نشأة القوميَّة العربيَّة ودورها في إسقاط الخلافة الإسلاميَّة 4 من 7
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
حقيقة الثَّورة العربيَّة في رأي محمَّد جلال كشك
تعمَّدت القيادات الحاكمة في الولايات العربيَّة منذ وصول الاتحاديين إلى السُّلطة في الدَّولة العثمانيَّة، بعد ما عُرف بثورة تركيا الفتاة عام 1908م، استفزاز العرب بحملات البطش المنهجي التي أطلقوها، لتصبَّ في مصلحة المخطط البريطاني لإسقاط دولة الخلافة. بدأ النَّاقمون على الاستبداد التُّركي في التحرُّك لتحرير أنفسهم من ذلك الاستبداد، دون وعي منهم بأنَّ الدَّعوة للانفصال عن الدَّولة العثمانيَّة ما هو إلَّا خطَّة خبيثة “تموِّلها وتديرها المخابرات البريطانيَّة، التي دفعت الشَّريف الحسين بن عليّ إلى شنِّ ثورته لامتصاص الثَّورة الحقيقيَّة التي استهدفت التَّخلُّص من المستعمر الغربي قبل التَّحرُّر من القيد العثماني (صـ315). كانت بريطانيا تخطِّط للتَّخلُّص من دولة الخلافة بأيِّ ثمن؛ ولذلك ضُمَّت إلى جانب ألمانيا في الحرب العالميَّة الأولى ليسهل تحطيم الخصمين دون أن يجد أيٌّ منهما فرصة لنُصرة الآخر. وينقل كشك عن لورانس العرب قوله عند بداية الثَّورة العربيَّة “وبذلك انهارت الدَّولة الإسلاميَّة التي طالما عمل السُّلطان على تدعيمها، وذابت أحلام قيصر ألمانيا في تعاوُن المسلمين معه على تنفيذ مشروعاته العالميَّة” (صـ317). أمَّا عن سبب اختيار شريف مكَّة زعيمًا لتلك الثَّورة؛ فهو أنَّ بريطانيا أرادت استخدام شخصيَّة لها اعتبارها الدِّيني في دحْر أيِّ عصيان من المسلمين ضدَّ الاستعمار الأجنبي، كما أرادت أن تنفي أن تكون الحركة القوميَّة معادية للإسلام، بأن يصبح حفيد النَّبي أهم رموزها(ﷺ) (صـ323). ينفي كشك عن الحسين الزَّعامة، مبرهنًا على ذلك بما تردَّد عن تواطؤه في التَّنازل عن العراق في مقابل تعويض، أو “إكراميَّة تحدِّدها بريطانيا وعدالتها”، ويتساءل كيف يكون الحسين زعيمًا عروبيًّا وهو الذي تساهل في تسليم العراق للمحتل وسلَّم بعدم عروبة الأقطار العربيَّة في إفريقيا، لمجرَّد خضوعها للاستعمار البريطاني والفرنسي حينها؛ ويورد كشك نصَّ رسالة الحسين إلى مكماهون بشأن العراق (صـ310):
من الشَّريف إلى مكماهون:
“أمَّا ما يتعلَّق بقضيَّة العراق وقضيَّة التَّعويض الَّذي اقترحناه لقاء ‘‘احتلاله’’، فإنَّني رغبةً في تقوية ثقة بريطانيا بنوايانا وغاياتنا في القول والعمل…ادعُ أمْر تقدير المبلغ إلى حكمتها وعدالتها”.
“أمَّا ما يتعلَّق بالأقسام الشَّماليَّة ومرافئها فقد أيَّدنا لكم في كتابنا السَّابق…أقصى ما يمكن أن نوافق عليه من تعديلات، ونحن لم نتساهل إلَّا لتحقيق الرَّغائب الَّتي يريدها الله العليُّ القدير أن تتحقَّق”.
واتَّبع فيصل بن الحسين خطا أبيه في التعاون مع المستعمر البريطاني على حساب قضيَّة الأمَّة، وبالذَّات فيما يتعلَّق بأرض فلسطين. يذكِّرنا كشك بأنَّ التعهُّد الذي قطعه هنري مكماهون للشَّريف حسين بالاعتراف بدولة مستقلَّة في الجانب الآسيوي من العالم العربي لم يكن يشمل فلسطين. وقَّع الأمير فيصل، باعتباره ممثِّلًا عن المملكة العربيَّة الحجازيَّة، مع حاييم وايزمان، رئيس المنظَّمة الصهيونيَّة العالميَّة، اتِّفاقيَّة تسمح لليهود باستيطان أرض فلسطين، إقرارًا لوعد بلفور. عُرفت تلك الاتِّفاقيَّة باسم “اتِّفاقيَّة فيصل – وايزمان”، وقد أُبرمت في مؤتمر باريس للسلام في 3 يناير 1919م، وتنصُّ المادَّة الرَّابعة فيها على أنَّه “يجب أن تتخذ جميع الإجراءات لتشجيع الهجرة اليهوديَّة إلى فلسطين على مدى واسع والحث عليها وبأقصى ما يمكن من السرعة لاستقرار المهاجرين في الأرض عن طريق الإسكان الواسع والزراعة الكثيفة“.
ويشير كشك إلى مصير الحسين بن عليّ، ملك المملكة العربيَّة الحجازيَّة، بعد التحالف مع المستعمر البريطاني، بأن انتهى به الحال طريدًا منفيًّا إلى قبرص، بعد أن حنثت بريطانيا بوعدها له بتأييد إعلان نفسه خليفة للمسلمين، وهو الذي صدَّق ذلك الوعد، و “نسي أنَّ بريطانيا أنفقت عشرة ملايين من الجنيهات الاسترلينيَّة لكي تقضي على الخلافة” (340). لن ننسى أنَّ الكثيرين من الأحرار العرب شاركوا في ثورة الهاشميين، ومنحوا ثقتها للحسين، رافضين أيَّ تنازلات عن أرض فلسطين بإقرار وعد بلفور، وقد وُعدوا حينها بعدم المساس بأراضي المسلمين. غير أنَّ ما حدث هو أنَّ “الحسين ولورانس لم يدَّخرا جهدًا في إبعاد هؤلاء الأحرار عن ((الثَّورة))، وفي استئصال التَّيَّار القومي فيها، بل واغتيال الأحرار العرب” (ص346).
إمعانًا في إضعاف العرب في مواجهة الاحتلال الأجنبي، سرَّح فيصل بن الحسين، ملك المملكة السُّوريَّة (أبريل 1920-يوليو 1920م)، الجيش العربي، عقب انتهاء الحرب العالميَّة الأولى في 1919م، ومع إوشاك الدَّولة العثمانيَّة على الانهيار. خُلع فيصل بن الحسين عن حُكم سوريا، ليُعوَّض عنها بمملكة العراق، التي حكمها حتَّى مات عام 1933م، وقد أسهم تسريحه الجيش العربي، الذي كان درع الأمَّة في مواجهة الاستعمار الغربي، في فتح المجال لفرنسا لاحتلال سوريا ولبنان وبعد إتمام عمليَّة تقسيم الشَّام إلى أربع دويلات. رفض الشَّعب السُّوري الحماية الفرنسيَّة على بلادهم، التي وافق عليها فيصل بن الحسين في يناير 192م في مفاوضاته مع الفرنسيين، وقد عقد فريق من أحرار سوريا مؤتمرًا وطنيًّا، رفض فيصل حضوره، أعلن استقلال الشَّام، مشتملًا على فلسطين. ويعتقد كشك أنَّ “ثورة العرب الكبرى” فعلًا هي ثورة أحرار العالم العربي في مواجهة الاحتلال الغربي “من بحر الغزال إلى الإسكندرونة، ومن شاطئ الشَّام إلى الخليج العربي في العراق…كانت بدايتها ومركز النَّقل فيها ثورة 19 في مصر”؛ وكان من الممكن أن تتضافر الثَّورة السُّوريَّة مع المصريَّة “لولا الدَّور الخياني الذي لعبه الهاشميون في تحطيم الثَّورة بالشَّام والعراق” (صـ356). وينشر كشك ما ورد في رسائل مكماهون لزعيم الثَّورة العربيَّة الكبرى عن الرَّواتب الشَّهريَّة التي كان يرسلها إلى أبنائه، ومنها ما جاء في رسالة إليه بتاريخ مارس 1917م “40 ألف جنيه للأمير فيصل؛ 30 ألف جنيه للأمير عبد الله؛ 20 ألف جنيه للأمير عليّ ومثلها للأمير زيد؛ و15 ألف جنيه لحكومة مكَّة”، ما يعادل 145 ألفًا في الشَّهر؛ هذا وقد ارتفعت الرَّواتب إلى 200 ألف جنيه شهريًّا، ليصبح مجموع ما وصل إلى أسرة “سلالة الأشراف وتاج الفخَّار” في الفترة ما بين أبريل 1918 ومارس 1919 إلى 2.475.000 جنيه (صـ359).
يختتم محمَّد جلال كشك كتابه، بتاريخ مايو 1967م، بالتأكيد على أنَّ ما خلَّفته الحركة القوميَّة غير الإسلاميَّة لم يكن سوى “موجة من اليأس والضَّياع”، بعد بيان عجزها عن النُّهوض بالأمَّة، بل وكونها نُشرت بفعل مؤامرة استعماريَّة أرادت تحريف المسلمين عن صحيح دينهم (صـ362). وبرغم تلك الحالة من اليأس النَّاتج عن فشل الحركات القوميَّة، رأى المفكِّر الإسلامي ألَّا مبرر لليأس؛ فالأمل في الله تعالى لا ينقطع في أن “تقوم وحدة العرب الكبرى وتعود العزَّة للإسلام” (صـ363).
3.حقيقة ‘الثَّورة العربيَّة الكبرى’ كما يرويها زعيمها
نشر الضَّابط البريطاني توماس إدوارد لورانس عام 1922م، كتابًا تحت عنوان Seven Pillars of Wisdom–أعمدة الحكمة السَّبعة، روى فيه تجربته في حشد الجماهير العربيَّة لإسقاط دولة الخلافة الإسلاميَّة، متجسِّدةً حينها في الدّولة العثمانيَّة، في العقد الثَّاني من القرن العشرين للميلاد. يجمع الكتاب بين المذكَّرات الشَّخصيَّة لتوماس إدوارد لورانس، والمشهور باسم “لورانس العرب”، وبين سرْد المهام التي باشرها، تزامنًا مع احتدام الصِّراع المسلَّح في الحرب العالميَّة الأولى (1914-1919م)، في سبيل تجنيد القبائل العربيَّة للانتفاض في وجه الدّولة العثمانيَّة، فيما عُرف بالمسَّمى الإيجابي “الثَّورة العربيَّة الكبرى”، التي اندلعت بمباركة الحسين بن عليّ، شريف مكَّة المعيَّن عام 1908م في منصبه، على غير رغبة السُّلطان عبد الحميد الثَّاني (1876-1909م). غير أنَّ عبد الحميد الثَّاني هو الذي خُلع العام التَّالي، وبقي الشَّريف الحسين، ليطلق الرَّصاصة الأولى المحفِّزة للثَّورة في 10 يونيو 1916 من مكَّة، لتستمرَّ الثَّورة حتَّى أكتوبر من عام 1918م، أي حتَّى قبيل انتهاء الحرب العالميَّة الأولى، وبدلًا من أن تحقَّق الثَّورة حُلم الشَّريف الحسين بتأسيس “مملكة العرب الكبرى” التي يُنصَّب هو فيها خليفةً للمسلمين، انتهت الثَّورة بتمزيق العالم الإسلامي بين قوى الاستعمار الأجنبي!
تناول كتاب “ليسوؤوا وجوهكم”: القبَّالة في ميزان القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة (2019م) تفاصيل التحالف الذي جرى بين الشَّريف الحسين بن عليّ وأبنائه، عليّ وعبد الله وفيصل، وبين بريطانيا، في سبيل إسقاط الدَّولة العثمانيَّة، ووعْد بريطانيا الحسين بن عليّ بفرض سيادته على الجزيرة العربيَّة والعراق والشَّام؛ غير أنَّ نتيجة ذلك التحالف الغادر أن “خسر الحسين دعم السلطان العثماني، كما ظهر الحليف البريطاني على حقيقته بأن حنث بوعوده، فاهتزت هيبته في الجزيرة ولم يعد يجد دعمًا من أحد، وهنا بدأت أحلام المملكة العربيَّة تتحول إلى كوابيس.” (صـ494). وكان التحالف البريطاني-الحجازي قد بدأ عام 1915م، بتبادل الشَّريف الحسين مع السير هنري مكماهون، المفوَّض السَّامي البريطاني في مصر، مجموعة من 8 رسائل عُرفت بـ “مراسلات حسين-مكماهون”، وعد فيها المفوَّض السَّامي الحسين باعتراف بريطانيا باستقلال الجزء الآسيوي من العالم العربي، الخاضع حتَّى ذلك الحين لسُلطان الدَّولة العثمانيَّة، في مقابل شحن العرب ضدَّ دولة الخلافة لإسقاط بعد أن تخلخلت أساساتها بفعل مكائد الحركات السِّريَّة طوال القرن التَّاسع عشر للميلاد. كانت النَّتيجة أن فقد الحسين بن عليّ حُكم الحجاز، وأصبح حليف الأمس عدوَّ اليوم، وحينها نُفي إلى قبرص التي عاش فيها حتَّى عام 1930م، وانتقل إلى عمَّان، عاصمة إمارة شرق الأردن التي منحتها بريطانيا لابنه عبد الله، حيث مات عام 1931م. (لمزيد من التَّفاصيل، يمكن مراجعة كتاب القبَّالة في ميزان القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة (2019م) في نسخته المتاحة عبر الإنترنت، صفحات 478-498).
محفِّزات “الثَّورة العربيَّة الكبرى”
لا شكَّ في أنَّ انتشار الفكر القومي والدَّعوة إلى تغليب الهويَّة العربيَّة، باعتبارها بديلًا للهويَّة الإسلاميَّة التي تكفلها دولة الخلافة، من أهم محفِّزات اندلاع ما سُمي الثَّورة العربيَّة الكبرى، وكان الأغراء بالتقدُّم الحضاري والّلحاق بركب الأمم المتقدِّمة بعد التخلُّص من رجعيَّة دولة سلاطين آل عثمان من تلك المحفِّزات، هذا إلى جانب الطُّموح الشَّخصي الخالص لبعض من وُلُّوا أمر المسلمين حينها، ممَّن طمعوا في الارتقاء في المناصب على أنقاض دولة الخلافة. شجَّع ذلك بريطانيا وفرنسا، قطبي الاستعمار الغربي في العالم الإسلامي آنذاك، على التحالُف سرًّا عام 1916م لتقاسُم منطقة الهلال الخصيب فيما بينهما، بمباركة روسيَّة وإيطاليَّة، وقد حرَّرها الجنرال العسكري والدبلوماسي والرَّحالة البريطاني مارك سايكس ونظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو، وفق ما أورده دافيد فرومكين في كتابه A Peace to End All Peace: The Fall of the Ottoman Empire and the Creation of the Modern Middle East-سلام ما بعده سلام: سقوط الدَّولة العثمانيَّة وولادة الشَّرق الأوسط الحديث (1989م، صـ286-288). وصار الجزء الآسيوي من العالم العربي ممزقًا بين النُّفوذين، البريطاني والفرنسي، كما يتَّضح في الخارطة التَّالية.
كانت الشَّام من نصيب بريطانيا بمقتضى اتفاقيَّة سايكس-بيكو، وسارَعت بريطانيا حينها بإعلان الانتداب على فلسطين، الذي صاغ بيانه اليهودي الصُّهيوني إريك فوربس آدام، وصار أول مندوب سامي عليها الصُّهيوني ووزير الحرب هيربرت صامويل.
يتناول هذا القسم من الدراسة أهمَّ ما ورد في كتاب أعمدة الحكمة السَّبعة (1922م)، في محاولة لإعادة قراءة تاريخ الأمَّة في ضوء المجريات الحاليَّة على السَّاحة السِّياسيَّة؛ للرَّبط بين ما وقَع في الماضي، الذي لم يزل يمارس تأثيره حتَّى اليوم، وبين واقع اليوم. والمحتوى الذي يشار إليه في هذا القسم عن الإصدار المترجم للكتاب، الذي نشره المكتب التُّجاري للطِّباعة والتَّوزيع والنَّشر في بيروت عام 1963م.
إذكاء الفكر القومي أوَّل معاول الهدم
ينقل توماس إدوارد لورانس في مقدِّمة كتابه اعتقاد فئة من مواطنيه، على رأسهم اللورد هيربرت كيتشنر، وزير الدَّولة لشؤون الحرب (أغسطس 1914-يونيو 1916م)، أنَّ ثورة العرب على الدَّولة العثمانيَّة كان من شأنه أن يفتح المجال لبريطانيا لقهرها، باعتباره حليف ألمانيا، ألدِّ خصوم بريطانيا حينها. ما شجَّع بريطانيا على مسانَدة “ثورة العرب على الأتراك…وتغذيتها وعدمها” ما وجدته من استعداد قويّ لدى الشُّعوب العربيَّة للانتفاض في وجه المحتل التُّركي، إضافة إلى “قوَّة تلك الشُّعوب وموقع بلدانها الجغرافي” (صـ7). غير أنَّ نجاح تلك الثَّورة على غير استعداد الحلفاء في الحرب العالميَّة الأولى جعل تلك الثَّورة، باعتراف لورانس، “تثير مشاعر متضاربة”، بأن تفرَّقت المصالح المرتبطة بها، ليؤول بها الحال إلى “طريق الضَّلال والضَّياع” (صـ7).
يتطرَّق لورانس إلى “تعريف العرب” وفق المفهوم الغربي، حيث تغيَّر معنى هذه التَّسمية بمرور الزَّمن، ويعتبر أدقُّ مدلول لها هو المتحدِّثون بالعربيَّة من سكان العالم، وليس سُكَّان الجزيرة العربيَّة دون سواهم، في إشارة إلى أنَّ اللهجات التي تحدَّثت بها شعوب منطقة الشَّرق الأوسط، وهي “العربيَّة، والآشوريَّة، والبابليَّة، والفينيقيَّة، والعبرانيَّة، والآراميَّة، والسِّريانيَّة”، تنحدر من أصل واحد، ممَّا ساعَد على تشابُه تلك الشُّعوب في العادات والفكر، برغم الاختلاف الاجتماعي والتفاوت الاقتصادي بين سُكَّان المُدن من تلك الشُّعوب وبدو الصحراء منهم (صـ10-11). يعترف لورانس ضمنيًّا بصعوبة توجيه العقل العربي إلى مسار لا يريده، مهما كانت المغريات؛ والسَّبب هو أنَّ منطقة الشَّرق الأوسط، حيث يوجد العرب، مهبط الوحي الإلهي، ومنشأ الدِّيانات الإبراهيميَّة، التي تُعد ديانتان منها، المسيحيَّة والإسلام، الأوسع اعتناقًا بين شعوب الأرض؛ فالمسيحيَّة نُقلت إلى اليونانيَّة واللاتينيَّة والجرمانيَّة لتسيطر على قارَّتي أمريكا وأوروبا، بينما أسقط الإسلام الدَّولة البيزنطيَّة في الشَّام والإمبراطوريَّة السَّاسانيَّة في فارس والعراق، كما حرَّر جزيرة العرب من النُّفوذ اليهودي والمسيحي، لينتشر في القسم الأكبر من قارَّتي آسيا وأفريقيا. يتطرَّق لورانس إلى مسألة هامَّة، وهي ما يدَّعيه عن فقدان العرب “معناهم الجغرافي وذكرياتهم العنصريَّة والسِّياسيَّة والتَّاريخيَّة” أثناء خلال فترة “الحُكم العثماني الجائر”، الذي خلخلته “الثَّورة العثمانيَّة”، أو على الأصح ثورة حركة تركيا الفتاة عام 1908 التي أسفرت عن إسقاط السُّلطان عبد الحميد الثَّاني واستبداله بأخيه، محمَّد رشاد، وكذلك إعادة العمل بالدُّستور الذي يترتَّب عليه إيقاف العمل وفق لشَّريعة الإسلاميَّة (صـ16).
يعتبر لورانس أنَّ ثورة تركيا الفتاة نجحت في تقويض قالب السُّلطان/الخليفة، الذي يجمع بين السُّلطتين، الدِّينيَّة والدُنيويَّة معًا، ليبدأ انهيار الدَّولة العثمانيَّة “التي قامت على أساس القوَّة ووحدة الدِّين”، بعد تسلُّل الفكر القومي إلى شعوبها؛ فتنتفض تلك الشُّعوب و “تندلع الثَّورات هنا وهناك” لتأسيس “دولة قوميَّة على أُسس دستوريَّة” (صـ16). وكما طالَب الشَّعب التركي بإحياء القوميَّة الطُّورانيَّة وتتريك البلاد، طالَب الأرمن والأكراد، ومعهم العرب، بإحياء تراثهم القومي، والمفارقة أنَّ تركيا الفتاة قمعت انتفاضات تلك الشُّعوب لمَّا لم تتوافق مع مصالحها. غير أنَّ العرب لم يستسلموا؛ فأسَّسوا جمعيَّات سريَّة لنشر الفكر القومي، ودأبوا “يبثُّون الدَّعاوى القوميَّة بشتَّى وسائل النَّشر” (صـ17). ومع اندلاع الحرب العالميَّة الأولى عام 1914م، كان العرب قد اتَّخذوا موقفهم من الدَّولة العثمانيَّة المترنِّحة والمقبلة على الانهيار؛ فرفضوا الانضمام إلى صفوف جيش المركز، الذي تكوَّن من الإمبراطوريَّة الألمانيَّة والإمبراطوريَّة النمساويَّة المجريَّة والدَّولة العثمانيَّة ومملكة بلغاريا، في مواجهة جيش الحلفاء، الذي شكَّلته المملكة المتَّحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا، وفرنسا والإمبراطورية الروسيَّة. تحتَّم في تلك الفترة الحرجة على شريف مكَّة أن يذعن إلى أمْر السُّلطان العثماني، الذي يشغل موقع خليفة النبيِّ (ﷺ) ووليِّ أمر المسلمين، بإعلان الجهاد في مواجهة أعداء دولة الإسلام.
دور شريف مكَّة في تقويض آخر دولة إسلاميَّة الهُويَّة
يشير توماس إدوارد لورانس إلى غموض موقف الحسين بن عليّ، شريف مكَّة المعيَّن في منصبه عام 1908م على غير رغبة السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، والمنحدر من سلالة نبيِّنا مُحمَّد (ﷺ)، وحكمت أسرته مكَّة المكرَّمة ما يقرب من 9 قرون. أمَّا عن سبب الغموض، فهو حيرة الحسين بين ضرورة تنفيذ أمْر السُّلطان، الذي لم يوليه الاهتمام إلَّا لكي يضفي “رداءً إسلاميًّا” على دولته، وبين نزوعه وسائر الشُّعوب العربيَّة حينها إلى الانسلاخ من الهويَّة العثمانيَّة والتَّحرُّر من قيود التَّبعيَّة للأتراك (صـ18). كما سبقت الإشارة في سادس فصول كتاب القبَّالة في ميزان القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة (2019م)، عاش الشَّريف الحسين بن عليّ في إسطنبول ما يقرب من 16 عامًا، بعد أن استدعاه عبد الحميد الثَّاني إلى عاصمته ليأمن مكر خططه، ونشأ أبناء الحسين على تبجيل مقوِّمات المدنيَّة الحديثة، وهذا ما ساعَد على قبولهم التَّدخُّل الأجنبي في العالم الإسلامي تحتَّ مسمَّى التَّحديث والتَّمدين والقضاء على رجعيَّة المسلمين. لمَّا امتنع الحسين، المطَّلع على “مختلف التَّيَّارات والأفكار السِّياسيَّة حتى نشوب الحرب”، عن تلبية نداء السُّلطان بإعلان الجهاد، تعرَّضت مكَّة لأزمة ماليَّة مؤرقة، بعد تراجُع أعداد الحُجاج والزَّائرين إثر استعار الحرب. دفع ذلك الحسين، الذي كان “شهمًا ذكيًّا عنيدًا متديَّنًا”، على حدِّ وصف لورانس، إلى اتِّخاذ موقف معادٍ للدَّولة العثمانيَّة في الحرب، التي لم يجدها حربًا مقدَّسة، كما أرادها العثمانيُّون، بل حربًا عدوانيَّة يصطفُّ فيها المسلمون مع “ألمانيا المسيحيَّة” (صـ19). وجد الحسين بن عليّ في موقف الدَّولة العثمانيَّة الضَّعيف بعد تدمير الحلفاء جيش الخطِّ الأوَّل للدَّولة، توقيتًا مناسبًا للثَّورة، خاصَّة مع ملاءمة الأوضاع الدَّاخليَّة في سوريا والعراق للانتفاض على تجاوزات الوالي العثماني من أعضاء حركة تركيا الفتاة، الذين رآهم الحسين “رجالًا ملحدين طمَّاعين” (صـ21). غير أنَّ شريف مكَّة آثر تأجيل خطواته حتَّى تُنجز بريطانيا مهمَّة دحْر القوَّات العثمانيَّة في الحرب.
(المصدر: رسالة بوست)