مقالاتمقالات مختارة

هذا ما خسرته الجزائر بإيقاف ملتقيات الفكر الإسلامي

هذا ما خسرته الجزائر بإيقاف ملتقيات الفكر الإسلامي

بقلم حسن خليفة

حدثٌ علمي وفكري وثقافي عالمي  كبير، عاشته الجزائر على مدار نحو ربُع قرن، من أواخر  سنة 1967 إلى سنة 1990 كانت الجزائر خلالها أقرب إلى أن تكون “عاصمة عالمية  للثقافة الإسلامية”، يقصدها العلماء الأعلام من كل أقطار الدنيا: من دول المشرق الإسلامي ومغربه، ومن  دول أوروبا وأمريكا، مسلمين: من مشارب فكرية وإيديولوجية ومذهبية متنوعة مختلفة، وغير مسلمين أيضا من أعلام والعلم والفكر والثقافة.

يشهد القاصي والداني أن تلك الملتقيات المسماة “ملتقيات التعرّف على الفكر الإسلامي” كانت جامعة متنقلة، تقدّم للمئات ممن يحضرونها من أساتذة وطلبة جامعات وطلبة ثانويين، وللآلاف الذين يتابعونها من بعيد، خلاصات الفكر الصحيح، وتعلمّهم الحدّ المطلوب مما يُسمى “الثقافة الذاتية” وهي القدر اللازم مما ينبغي أن لا يجهله كل مسلم ومسلمة من دينه وحضارته وتاريخه، كما تدرّبهم على أصول التحاور والنقاش والجدل أحيانا …

ويمكن أن يشهد على ذلك الألوف ممن “تتلمذوا” وتعلمّوا بشكل أو بآخر في ذلك المنتدى العلمي المعرفي الوارف الظلال، وقد صاروا جميعا  إطاراتٍ عليا في مواقع متنوعة، في حقول العلم والفكر، والإدارة والتسيير.

لا يستطيع عاقلٌ أن يُنكِر فوائد تلك الملتقيات  من النواحي المعرفية والنفسية والعلمية، والتي تندرج أساسا في تأهيل شباب الجزائر، من الذكور والإناث على سواء، وإعداده ليكون أنموذجا حيّا فعّالا في الحياة، متعلّما متبصّرا، فقيها بدينه عارفا مستوعبا لدنياه؛ إذ كانت ملتقيات الفكر الإسلامي  -بالنسبة لهؤلاء الحضورـ أقرب إلى أن تكون تربّصا علميا ثقافيا مفتوحا مدة أسبوع، يستمعون فيه إلى عشرات المحاضرات والمداخلات، ويستمعون أيضا إلى عشرات المناقشات والتعقيبات عن كل محاضرة ومداخلة… محاضرات لذوي العقول الكبيرة الوازنة، وذوي العلم الغزير النافع المتدفق من علماء وأساتذة وخُبراء ومستشارين في الفكر الإسلامي والفكر الإنساني، فيتعلّمون ويتمرّنون (من التمرين والتدريب، من كل ذلك ما يعينهم على صقل ذواتهم وشحذ شخصياتهم وتطوير أنفسهم.

ولنستذكر فقط مجموعة من الأسماء التي كانت تحضُر تلك الملتقيات، وهم من أقطار وقارات مختلفة  مثل :محمد عزيز الحبابي، محمد أبو زهرة، علال الفاسي، محمد المبارك، الشيخ محمد الغزالي، الشيخ البوطي، إيفون توران، مراد هوفمان، زيغريد هونكه، عثمان الكعاك، سالفاتوري بونو، يوسي آرو، عبد الله العروي، محمد أركون، المنجي الكعبي، عبد الله عمر نصيف، الكسندرا ما تكوفسكي،عبد المجيد مزيان، راشد الفرحان، أحمد توفيق المدني، محمد عبده يماني، موسى الصدر، محمد علي التسخيري، مصطفى الزرقاء، صبحي الصالح، أحمد سحنون، أحمد حماني، عبد العزيز كامل، عثمان أمين، حنفي بن عيسى، محمد العربي ولد خليفة، رشيد بن عيسى، عمار طالبي، عبد الرزاق قسوم، مولود قاسم، سعيد شيبان، بوعلام بن حمودة، أحمد بن نعمان، مولاي كريم الله، عبد الرحمن الصابوني، محمد أحمد الشريف وغيرهم كثير.. وغيرهن أيضا؛ إذ كانت تحضر أستاذاتٌ ومحاضرات متخصِّصات.

ينبغي التأكيدُ هنا على أمر أساسي وهو أن تلك الملتقيات كانت كسبا خالصا للجزائر، على أكثر من مستوى، وفي أكثر من مجال، ولنستعرض بعضا من ذلك :

بالنسبة للتأهيل والإعداد ـ كما سبق الذكرـ  قدّمت تلك الملتقيات خدمات جليلة في تأطير الشباب الجزائري وتكوينه، من الطلبة والتلاميذ، وهيأتهم على أوفق ما يكون؛ من حيث اقتدارهم على التفكير الجيد، والمناقشة القوية، والحجاج الفعّال، والجدل النافع، والمنافحة عن الفكر والرأي.

بالنسبة للجزائر كبلد ودولة كانت تلك الملتقيات بقعة إشعاع كبير، أعطى للجزائر قيمة كبيرة؛  إذ كانت الجزائر”قبلة” لحوار الحضارات والثقافات، وتبادل الرؤى والأفكار، يجتمع في فضائها أعلامُ  الفكر وأعمدة الثقافة، وأساتذة الجامعات والباحثون الأكاديميون من الطراز العالي، على اختلاف في الرؤى والطروحات والاتجاهات والأفكار، بل والأديان.. تجتمع وتتناقش في حرية تامة، فهل ثمة أبلغ من هذا في إسداء قيمة جليلة للجزائر؛ خاصة والجزائر  كانت لا تزال فيتلك المرحلة المبكرة من استعادة استقلالها ؟

كان للجزائر أيضا كسب، بل كسوب كبيرة، من خلال الطريقة التي تُدار بها تلك الملتقيات؛ إذ كانت تنتقل من ولاية إلى ولاية ومن مدينة إلى مدينة : قسنطينة، العاصمة، تبسة، بجاية، تيزي وزو، وهران.. . وكان لذلك زخمه وفائدته في التعريف والتعرّف على الجزائر كبلد واسع عريض، بجغرافيته وسهوله وهضابه وصحرائه.. فأي فلسفة تسويقية هذه التي كانت تقف وراء هذا العمل الجبار.

كان من أعراف تلك الملتقيات ـ إذا صح التعبيرـ  استضافة سكّان أي مدينة يقع فيها الملتقى للمحاضرين من العلماء والأساتذة والمشايخ، فكان ذلك يعطي زخما اجتماعيا وإنسانيا رائعا، يصبّ في نهر “خدمة الوطن” . وقد كان  إقبال المواطنين على استضافة العلماء في ذلك يبلغ مبلغ التنافس الحقيقي، فيذهب العلماء جماعات جماعات إلى بيوت المواطنين في أي مدينة، يلقون الإكرام والتكريم والدفء والاهتمام،  ما يترك انطباعاتٍ رائعة في النفوس، كثيرا ما ترجمها هؤلاء العلماء، وبعضهم كتّابٌ في الصحف ومتحدثون في الإذاعات والتلفزيون، فيبقى الحديث عن الجزائر أسابيع طويلة ..عن شعبها ودولتها وحكومتها وشبابها وأجواء العلم والثقافة والرفعة فيها… إنه تسويقٌ يصعب تحقيق مثله بميزانيات ضخمة وحملات علاقات عامة واسعة ..إنما يتم بتلك البساطة وذلك الذكاء الثقافي الذي ميّز القائمين على تلك الملتقيات، بتلك الطريقة المدهشة الجميلة.

إذن، الجواب عن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح ويعاد طرحه : ماذا خسرت الجزائر..؟

الجواب هو :

ـ خسرت الجزائر، دولة وحكومة وشعبا الكثير بـ”توقيف “تلك الملتقيات الجليلة والجميلة، خسرت الدعاية الإيجابية لنفسها، وخسرت تسويق صورتها الرفيعة المشرقة في خدمة الفكر الإنساني.

– خسرت الجزائر ريادة وقيادة فكرية ثقافية على مستوى العالمين الإسلامي والعربي؛ إذ كانت تجتمع فيها مئاتُ العقول الكبيرة العالمة، من أقطار شتى، وكان ذلك يمنحها قوة تأثير هائلة، فتكون قاطرة خير ودولة  مبادرات عالمية في فضِّ النزاعات، وحلِّ الخلافات بين الأشقاء والأصدقاء، ويمنحها ـ بفضل الله تعالى أولاـ ثم بفضل تلك النخبة من العلماء وحضورهم الدائم وصداقتهم ومعرفتهم بالجزائر..يمنحها السّبق في أن تكون دولة ريادة في بسط النفوذ الناعم على عواصم ودول شقيقة وصديقة.

ـ وهناك خسارات أخرى، لو استمرت تلك الملتقيات لتركَّز الفهم الصحيح للإسلام في النفوس والعقول، ونشأت أجيالٌ وأجيال على المعرفة الحقيقية  للإسلام من أصوله وأفواه علمائه الأصفياء الراشدين، وما كان ليحدث ما حدث من فتن واحتراب. ولله الأمر من قبل ومن بعدُ.

ـ  إضافة إلى ذلك  خسرت الجزائر في مجال السياحة، كان يمكن أن تكون تلك الملتقيات منطلقا منهجيا في تيسير وتسهيل وتشجيع السياحة البينية بين الجزائر وشقيقاتها على الأقل.

ـ وأخيرا كان في إمكان الجزائر بفضل تلك الملتقيات العالمية الرائدة  أن تكون وسيطا ناعما قويا بين الفرقاء المتخالفين. وما يحدث اليوم في العالمين العربي والإسلامي: إيران ـ السعودية ـ دول الخليج ـ العراق، سوريا … لو حرصت الجزائر على بناء “سمعة” دولية من خلال العلماء لأمكن لها الضغط بالعلماء والشعوب التي تحب العلماء ولحققت الكثير من الكسب.

فانظر إلى هذه الكسوب التي قتلها إيقاف الخير العميم في تلك الملتقيات. وأعظمها خدمة الدين وطلب مرضاة الله تعالى، وهو أعظم ما يقدمه الإنسان فردا وجماعة ودولة لله تعالى.

(المصدر: صحيفة بوابة الشروق الالكترونية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى