نصيحة من مفضول إلى كل فاضل يدافع طواحين الإلحاد
بقلم محمد بوقنطار
يخوض بعض الإخوة من طلبة العلم الغيورين على حمى الدين وحياض العقيدة مشكورين مأجورين، يخوضون جدالات وحوارات، بل مناظرات طويلة الذيل والأنفاس ذات خشوع وعمل ونصب مع طغمة الملحدين، يخوضونها بعد الأجر وواجب الشكر وهم كاسفو البال، فلا يكادون أو إن شئت فقل وقرِّر في غير رجم بالغيب أنهم لا يعودون بطائل، أو لا يعودون في مقام الإسماع والإقناع إلا بما يعود به من راهن على إسماع من في القبور، فكلما ظن طالب العلم المناظر أنه استوعب منطقة الخلاف ورتق موضع الخرق وحرث البور حرث البدر والزرع، انفتحت عليه استدراكات ومتعنتات تستمد مادة تمردها من الجحود والكبر والجنون، وطوفان من نزق الخيالات والخرافات المستفهمة في تدفق وتناسل بيوض ولود لا يكل رحمه ولا يمل، لتعيد سمفونية هذا الجدال من حالته المتقدمة ظنا واستبشارا إلى استهلال البداية حيث نقطة الصفر المتكررة والمتجددة بعد كل حين في تجاسر وبغي وطغيان…
وليس من الغرابة في شيء وقوع هذا وتكرره، ذلك أن الفئة التي يواجهها المناظر ويدافع بغيها على نفسها وعلى ربّها ظلما وعتوا، هي فئة وشريحة من الناس فقدت بوصلة الصوب وأضاعت عقلها وأتلفت فؤادها وسط ركام نتن من السفسطاتوالثرثرات والوثنيات التي سبقنا إليها أقوام صاروا إلى ربهم مفلسين مع قوة الحجة عليهم، هذه الثرثراتالتي استهلك خواؤها وفراغها الروحي الطاقة الذهنية السليمة التي من شأنها أن تسلِّم بالعقل قبل النقل، بل بالحس والطبع والوجدان أن هذه المملكة الكونية وبكل ما تحفل به من بدائع صنعة وفرائد مخلوقات وكواكب ومجرات ومجموعات فلكية وسماوات ونجوم وأبراج… لابد وباليقين أن لها صانعا خالقا موجدا تعالى ربنا عن خرص المتخرّصين ونكران الجاحدين وبغي المتجبرين علوا كبيرا.
وليس يدري المرء أين مسوِّغات ذلك الطمع الذي يأمله المناظر من إنسان تحلّل من مسلاخ إنسانيته، وعطّل في عبث وجحود كل حركات التدبر وآليات التذكر والتفكر في نفسه وزوايا محيطه الملأى بالشواهد والمحسوسات والمرئيات، مسوِّغات طمع يأملالغيور ويرجو منه أن يعود ويستدرك الملحد عن غيِّه واضطرابه، وهو البصير في عمى وعن عمى وعلى عمى، وقد أرسل بصره في لجة من التغافل وعدم الاعتبار، فرجع مليئا بنكران وجحود واستكبار، فلم تؤثر فيه عظمة هذه الرواسي من الأعلام والجبال، وهذه البحار والمحيطات، وهذه الأدغال والغابات تشق صمتها وضجيجها مطولات الجواري والأنهار، وهذه المحيطات والبحار والأمواج كأنها الجبال، وهذه التلال والهضبان والسهول والمنبسطات والصحارى والواحات، وهذه السماء بنجومها وأبراجها وكواكبها وأقمارها، وهذا التعاقب المنضبط بين الليل والنهار، وهذه الأرض وما تنبته من طعام بقل وقثاء وفوم وعدس وبصل ولحم أنعام وأصناف طير وضرب حمام، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج غور جوفها وسقى نضوبها حتى اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وهذه الأرواح والنسمات المتناسلة في إقبال والمغادرة في إدبار بين دفن وتأبين واستهلال واستخلاف وتمكين، وهذا القلب النابض في الصدور وذلك اللسان المتحرك بين الثغور وهذه الكلى والطحال والكبد مصفاة بضبط وحبور، وهذه باحات الدماغ لا يصيبها تلف ولا ثبور، وهذه وهذه، وهذا وهذا، وتلك وتلك، وحبل النعم مسترسل في غير حظر ولا منع ولا شرط ولا قيد ولا مقابل شرعي أو كوني، فكل قد نال حظه من عطاء ربك وما كان عطاؤه سبحانه محظورا…
ولسنا بصدد تثبيط الهمم أو الحجر على واسع جهد أو قتل آمال الغيورين في مهدها أو مراجعات الصادِّين المعرضين على مشارف لحدها، وإنّما المقصود المقصود ترشيد الجهد وتوجيه السعي نحو صناعة أجيال علاقتها بربها متينة قوية، وإمدادها ونفخ أنفاس المجاهدة العلمية والمعرفية الصادقة في روعها، تلك الأنفاس النورانية الهادية من الضلالة والعاصمة من الجهالة، والتي يجب أن يحمل لواء بثها في النفوس الربانيون من العلماء والمخلصون من طلبة العلم والغيورون من الدعاة والخطباء والوعاظ والمعلمون والأساتذة والقضاة والأطباء والمهندسون والصالحون من الآباء والأمهات كل من موقعه ومنبره ودائرة نفوذه ومصدر قوته وإلهامه ومجال تخصصه، وذلك الرباط وذلك الرباط، وذلك الرهان وذلك الرهان، فلا خشية بعده ولا خوف على جيل يمتلك المناعة العقدية المتوازنة المنضبطة في غير إفراط ولا تفريط،،ولا شك أن الذئب لا يأكل من الغنم إلا القاصية كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فمهمة المحاور المناظر يجب أن تكون فيها قواعد الانطلاق قائمة على جهاد الكلمة، وبذل الجهد بالدليل والبرهان والحجة في وجهة التأسيس أوّلا لحقيقة أن : الوحي الرباني من المستحيل أن يناقض عقلا صريحا أو علما صحيحا، ومن ثم فأي إخلال أو إقعاد يصيب الفطرة فمرده ومبعثه العناد والجحود والجهل المركب الذي ينافي في عمومياته كما تفاصيله بديهيات الفطرة في علاقتها التناسقية التكاملية التشاكلية مع هذا الدين القيّم، وثانيا الانطلاق من المسلّمات الراسخة الإيمان في كون هؤلاء الملاحدة هم على باطل وضلال مبين، يعانون في غمرتهم وسكرتهم من اضطراب وزعزعة في نمطهم الإدراكي، وأن جملة ما يصولون به فرقعة وقعقعة لا تخرج عن شبهات نفسية وعاطفية وتوهمات معرفية جانحة لا يشبع عرضها وطرحها فضول عوام الناس من أسوياء الفطرة وسليمي المقاصد من الأجداد والجدات وعجائز الحي وشيوخه، مع واجب التنبيه على أن صرف هذا الجهد في بغيته التأسيسية يجب أن لا يشطّ عن طابع اللين والرفق والرقة، بعيدا عن مقدمات تأخذ فيها الغلظة والشماتة مكانة متقدمة من حيّز المواجهة، مع الأخذ بأسباب الحيطة والحذر مخافة أن تفزع الأمور ـ وما أكثر ما يقع هذا ـ إلى تبني منهج التنازلات المائعة التي تدخلنا في أتون الاستجداء المخل بأدبيات المدافعة بالتي بها نحن الأعلون، بل إلى الدروشة التي ما فتئ أصحابها ينظرون إلى الإسلام كمؤسسة تجارية أصابها الإفلاس الكمِّي والعددي، ولا شك أن التفكير بهذا المنطق والتلبس بهذا الشعور والاعتقاد من شأنه أن يؤبد بالأمد الطويل مشروع المغلوبية، بل ويبعد قاطرة التمكين للسير الحضاري-النوعي لا الكمي-عن سياق الاستعمال المرشد والقوي للدليل الشرعي والاستئساد به أولا ثم الدليل الكوني عطفا واستتباعا لازما، وتلك حجتنا القوية بالله ومن الله وإلى الله، وذلك دليلنا القادر على ركن المخالف تحت كواشف ضوئه ونوره الراصد الفاضح، في غير استشهارمجاني لهذه الفئة المترفة المنابذة لغاية الوجود ومقاصد الحياة الطيبة، وهي للإشارة والعبارة فئة قليلة العدد تعيش عزلة موبوءة وإغرابا قاسيا حتى مع أقرب الناس إليها بدءا بالأصول وعطفا بالمعارف من الأعلى إلى الأدنى فالأدنى، فعجبا والحال على هذا ممن يخشاهم خشية الحمر المستنفرة من الأسد قسورة.
ولا جرم أن هذا جلي ظاهر ذوقي وإن أحاط الملاحدة أنفسهم بهالة من الهاموش الإلكتروني الذي ما برح يدفع في صوب تلميع صورتهم وضخ أنفاس الحياة في خشبتهم التي لا جذور لها ولا أفنان، والنفخ في رماد نارهم البارد المنطفئ، بل يُصوّر المجتمعات غارقة في وحل كمّ غثائهم المنفوخ في رقمه المكذوب، وكأن الأصل هو الإلحاد لا التوحيد، والكفر لا الإيمان، والجحود لا الشكر، مستغلين التصدية الغربية ذات الصدى الثقيل الوزن الصلد الحجارة، والمكاء العلماني المحلي ذا البكاء الملحون المنغوم المتصل، مهتبلين ما وصلت إليه وما وفرته الثورة الصناعية الغربية المادية من وسائل الاتصال الشبكية والفضائية المفتوحة على كافة النقائص والموبقات المهلكات وبالخدمة المجانية المريبة طبعا…
جلي ظاهر ذوقي ولو كانت هذه الشردمة من القلة المنبوذة حسا وطبعا وعقلا ثم نقلا جوقة من المهرة المحترفين المتمرسين في الشتم ورمي أولي الألباب بكل نقيصة ومثلبة وجهالة، ممن يحسنون الفرار إلى الأمام، وتلك معركة الحق مع الباطل المدموغ الزهوق، وهذه الوقائع على الأرض كما الحقائق الشرعية والكونية لابد أنتعلي من شأن العلم وتحط من تعالم الجاهلين، وهي تستشرف للباطل مع أهله الذهاب جفاء، كما تقرر الحكم الحاسم الذي يؤبد الغلبة والتمكين والمكث في الأرض لكل ما ينفع الناس، ولكننا قوم نستعجل النصر ونستبطئ حركة الحق ونستصغر مدافعة أهله ونستدبر موعود ظهورهم ووعد ذهاب غربتهم الثانية بعد الأولى، ونسلم النواصي والأفئدة والألباب للجاهليات المتجددة على بدء متكرر منذ بعثة آدم عليه السلام ومع ختمة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى يوم الناس هذا…
“والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون”.
“والله غالب على أمره ولو كره الكافرون”.
(المصدر: هوية بريس)