نماذج عُلمائية مُلهمة (5): الحسن بن علي الإمام العظيم والسبط الكريم
بقلم د. علي محمد الصلابي “الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” (خاص بالمنتدى)
أمير المؤمنين وخامس الخلفاء الراشدين، الذي جمع بين كل أوجه المكانة الرفيعة التي يطمح إليها الناس على اختلاف أجناسهم؛ فهو سبط النبي (صلى الله عليه وسلم) وريحانته، وهو سيد شباب أهل الجنة كما أخبر رسول الله ﷺ، وأبوه علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله ﷺ، وأمه فاطمة الزهراء بنت رسول الله ﷺ ، وسيدة نساء العالمين، وأحب الناس إلى أبيها.
اسمه ونسبه وكنيته:
هو أبو محمد، الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي القرشي، المدني الشهيد، فهو سبط رسول الله ﷺ، وريحانته من الدنيا، وهو سيد شباب أهل الجنة، فهو ابن السيدة فاطمة بنت رسول الله ﷺ وأبوه أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه)، وحفيد أم المؤمنين خديجة وخامس الخلفاء الراشدين.
ولادته وتسميته ونشأته:
ولد رضي الله عنه وأرضاه في رمضان، سنة ثلاث من الهجرة النبوية على الصحيح، وقيل: ولد في شعبان، وقيل: ولد بعد ذلك، وقال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، لما ولد الحسن سميته حرباً، فجاء النبي ﷺ فقال أروني ابني ما سميتموه؟ قلنا: حرباً، قال: لا، بل هو حسن، فلما ولد الحسين سميته حرباً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أروني ابني ما سميتموه؟ قلنا: حرباً قال: بل هو حسين.
مكانته وبعض من فضائله ومناقبه:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: من أحب الحسن والحسين فقد أحبَّني ومن أبغضهما فقد أبغضني. وعن عبد الله بن مسعود قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي والحسن والحسين يثبان على ظهره، فيباعدهما الناس فقال دعوهما، بأبي هما وأمي، من أحبني فليحب هذين. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: الحسن والحسين سيِّدا شباب أهل الجنة. وروى البخاريُّ عن أبي بكرة، قال: رأيتُ رسول الله ﷺ على المنبر، والحسن بن علي إلى جنبه، وهو يُقبِل على الناس مرةً، وعليه أخرى، ويقول: (إن ابني هذا سيِّدٌ، ولعل اللهَ أن يُصلِح به بينَ فئتينِ عظيمتين من المسلمين). وقال عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري أخبرني أنس قال: لم يكن أحد أشْبَه بالنَّبي ﷺ من الحسن بن علي وعنه قال: كان الحسن بن علي من أشبههم وجهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وكان للصحابي الجليل الحسن بن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، العديد من الفضائل في الإسلام، ومنها: كان كريمًا مشهورًا بالبذل والعطاء؛ حيث رُوي أنّه منح سائلًا محتاجًا خمسين ألف درهم وخمسمائة دينار، وذكر في سيرته أنّه مرّ بالقرب من صبيان يتقاسمون كِسر خبزٍ؛ فقاموا بضيافته فنزل عن دابته وتناول الطعام معهم، وبعد الانتهاء ذهب بهم إلى منزله وأطعمهم وكساهم.
تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية بن أبي سفيان، وذلك بعد قيام المسلمين بمبايعة الحسن بن علي بالأكثريّة واختياره خليفةً، عقب وفاة أبيه علي بن أبي طالب رضي الله عنه. واجتمعت كلمة المسلمين حينها، ولهذا سمّي هذا العام الذي تنازل به الحسن بن علي عن الخلافة “بعام الجماعة.
علمه رضي الله عنه:
تربى الحسن (رضي الله عنه) في بيت النبوة، فتأثر بجده ﷺ ووالدته السيدة فاطمة في طفولته، واستفاد من والده العلم الغزير، فقد اهتم به اهتماماً كبيراً ، وكان أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) يعلم الناس كتاب الله ومن بينهم أبنائه، فتعلموا منه الحسن والحسين رضي الله عنهما منهجه في بيان الحكم الشرعي وطريقته في الاستنباط، والتي كان من ملامحها، الالتزام بظاهر القرآن الكريم ، حمل المطلق على المقيد، وحمل المجمل على المفسر، والعلم بالناسخ والمنسوخ، والنظر في لغة العرب، وفهم النص بنص آخـر، والسؤال عن مشكله، والعلم بمناسبة الآيات، وتخصيص العام، ومعرفة عادات العرب وأحوالهم، وقوة الفهم وسعة الإدراك. وكان القرآن الكريم لذلك الجيل ومنهم الحسن بن علي هو المنهج التربوي، ومع هدي النبي ﷺ كان للآيات القرآنية الكريمة التي سمعها من والده أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) أثرها في علمه وصياغة شخصيته، فقد تطهر قلبه وزكت نفسه، وتفاعلت معه روحه، فأبصر الحقائق الكبرى في عالم الوجود، وروى عن علي (رضي الله عنه) وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان، وقد أخذ القراءة عنه عاصم وعطاء والحسين (رضي الله عنهم).
وقد أكرم المولى ـ عز وجل ـ الحسن بن علي (رضي الله عنه) بالحياة مع القرآن الكريم، فعاش به، واستمد أصوله وفروعه من كتاب الله، وهدي رسول الله ﷺ وأصبح من أئمة الهدى، الذين يرسمون للنَّاس خطَّ سيرهم، ويتأسَّى النَّاس بأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، وكان (رضي الله عنه) من أهل القرآن، وعَرف الحسن من خلال القرآن الكريم وتربية والده أمير المؤمنين علي من هو الإله الذي يجب أن يعبده، فأصبحت نظرة الحسن بن علي إلى الله عز وجل، والكون، والحياة، والجنّة والنَّار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة مـن القرآن الكريم وهدي النبي ﷺ.
أما جده ﷺ فقد توفي والحسن صغير كما هو معلوم، فعقل عن رسول الله أحاديث وأموراً ذكرها منسوبة لرسول الله ﷺ، وكان (رضي الله عنه) خطيباً مفوهاً، فقد قال أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) للحسن ذات يوم: قم فاخطب الناس يا حسن، قال: إني أهابك أن أخطب وأنا أراك، فتغيب عنه حيث يسمع كلامه ولا يراه، فقام الحسن فحمد الله، وأثنى عليه وتكلم، وقد ورث الحسن من جده ﷺ ووالده رضي الله عنهم الخطابة والفصاحة، والبلاغة، وقوة البيان، ونقل عنه رضي الله عنه أنه أوصى بتعلم اللغة العربية، تأكيداً على ضرورة تطبيق القواعد العلمية في القراءة، وخاصة قراءة الآيات القرآنية، وتظهر غزارة علمه، ودقة فقهه في علم المصالح والمفاسد، ومعرفته العميقة بمقاصد الشريعة في تقديمه وحدة الأمة وحفظ الدماء على المصلحة الخاصة، من ملك الدنيا، عندما تنازل لمعاوية بن أبي سفيان عن الخلافة.
دوره رضي الله عنه في صلح الأمة وتوحيدها:
بويع الحسن رضي الله عنه بيعة عامة، وبايعه الأمراء الذين كانوا مع والده، وكل الناس الذين بايعواقبله أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فباشر سلطته كخليفة، فرتب العمال، وأمّر الأمراء، وجند الجنود، وفرق العطايا، وزاد المقاتلة في العطاء مائة مائة؛ فاكتسب بذلك رضاهم، وكان في وسعه أن يخوض حربًا لا هوادة فيها ضد معاوية، وكانت شخصيته الفذة من الناحية السياسية والعسكرية والأخلاقية والدينية تساعد على ذلك، مع وجود عوامل أخرى، إلا أن الحسن بن علي مال إلى السلم والصلح، لحقن الدماء وتوحيد الأمة، ورغبة فيما عند الله، وزهده في الملك، وغير ذلك من الأسباب، وقد قاد الحسن بن علي مشروع الإصلاح الذي توّج بوحدة الأمة، وظل زمام الموقف في جانبه وبيده ويد أنصاره، وكانت جبهته العسكرية قوية.
وكان رضي الله عنه يملك رؤية إصلاحية واضحة المعالم، خضعت لمراحل وبواعث، وتغلبت على العوائق، وأصبح هذا الصلح من مفاخر الحسن بن علي رضي الله عنهما على مر العصور وتوالي الأزمان، حتى قال الدكتور خالد الغيث حفظه الله: “كان الحسن رضوان الله عليه في صلحه مع معاوية رضى الله عنه، وحقنه لدماء المسلمين، كعثمان في جمعه للقرآن، وكأبي بكر في الردة، ولا أدل على ذلك في كون هذا الفعل من الحسن يعد علمًا من أعلام النبوة، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري من طريق أبي بكرة رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – على المنبر، والحسن بن على إلى جنبه وهو يقبل على الناس مرة وعليه أخرى ويقول :إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين”.
إن صلح الحسن مع معاوية (رضى الله عنه) من الأحداث العظام في تاريخ الأمة الإسلامية، ومن أهم مراحل وأسباب الصلح، دعوة الرسول ﷺ للحسن بأن يصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فتلك الدعوة المباركة التي دفعت الحسن (رضى الله عنه) إلى الإقدام على الصلح بكل ثقة وتصميم، (ولَعَلَّ اللَّهَ أنْ يُصْلِحَ به بيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ)، رغبةً فيما عند الله، وإرادة لصلاح هذه الأمة، وقد كان الحسن (رضي الله عنه) زاهدًا في الدنيا والملك والرئاسة، ولو أرادها لأدار الحرب سنين وسنين، ولكنه كان ينظر إلى الدار الآخرة، ويريد حفظ دماء أمة محمد، ويحرص على وحدة الأمة.
إن شخصية الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه تعتبر شخصية قياديّة، وقد اتصف رضي الله عنه بصفات القائد الرّباني، فمن أهم هذه الصِّفات : إيمانه العظيم بالله واليوم الآخر، والعلم الشرعيُّ، والثقة بالله، والقدوة، والصِّدق، والكفاءة، والشَّجاعة، والمروءة، والزُّهد، وحب التضحية، والتّواضع، وقبول النصيحة، والحلم والصَّبر، وعلو الهمَّة، والحزم، والإدارة القويَّة، والعدل، والقدرة على حلِّ المشكلات، وغير ذلك من الصِّفات، وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية استطاع أن يقدم مشروعه الإصلاحي مع قدرته على التنفيذ والتغلب على العوائق في الطريق وتوّجت جهوده الفذة بوحدة الأمة.
المراجع:
- الحسن بن علي بن ابي طالب، علي الصلابي، دار المعرفة، بيروت ـ لبنان، ط9، 2011م، ص 177- 286 – 302.
- نسب قريش، المصعب الزبيري، دار المعارف، ط3، 2008م، (م1/ص23).
- الأحاديث الواردة بشأن السبطين، عثمان الخميس، دار الآل والأصحاب، الرياض، ط1، 2009م، ص182ـ 293.
- من فضائل الحسن بن علي رضي الله عنهما، إسلام ويب، 19/4/2004، https://www.islamweb.net/ar/fatwa/47423/%D9%85%D9%86-%D9%81%D8%B6%D8%A7%D8%A6%D9%84
- تهذيب التهذيب، بن حجر العسقلاني، دائرة المعارف النظامية، الهند،2008م، (5/183 ـ 184).