخوتهم، ولابد من أن يمكن هؤلاء الذين تركهم الجنود للجهاد في سبيل الله من الحياة، فلهم إذن حقهم في العطاء، فإذا أعطى الجند، وأعطيت أسرهم، وأعطى الذين يحتاجون إلى المال ما يقوم بحاجتهم، وبقي بعد ذلك شيء عند الخليفة، فيجب عليه أن يدخره في بيت المال عُدة لما قد يحتاج إليه المسلمون في أوقات الشدة والضيق.
وفي تنظيم العطاء فضل عمر أقرب الناس إلى النبي على سائر بني هاشم، ثم رتب الناس في العطاء على قدمهم وسابقتهم في الإسلام، وعلى بلائهم في الإسلام أيضاً، ففرض للذين هاجروا قبل فتح مكة ثلاثة آلاف لكل واحد مهم، وفرض للذين شهدوا بدراً خمسة آلاف درهم في العام، وللذين هاجروا إلى الحبشة والذين شهدوا أحداً أربعة آلاف.. ثم جعل ينزل الناس منازلهم حتى فرض لكل طفل فطيم مائة درهم، فإذا ترعرع زاد عطاؤه، على أنه حين رأى امرأة تعجل بفطام ابنها، روعه ذلك ترويعاً شديداً، فأمر المنادين فنادوا في الناس ألا تعجلوا أبناءكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. وكتب بذلك إلى عماله في الأقاليم. وجعل للقيط مائة درهم يأخذها وليه ويدخرها له، وجعل رضاعه ورزقه من بيت المال يأخذه وليه في كل شهر.
ونظام العطاء هذا كما فرضه عمر جديد من جميع نواحيه، لا نعرف أن أمة من الأمم التي سبقت العرب إلى الحضارة عرفته أو عرفت شيئاً قريباً منه، وإنما نعرف أن بعض الأمم القديمة كانت تستأجر الجنود للحرب ولا تحرمهم نصيباً من الغنائم قليلاً أو كثيراً، ونعرف أن بعض الحكومات القديمة كانت تقطع الجنود أجزاء من الأرض إذا تقدمت بهم السن يعيشون من غلاتها، أما أن تكفل الدولة رزق المسلمين جميعاً على هذا النحو فلا نعرفه في التاريخ القديم، ولا نظن أن الحضارة الحديثة وُفقت إليه. فكل ما وصلت إليه الحضارة الحديثة في بعض البلاد، إنما هو “التأمين الاجتماعي” الذي تؤخذ نفقاته من الناس لترد عليهم بعد ذلك، حين يمرضون ويحتاجون إلى العلاج، وإلى كفالة الحياة للشيوخ والضعفاء والعاجزين عن العمل لكسب القوت، وتأمين الذين يخدمون الدولة على رزقهم حين تنقضي خدمتهم، أما أن يكون لكل فرد من أفراد الأمة نصيب مقسوم من خزانة الدولة فشيء لم يعرف إلا في عهد عمر رضي الله عنه.
والحق أننا لو بحثنا في سيرة عمر لوجدنا في سير آخرين تشابها معه، لكن يبقى عدله وزهده آيتين على مر الزمان لا مثيل لهما، ولم يتكررا سوى مرة أخرى على يد حفيده عمر بن عبد العزيز، ابن بائعة اللبن التي رفضت أن تغش اللبن، ليس خوفاً من ابن الخطاب الذي لن يعرف بعملتها، بل خوفاً من خالقها هي وابن الخطاب.
هذا العدل الذي نقف أمامه اليوم، نتأمله في زمن لا يعرف من عدل عمر سوى الاسم ولا من زهد عمر سوى الادعاء الكاذب، بينما كل ملك ورئيس يتورد وجهه من شدة ما ينعم به من ثراء، وشعبه يعاني معاناة تدمي لها قلوب الشياطين أنفسهم.
كان عمر قبل عام الرمادة أبيض الوجه فلما جاء على الناس ما جاء من جفاف وجوع، تحول بياضه سواداً من كثرة شدته على نفسه، أكل الزيت وكان يؤذيه فما توقف عنه حتى رفع الله بلاءه عن الناس، ولو أكل غيره ما كان ليلومه أحد، لكننا اليوم ما كنا نجد عمر الذي نتغنى بسيرته العطرة كما وصلتنا.
(المصدر: عربي21)