مقالاتمقالات مختارة

نظرات فى نظام الحكم الإسلامي

نظرات فى نظام الحكم الإسلامي

بقلم الشيخ بسام جرار

سعد بن معاذ زعيم من زعماء الأنصار في المدينة المنوّرة. استمع إلى مصعب بن عمير فأسلم. ثم ما لبث أن ذهب إلى قومه وقال:” كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تسلموا”، فما لبثوا أن أسلموا إرضاءً لسعد. وإن دلّت مثل هذه الحادثة على شيء فإنما تدل على مكانة سعد في قومه. وهذا ليس بعجيب، لأنّ العقائد الوثنيّة هشّة لا يصعب تركها، وعلى وجه الخصوص عندما يَطلُب ذلك من كان أرجحهم عقلاً، وأتمّهم أخلاقاً، وأكثرهم بذلاً، وأشدهم شجاعة. كيف لا، والزعامة والسيادة عندهم يصنعها الفرد ولا يرثها. وقد اشتهر بين العرب السؤال الآتي: “يا فلان بمَ سُدت قومَك؟!”، فالسيادة والقيادة دالّة على جوهر القائد وحقيقته. أمّا اليوم فإنّ هذا الأمر لا يفهم في بلاد العرب والمسلمين، لأنك إذا سألت حاكماً: بم سدت قومك؟! ماذا سيقول لك؟! ربما يقول: سدتهم عن طريق انقلاب عسكري. وربما يقول عن طريق التحالف مع قوى عظمى معادية لأمتي، فهي تساندني بأساطيلها وهيبتها …الخ

     إذا بحثنا عن الجوهر فسوف نجد، بلا شك، أنّ سعد بن معاذ يمثّل قومه تمثيلاً حقيقياً، وبالتالي لا داعي لشكليّات الانتخابات. بل نرى أنّ انتخابات اليوم لا تُعبرّ حقيقة عن تقديرنا ورضانا عن الحاكم الذي نختاره، فربما نختارهُ في الصباح ونشتمهُ في المساء. وما قيل في سعد يقال في عمر بن الخطاب، وأبي بكر، وعثمان، وغيرهم من كبار الصحابة. فإذا اجتمع هؤلاء في سقيفة بني ساعدة واختاروا أبا بكر خليفة لرسول الله، صلى الله عليه وسلّم، ألا يكون هذا الاختيار من قبل هؤلاء المرضيين اختياراً حقيقياً معبراً عن رضى الأمّة؟

     ابن حزم الظاهري فقيه ومجتهد أندلسي، عاش قبل ما يقارب ألف سنة. له في الفقه كتاب موسوعي هو (المُحلى). قرأنا له رأياً في اختيار الخليفة خلاصته أنّه إذا جاء زمان نستطيع فيه أن نصل كل فرد من رعايا الدولة نسأله عن رأيه عند اختيار الخليفة فيجب علينا شرعاً أن نفعل ذلك. وهذا يعني أنّ مجتهداً اشتهر بأخذ ظواهر النصوص يرى أنّ الشريعة تُوجِب مشاركة الأمّة في اختيار الخليفة. ولكنه يعلم أنّ ذلك غير ممكن في عصره، بل هو أقرب إلى الاستحالة، لذلك نجده يتخيل عصراً تتوفر فيه هذه الإمكانيّة. عندها يصبح الأمر واجباً. ومستند مثل هذا القول هو بدهيّات وأبجديّات الفقه الإسلامي. فمعلوم أنّ الخليفة يجب أن يكون مَرْضِيّاً من الأمة، ولا بد أن يكون الرضى حقيقياً جوهرياً لا شكلياً، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. فإذا اعتذر بعض القدماء من الأجداد، عندما اقتصروا على رأي أهل الحل والعقد في اختيار الخليفة، بضعف وسائل الاتصال والقدرات التنظيميّة والإداريّة، فبماذا نعتذر نحن اليوم؟!

الرضى أساس:

     في مسألة اختيار الحاكم هناك ثابت، وهناك متغيّر؛ أمّا الثابت غير القابل للتغيير مهما اختلف الزمان فهو أنتكون الأمة راضية عن الخليفة، وأن تكون هي التي تختار، بغض النظر عن الوسيلة المعبرّة عن ذلك الاختيار. أمّا المتغيّر، فهو الوسائل التي يتم بواسطتها أخذ رأي الأمّة والتحقق من رضاها الجوهري الحقيقي. ومعلوم أنّ الوسائل القديمة لا تستطيع أن تحقق ما تحققه الوسائل المعاصرة. وقد تتطور الوسائل والخبرات بشكل أفضل مما هي عليه اليوم، فهل يجوز لنا شرعاً أن نتوقف عند وسيلة وأسلوب بعينه، بحجة أنّه كان معمولاً به عند السلف الصالح ؟!

     المطلوب الرضى الحقيقي للأمّة، ويُعبّر عنه اليوم بالاختيار الحر. ويجب علينا أن نتوسّل بالوسائل التي تجعلنا نتحقق من ذلك بنسبة 100%. ولكنّ ذلك غير ممكن، فيكون البديل عنه بذل غاية الإمكانيّة، والتي قد تكون في عصر من العصور معبّرة عن الواقع بنسبة 50 %. وفي حال تطور خبراتنا وإمكاناتنا وأساليبنا وطرائقنا بحيث تصبح معبّرة عن الواقع بنسبة 70% فلا يجوز عندها أن نلجأ إلى الأسلوب والطريقة التي تعبّر بنسبة 50% ؟! بالطبع لا يجوز ذلك، لأنّ الواجب التحقق من الرضى بنسبة 100%، والقبول بما هو أدنى نوع من التيسير، لأنّ الله تعالى لا يُكلّف نفساً إلا وسعها، ولا يكلّفها إلا ما آتاها. وعليه، فإذا تطورت وسائل الانتخاب والاختيار فيجب علينا شرعاً أن نتمسّك بالوسائل الجديدة باعتبارها الأقرب إلى تحقيق ما أوجبه الشرع. وزيادة في الإيضاح نطرح السؤال الآتي: هل يجوز لخليفة معاصر أن يقاتل بالسيف ويترك وسائل القتال المعاصرة بحجة أنّ السيف كان سلاح السلف الصالح؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!  ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍

     إذا عرفنا ذلك أدركنا لماذا يَعتبر المسلمون الاختيار في عصر الراشدين اختياراً حقيقياً جوهرياً ومُرضياً، بغض النظر عن الأسلوب والشكل الذي تم فيه هذا الاختيار، والذي اختلف في بعض تفاصيله من خليفة إلى آخر. وعندما حرص معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنه، على تحقيق الشكل بعيداً عن الجوهر الدّال على رضى الأمة، وجدنا أنّ الأمّة، وعلى رأسها العلماء، تعتبر ذلك انحرافاً عن المبدأ. ويكفي للتدليل على ذلك أن نلفت الانتباه إلى أنّ تعبير (الخلفاء الراشدون)  يحمل في طيّاته الإدانة لنظام الخلافة بعد ذلك، لأنّه إذا كان هذا هو الراشد، فما هو حكم ذاك؟ لذلك نجد أنّ العلماء قد ألحقوا عمر بن عبد العزيز بالخلفاء الراشدين.

العصر الراشد:

     يختلف تأثّر الناس بالدين، وكذلك تختلف درجات قناعتهم ويقينهم، فهم يختلفون في علاقتهم بالدين الحق قوة وضعفا. جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم:”المؤمنُ القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير”. وعلى ضوء درجات الناس الإيمانيّة والسلوكيّة في الدنيا تكون درجات الآخرة:”وللآخرةُ أكبرُ درجاتٍ وأكبرُ تفضيلاً” (الإسراء:21) ويندر أن تجد إنساناً في بلادنا العربيّة والإسلاميّة لم يتأثر بالدين بطريقة أو بأخرى. وهذا يعني أنّ الدين يعمل في الناس في مستويات متفاوتة، ويختلف ذلك من عصر إلى آخر، ويبقى الإنسان قاصراً عن بلوغ الكمال الإيماني والسلوكي. ولقد كانت الخلافة الراشدة صورة فريدة ومتميّزة من صور النجاح المجتمعي، إلا أنها كانت دون المستوى الذي تَحَقق في عصر الرسول، عليه السلام. وليس غريباً أن نشهد نوعاً من التراجع بعد عصر الراشدين، فهذا أمر حتمي، لأنّ مجتمع الصحابة هو المثال الذي أعطي للناس ليحتذوا به، وليكون النموذج في كل العصور. يقول الله تعالى في حق مجتمع الصحابة الكرام:”كنتم خير أمّة أخرجت للناس. (آل عمران:10) ويقول الرسول،عليه السلام، في الحديث الصحيح:” خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. وإذا كان وعي الناس ومستوى تقدّمهم في القرون الأولى لم يصل بهم إلى الدرجة التي تعينهم على أن يحافظوا على المثال الذي قدّمه مجتمع الصحابة الكرام- وهذا أمر بدهي يرجع إلى طبائع الاجتماع الإنساني- فإنّ هذا المثال سيبقى الحجة على البشريّة، وهي ملزمة أن تسعى إلى الاقتداء به ما استطاعت.

السعي نحو المثال:

إنّ عدم القدرة على مقاربة هذا المثال الأمثل لا ينفي عن المجتمع إسلاميّته، لأنّ مجتمع الصحابة كان استثناءً قصد به أن يكون الصورة المثلى للمدينة الفاضلة التي يشتاق إليها الناس فيسعون إليها. ويتميّز عصرنا اليوم على العصور السالفة بما تحصّل من وعي وعلم وطاقات وقدرات ووسائل وخبرات، وكل ذلك يساعد على مقاربة الصورة الاجتماعيّة المثلى، فالتطوّر الهائل في النظم السياسيّة، مثلا، يجعلنا الأقدر على التعويض عن التراجع الذي حصل في عالم القيم لدى الشعوب والحكومات، فالضمانات التي يوفرها الدستور والقانون ونظم القضاء والمؤسسات المجتمعيّة والوعي الشعبي والإعلام والوسائل المتطورة، كل ذلك يساعد في جعل قيمة كالعدل، مثلاً، أمراً يفرضه الواقع بعيداً عن ذاتية الحاكم.

البيعة عقد:

     البيعة عقد بين الرعيّة والراعي، بين الشعب والحاكم، وأي عقد لا يتوفّر فيه رُكن الرضى فهو باطل. وبما أنّ السلطة في الإسلام بيد الأمّة فهي حرّة أن تشترط على الحاكم ما تشاء من الشروط ما لم تتعارض هذه الشروط مع نصوص شرعيّة صريحة. وبما أنّ الحاكم هو نائب عن الأمّة في تطبيق شرع الله فالأمّة حرّة في إنابة من تشاء لإقامة شرع الله، وهي أيضاً حرّة في إقالة هذا النائب واستبداله.

أجمع الفقهاء على جواز أن يبقى الخليفة في خلافته مدى الحياة. وقد ظن البعض أنً ذلك يعني أنّه لا يجوز شرعاً تنصيب خليفة لمدة معلومة مشترطة. وهذا خلط عجيب، فللأمّة أن تشترط ما تشاء، بما لا يتعارض مع نص صريح. فأين النص الذي يقول بوجوب بقاء الخليفة حتى الموت أو الاستعفاء؟! وإذا كانت مسألة تحديد مدّة تنصيب الحاكم هي من ابتداع النظم الغربيّة، فإنّ الحكمة هي ضالّة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحقُّ بها.

     ما يقال في تنصيب الخليفة لمدّة محددة مسبقاً يقال في أمور أخرى يبدعها البشر، أو تمليها عليهم ظروفهم وأوضاعهم، مثل مسألة الشورى ومتى تكون ملزمة للحاكم ومتى تكون غير ملزمة. فمعلوم أنّ مسألة الشورى الملزمة هي مسألة خلافيّة بين المذاهب الفقهيّة، مما يشير إلى أنّ هناك حالات تكون فيها الشورى ملزمة. وبالتالي يمكننا أن نحدد بالقانون الحالات التي تكون فيها الشورى ملزمة للخليفة كشرط من شروط الأمة، على اعتبار أنها صاحبة السلطة. ويمكن أيضاً تحديد صلاحيات الخليفة وتقييدها مع بقائه المقرر الأخير الذي تجب طاعته في إطار الشريعة وإطار عقد البيعة الملزم له.

الإسلام والديمقراطية:

     أدت التطورات الفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في العالم الغربي إلى تحولات سياسيّة أفرزت، فيما أفرزت، ما يسمى بالديموقراطيّة. ويثور جدل حول موقف الإسلام من هذه الديمقراطيّة. ومن يعرف حقيقة الإسلام وحقيقة الديموقراطيّة يدرك أنّ هناك نقاط اختلاف ونقاط اتفاق. ونحن هنا نوجز نقاط الاتفاق والاختلاف في الآتية:

1. في الإسلام تكون الحاكميّة العليا لله، وفي الديموقراطيّة الحاكميّة هي للشعب. ولا يُتصوّر قبول موقف الديموقراطيّة هذا في البلدان الإسلامية، إذ إنّ الغالبية الساحقة من الشعوب الإسلاميّة ترى أنّ الحاكميّة لله: “إن الحكم إلا لله..”. والخلاف يرجع في حقيقته إلى التباين في الأسس الفلسفيّة والاعتقاديّة. وعلى أية حال فإنّ الشعوب الإسلاميّة باتت تحرص على أن تكون الحاكميّة لله. فإذا كانت الحاكميّة في الديمقراطيّة هي للشعب فإنّ الشعوب الإسلاميّة ترى أنّ الحاكميّة هي لله تعالى.

2. بما أنّ الحاكميّة عند المسلمين هي لله تعالى فلا بد أن تكون السيادة لشريعته. وعليه فإنّ الدستور والقانون يُستمدّان من القرآن والسنّة والإجماع والقياس. أمّا في الديموقراطيّة فإنّ السيادة هي للشعب أيضاً.

3. حتى نحكم بشريعة الله لا بد أن تُنيب الأمّة عنها سلطة تقوم بمهام الحكم؛ فسلطة تطبيق الشريعة هي للأمّة، والأمّة تنيب عنها من تشاء باختيارها. وكذلك الأمر في الديموقراطيّة فإنّ السلطة هي للأمّة، وتقوم الأمّة باختيار السلطة النائبة عنها، ويكون ذلك بالاختيار الحر. هنا يلتقي الإسلام والديموقراطيّة، فالديموقراطيّة التي تعني الاختيار الحر والنزيه هي من روح الإسلام ومقاصده. وقد يظن البعض أنّ الديموقراطيّة، بهذا المفهوم، هي من اختراع الغرب، في حين أنها من بدهيّات العقول، أي أنها من الأمور التي فطر الله الناس عليها، فالعقل البشري لا يرى مسوّغاً للأخذ برأي الأقليّة في مقابلة رأي الأكثريّة، وعلى وجه الخصوص عندما يصعب الترجيح عقليّاً بين رأي وآخر.

(المصدر: موقع الشيخ بسام جرار)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى