نموذج من التربية في القرآن
سورة الأنفال
(بقلم د. أمين الدميري – شبكة الألوكة)
معني التربية:
لغة: من “ربَّ”، جاء في مادة (ر ب ب): الله عز وجل رب الارباب وله الربوبية، وفلان مربوب والعباد مربوبون، وقد رُبَّ فلان أي مُلِّك.. ورجل رِبّيٌّ ورباني: متأله، وفيه ربانية، وفرَس مربوب: مصنوع [1]. والرب: اسم من أسماء الله تعالى ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك، ورب ولده ورببه وترببه أي رباه، وربيب الرجل: ابن امرأته من غيره، ومُربّى ايضا من التربية [2]
ويقول الإمام الألوسي: (والرب في الأصل مصدر بمعني التربية؛ (وهي تبليغ الشيء إلى كماله بحسب استعداده الأزلي شيئًا فشيئًا).. ويطلق أيضا على الخالق والسيد والملك والمنعم والمصلح والمعبود.. والتربية هي أجل النعم بالنسبة إلى المنعم عليه وأدل على كمال فعله تعالى وقدرته وحكمته، تدل على ذلك الآثار وما فيها من الأسرار..) [3]
والتربية ليست غاية في حد ذاتها؛ ولكنها وسيلة لهدف أسمى وغاية نبيلة ألا وهي تكوين المؤمن الحق، أو الجماعة المؤمنة حقًا، لأنها هي التي ستواجه التضحيات، وستحمل أمانة أن يكون الدين كله لله.
ولقد كان هدف التربية في مرحلة ما قبل غزوة “بدر” هو تحقيق الإيمان وحصول التقوى وذلك لتقبل التشريعات والتكاليف والأوامر الشاقة ومنها الامر بالقتال. فبعد أن ضحى المسلمون وتركوا وطنهم وديارهم وأموالهم وأهليهم، جاء دور التضحية بالنفس في سبيل العقيدة، وجاءت مرحلة المواجهة مع أعداء الدعوة؛ لا لتصفية الحسابات القديمة ورد الحقوق المغتصبة، ولكن لإقرار العقيدة وإزالة المعوقات من طريق الدعوة وإزاحة من يقف في طريقها بالصد وبالفتنة، فكان الهدف في هذه المرحلة هو إحقاق الحق وإبطال الباطل، وكانت الوسيلة هي القتال وهو أعظم ميدان للتربية العملية، وأصدق اختبار للتربية الايمانية تتجلي فيه دلائل الإيمان وثمار المحبة لله ولرسوله، ويظهر الجانب العملي في التربية، في ساحة القتال طلبًا للنصر أو الشهادة في سبيل الله وتلك أعظم الغايات..
وقد تمثلت عناصر التربية الإيمانية في مقطع من سورة الأنفال فيما يلي:
1- نداء بالاستجابة لله وللرسول لما فيه الحياة الكريمة، والمسارعة إلى ذلك قبل عدم التمكن؛ قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ [4]
2- اتقاء الفتنة التي تصيب الظالم وغيره؛ قال تعالى ﴿ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ ﴾ [5]
3- تذكر فضل الله تعالى ونعمه لشكرها؛ قال تعالى ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [6]
4- التحذير من الخيانة؛ قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [7]
5- التحذير من فتنة المال والولد؛ قال تعالى ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [8]
6- الأمر بالتقوى وثمار ذلك؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ ﴾ [9]
ثم بيان فضل الله تعالى على البشرية بحفظه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وإمهال المكذبين وعدم تعجيل العذاب، ثم بيان أن أفعال المشركين القبيحة هي المبرر والدافع لقتالهم لوقف عدوانهم وفتنتهم للناس.. وتحذير المسلمين من فعل مثل ما فعل الخاسرون بعد تزيين الشيطان لهم، وكشف المنافقين وأقوالهم ثم بيان سنة الله تعالى في الرقي والانحطاط.
وبهذا تتضح معالم الشخصية الإيمانية، وتتكامل جوانبها؛ فالمؤمن الحق هو المستجيب لله وللرسول في كل أمر سواء كان هذا الأمر شاقًا على النفس أو كان امرًا يسيرًا؛ فكما يقف بين يدى الله مصليا تاليا للقرآن، باكيا إذا تليت عليه آياته، متجها بقلبه إلى الله متوكلًا عليه، فهو كذلك مقبل بسيفه، باذل نفسه ليكون “الدين كله لله”، وبهذا تتحقق فيه الربانية؛ فالعبد الرباني هو الذى أسلم وجهه لله عز وجل، أي انقاد بكليته لله، يرجو رضاه والجنة، ويجاهد لنشر الدعوة بين الناس؛ يقول الشيخ عبد الحليم محمود[*] رحمة الله (إن اسلام الوجه لله هو جوهر شخصية المسلم.. فإذا ما تحقق هذا الجوهر فإن له نتائج تنبثق عنه، ومن أولى هذه النتائج الجهاد في سبيل الله، أي الجهاد حتى يسود إسلام الوجه لله، أو الجهاد من أجل سيادة إسلام الوجه لله. وما من شك في أن المبدأ الذى يغمر جمع أقطار النفس فتتشبع به، يفيض عنها منتشرًا في الأفق أو الآفاق على حسب قوته الدافعة، فإذا ما تشبعت النفس بإسلام الوجه لله فإنه لا مناص من أن تجاهد في سبيل نشره..) [10]؛ فمن نتائج التربية الإيمانية أن يقوم المؤمن الحق بالدعوة إلى الله لإقرار منهج الله في الأرض؛ يقول د. عجيل جاسم النشمي[*]:
(إن منهج الإسلام يختلف عن المناهج الأرضية التربوية شرقية كانت أم غربية اختلافا عميقا من حيث النظرة الأولية والهدف؛ فمن حيث النظرة الأولى فإنه لا يحصر نفسه في حدود تلك النظرة الضيقة لهؤلاء المربين، فلا يسعي ابتداء لإعداد “المواطن الصالح” وانما يسعي ابتداء وانتهاء إلى هدف اسمي واكبر وأشمل ألا وهو اعداد “الإنسان الصالح” لأن رسالته رسالة إنسانية لا مواطنية تتجاوب مع انسانية الانسان لا مواطنيته، فينظر إلى جوهر وفطرة هذا الكائن دون النظر إلى جنسه أو لونه ثم لا يقف الإسلام عند هذا الحد فحسب، بل يتعداه إلى هدف وغاية أكثر عمقًا وسمواً ألا وهي إعداد “الانسان المصلح” فهو لا يهدف للوصول إلى الغاية الأولى بل يريد من الإنسان الصالح أن يضمن صلاحه ويعمل لنقله إلى الأجيال التالية، لأن قيمة الهدف في الاستمرار ولن يكون استمرارًا ما لم يكن الصالح مصلحًا.. وهذا الهدف السامي نابع من نفس منهج هذا الدين لأنه منهج دعوة عالمية للناس كافة. ولذا يقول تعالى ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المُصْلِحِينَ ﴾ [11] ويقول تعالى ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾[12]) [13].
ومن هنا يتضح أن هدف التربية في الإسلام هي تكوين المؤمن الصالح المصلح، وهو العبد الرباني الذي يحمل هم الدين، ولا يهدأ له بال حتى يبلغ رسالة ربه إلى الناس كافة أو حتى يرتفع الحق ويعم العدل وينعم الناس بالأمن والسلام في ظل شرع الله عز وجل وبالحياة الكريمة.