مقالات

نَفْخَة

بقلم الشيخ د. سلمان العودة

تعرف كتاب (الروح) لابن القيم؟

كنت أسمع من يشكك في نسبته لابن القيم حتى قرأته قبل سنة فأدركت أن روح ابن القيم تسري في الكتاب وطريقته في التأليف وسرد الأقوال والترجيح، حتى إنه ذكر اسم شيخه “ابن تيمية” عدة مرات في الكتاب، ولا يوجد ما يدعو للشك في صحة نسب الكتاب، فهو ابنٌ بار لابن القيم لا يختلف عن سائر أبنائه!

قرأت الكتاب وأنا أُجهّز حلقة عن “آدم”؛ الذي نفخ الله فيه من روحه، ووجدت المؤلف يحاول تعريف الروح بأنها:

جسم نوراني علوي خفيف حيّ متحرك يسري في الأعضاء سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم.. وساق نحو مائة دليل على ما ذهب إليه.

ويظل النص المحتكم إليه هو: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} (85:الإسراء).

فالروح في ماهيتها وجوهرها من عالم الغيب الذي استأثر الله به، وهذا لا يمنع البحث في تأثيراتها وأنواعها وصلتها بالجسد وعلاقتها بالنفس.. وهو موضوع كتاب ابن القيم، وبحث الغزالي، وغيرهم من الأئمة.

ومع تقدم العلوم الطبية والمادية ظلت الدراسات المتعلقة بالنفس والروح بعيدةً عن تحقيق تقدم ملموس أو اختراق علمي يناسب ما تحقق في سائر العلوم!

حتى علم النفس يقول بعضهم إنه أقرب إلى الملاحظات من كونه علماً قائماً بذاته..

ولا يبعد أن يطلق لفظ الروح على معنى عام وآخر خاص، فالروح التي نُفخت في آدم هي روح ملائكية، سرت في الطين سريان الماء في الورد كما عبّر الشيخ..

وليست من ذات الله تعالى الله، فقصة آدم مثل قصة عيسى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} (59:آل عمران)، {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} (12:التحريم).

فهي نفخةٌ علوية بواسطة الملك الكريم، وهي مخلوقةٌ محدثةٌ قطعاً بعد أن لم تكن، وليست جزءاً من الله كما يتوهّم الجاهلون.

وهي بهذا (معنى عام) تحقق به شيئان:

أولهما: الحياة فتحول الطين اليابس إلى حيٍّ متحرك يأكل ويشرب ويحس..

وهذا قدر يشترك فيه مع غيره من الدواب والبهائم الحيَّة، ولذا تسمى (ذوات الأرواح)، وتقاسم الإنسان بعض خصائصه وأحكامه، مثل: عدم إيذاء ذوات الروح أو العدوان عليها أو حرمانها من حقها المشروع حتى يحرم إزهاق روحها إلا لمصلحة من أكل أو نحوه، ويجب توفير المأكل والمشرب والمكان وسائر الاحتياجات اللازمة لها، ويؤجر العبد على رحمتها والإحسان إليها، و(فِى كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ). (أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه)، والكبد الرطبة هي الحياة.

(وَالشَّاةُ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللَّهُ). (أخرجه أحمد (15165) من حديث معاوية بن قرة عن أبيه).

و(مَنْ قَتَلَ عُصْفُورًا عَبَثًا عَجَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ يَا رَبِّ إِنَّ فُلاَنًا قَتَلَنِى عَبَثًا وَلَمْ يَقْتُلْنِى لِمَنْفَعَةٍ). (أخرجه أحمد (4/389 رقم 19488)، والنسائى (7/239، رقم 4446) عن الشريد بن سويد).

 وبعض الفقهاء يُحرِّمون تصوير (ذوات الأرواح)، فهو إذاً (فريق/قروب) يشترك في هذه الخصوصية الواضحة، فالروح بهذا العموم تعني الحياة فوق النباتية أياً كان مستواها، حيوانياً أو إنسانيا..

وفي الحديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: (لاَ تَتَّخِذُوا شَيْئًا فِيهِ الرُّوحُ غَرَضًا) (رواه مسلم)، يعنى هدفاً للتدريب على الرمي والإصابة أو السباق والتنافس في الرمي..

فهذه الروح هي التي بها يحيا الإنسان، ويصبح عقله وقلبه وجسده وسائر مضامينه في وضعية القدرة على أداء المهمات الموكولة أياً كانت، إذا لم يكن ثمَّ عائق آخر.

الثاني: المعنى الذي به تميّز الإنسان عن الحيوان وصار عنده قابلية واستعدادٌ للتعقُّل والفهم والإدراك، وهو قد حدث بالنفخة ذاتها وليس بشيء آخر، والله أعلم.

ولأن النفخة علوية ملائكية تحقق بها الأمران؛ أمر الحياة العادية الموجودة في سائر الأحياء، وأمر التميز الخاص الذي به تفوق الإنسان عن بقية المخلوقات وهو موجب السجود لآدم والتكريم والاستخلاف.

النفس لفظ يطلق على الروح أو على جانبٍ من مهامّها، والروح بطبيعة الحال لا تتبعَّض ولا تتجزأ، ويطلق على الإنسان كله جسداً وروحاً، ولذا تربط المسؤولية على النفس: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} (38:المدثر)، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (8،7:الشمس)، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} (111:النحل)، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} (19:الانفطار)، {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} (79:النساء)، في نصوص متكاثرة..

ويُضرب المثل بمسئوليتهما المشتركة برجل أعمى حمل رجلاً مقعداً فدخل به بستاناً فسرق ثمرة فأكلاها معاً فالذنب عليهما معاً، وكأن الأعمى يمثل الجسد والمعاق يمثل الروح!

ومع أن الروح مخلوقة محدثةٌ فهي باقية لا تفنى، والموت هو انتقال فحسب، فالنعيم والعذاب يكون عليها وعلى البدن، وقد يضمحل البدن ويتلاشي وتبقى الروح؛ كما نصّ ابن القيم (ص:٤٣٤)، وابن حزم في مواضع من كتبه.

ومن الجميل الرائع أن بقاء أرواح الصالحين في النعيم السرمدي الأبدي يوم الدين هو قول كافة العلماء، فهو إجماعٌ معروف مقطوع: {مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} (3:الكهف).

بينما أرواح المجرمين والطغاة قد يلحقها الفناء والانقراض والزوال على قول طوائف من أهل العلم، إن صحت نسبة هذا القول إليهم، والله تعالى أعلم وأحكم وأرحم، والحمد لله رب العالمين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى