مقالاتمقالات مختارة

نامق كمال: التنوير ومستقبل العالم الإسلامي

بقلم إبراهيم كالن

ما يزال الجدل حول التنوير يسيطر على النقاشات الحالية عن الإسلام والحداثة والتقاليد. إن الزعم بأن الباحثين والمفكرين المسلمين في القرن التاسع عشر لم يعرفوا أو يفهموا الروح المعمقة الجديدة للحداثة الغربية هو زعم غير صحيح، فقد كانوا يعرفون جيدا ما واجهوه وطوروا مواقف نقدية وشاركوا في التنوير بطرق ما تزال مهمة حتى اليوم.

كان لدى المفكر والكاتب العثماني الشهير نامق كمال (1840-1888) على غرار كثير من معاصريه، نهج نقدي انتقائي للروح الجديدة للحضارات الأوروبية الحديثة. وقد أقر نامق كمال من ناحية بالقوة الصاعدة للمجتمعات الغربية، وسعى إلى فهم ما جعل ذلك ممكنا. حققت المجتمعات الأوروبية تقدمًا اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا مهما، الأمر الذي جعل لها اليد الطولى في مواجهة الإمبراطورية العثمانية وبقية العالم. ومن هنا دعا نامق كمال إلى مسار جديد للعمل يمكن أن ينقذ الإمبراطورية والعالم الإسلامي من هجوم الجيوش الغازية ويتجاوز الاندماج الثقافي.

ومن ناحية أخرى، كان نامق مؤيدًا بقوة للحفاظ على القيم الدينية والثقافية للدول المسلمة بوصفها أساسا لأي برنامج للإصلاح والتجديد، كما كان نامق من الموالين للإمبراطورية العثمانية، وهدفت دعوته إلى إصلاح النظام السياسي والاقتصادي لإنقاذها وليس تدميرها. ورأى أنه من الممكن التوفيق بين أفكار العقل والعقلانية والحرية الفردية والعقد الاجتماعي وفصل السلطات وسيادة القانون مع المذاهب الإسلامية التقليدية ، وأن هذه التوفيق هو السبيل الوحيد لإنقاذ الإمبراطورية بوصفها الزعيم السياسي والروحي للعالم الإسلامي.

نظر نامق كمال إلى الحرية بوصفها سمة فطرية للبشر جميعا، وبدونها لا يستطيع المرء أن يدعي أنه يملك حتى الدين، ورسخها في الخلق الإلهي بقوله : “إن الإنسان يولد بالحرية، وكُتب عليه أن يستخدم هذه الهبة الإلهية”. إن الحرية عند نامق كمال بوصفها حماية للفرد ضد عدوان الآخرين، بما في ذلك عداون المجتمع والدولة، تضمن أيضا الانسجام الاجتماعي، إذ لا يمكن لأي مجتمع أن يقيم السلام والعدالة بدون حرية. لكن الحرية كهبة إلهية لا تنفر الناس من الله ، بل تقربهم من الخالق. الحرية ليست فكرة بروميثيوسية يمكن استخدامها ضد الله أو الدين. ربما كانت هذه تجربة المجتمعات الأوروبية، وربما اضطر فولتير وروسو وغيرهم إلى السير في هذا الطريق ، لكن هذا لا يمكن أن يكون مسار المجتمعات الإسلامية التي تملك تراثا مختلف من العقل والحرية وحقوق الأفراد. قد يكون التنوير بمثابة تذكير بأهمية العقل والحرية ، لكنه لا يمكن أن يكون نموذجا يحتذى في العالم الإسلامي. ولم يكن من الممكن أن يتخيل نامق كمال ومعاصروه مفهوماً علمانياً استئصاليا للعقل والحرية بالطريقة التي تطور بها في الغرب.

كان نامق كمال على دراية بالتغيرات السياسية الضخمة في أوروبا، ومن ثم دعا إلى إعادة صياغة الدستور الدستوري الفرنسي ليتماشى مع الإمبراطورية العثمانية، وكتب: “إن الأداة التي تضمن حقوقنا السياسية وإنقاذ الدولة من الانهيار هي نظام دستوري يستند إلى نظام الحكم الفرنسي”. لكنه يستدرك فيقول: “لقد فوضنا إدارة شؤون الدولة إلى آل عثمان من خلال ولاء ملزم، ونرغب في بقائها دائما، كما نريد النظام الدستوري”.

وفي الوقت الذي دعا فيه نامق كمال إلى إصلاح شؤون الدولة من أجل إدارة أفضل وأكثر كفاءة ، فقد كان واضحا بشأن الأسس الدينية للحكم الرشيد: “الشريعة هي قلب ومصدر الحياة لدولتنا… وحيث إن أفكار شعوب الشرق واتجاهاتها تستند إلى حد كبير إلى المبادئ الإسلامية، فإننا إذا طبقنا القوانين الفرنسية ككل في بلادنا، فإن أصحاب العقائد الأخرى غير الإسلام ناهيك عن المسلمين لن ترضى بهذه القوانين. ويقرر نامق أن النوائب التي أصابت المجتمعات الإسلامية قد حدثت؛ لأنها أهملت أو تجاهلت المبادئ الإسلامية. ورأى أن ذلك لم يكن مجرد مسألة سوسيولوجية بل ميتافيزيقية تماما؛ لأن “ما يوضح ما هو حق وما هو باطل ليس التأملات الفلسفية بل المبادئ المستوحاة من الدين، حيث تستمد الأخلاق الفاضلة من اكتساب الصفات الأخلاقية والروحية الإلهية، وليس من آراء بعض الكتاب”.

وانتقد نامق كمال المسلمين لاستخدامهم مفهوم القضاء والقدر لتبرير خمولهم ونزعتهم السلمية، فرفض الجبرية ودعا المسلمين إلى فهم التوازن الدقيق بين إرادة الله الشاملة والإرادة البشرية المحدودة، والإرادة الإلهية لا تلغي الإرادة البشرية، وإلا لن يكون الناس قادرين على تحمل مسؤولية اختياراتهم وأفعالهم. إن الإيمان بالقدر جزء لا يتجزأ من الإسلام ، لكن لا يمكن استخدامه ذريعة للإحجام عن المهمة التي عهد بها الله للناس، أي حماية العدل والاستفادة من المنح الإلهية من أجل شكر الله. ليس الإسلام دينًا منفصلا عن العالم ، فهو لا يدعو إلى حياة الرهبنة، بل يعتبر العالم زائلا وعابرا، ويمكن أن يكون فخا لرحلة الإنسان إلى الله.

العالم أيضا نعمة، وهو عمل عظيم من الله ومكان اختبار لمعرفة الأنسب لحمل المهمة الإلهية من الولادة إلى الموت. ولا يُنظر إلى مباهج العالم على أنها سيئة أو إثم بطبيعتها. إن استكشاف الكون والتمتع بجماله هو امتداد للإيمان ويجعل الناس أقرب إلى الله، إنها مسألة الاقتراب من العالم بالطريقة الصحيحة حتى لا نخضع أنفسنا له. وبهذا الفهم بنى المسلمون الحضارة الإسلامية العظيمة الممتدة من آسيا الوسطى إلى الأندلس. ةمن هنا علينا أن نتذكر ما جعل هذه الثورات الثقافية والحضارية العظيمة ممكنة وفهم ما أدى إلى زوالها. فالعلاج لا يكمن في الخارج بل في الداخل.

ومن الممكن أيضا قراءة رد نامق كمال على هجوم المؤرخ الفرنسي إرنست رينان على الإسلام والحضارة على أنه نقد لمركزية التنوير الأوروبية. وكتب نامق في عام 1883، وهو نفس العام الذي ألقى فيه رينان خطابه المثير للجدل في جامعة السوربون، كتيبا هاجم فيه رينان على جهله العميق وتشويهه المتعمد للتاريخ الإسلامي. وكتب جمال الدين أفغاني أيضا ردا على رينان، لكن نبرته كانت أكثر اعتدالا من نبرة نامق كمال الذي رفض العنصرية التاريخية والواقعية الدوغماتية لدى رينان، وذكره بإنجازات الحضارات الإسلامية العظيمة في الرياضيات والفيزياء والفلك والطب والعلوم الأخرى.

نفى نامق كمال بشدة الادعاء بأن الدين يشكل عقبة أمام الحضارة والتقدم، بل على العكس فقد أنتج الإسلام واحدة من أعظم الحضارات وأكثرها ديمومة في التاريخ. ولا يوجد في الإسلام ما يوحي بأن المسلمين لا يستطيعون إحراز تقدم في العلم أو الاقتصاد أو التعليم أو التنمية الحضرية أو في مجالات أخرى. ورفض نامق أيضا الإيعاز بأن المسلمين لا يستطيعون التقدم في العالم الحديث دون علمنة أنفسهم وتتبع مسار الإصلاح البروتستانتي. كما هاجم المفكرين الأوروبيين المعادين للإسلام لنشرهم أفكارا خاطئة عن الإسلام وقال: “عندما أخذ الإسبان غرناطة، ألقوا الناس في النار لإجبارهم على تغيير دينهم. وعندما أخذنا اسطنبول، منحنا كل مجتمع ديني الحق في أداء شعائره الدينية”. إن الدور الحاسم الذي اضطلع به نامق كمال في التنوير مهم لفهم الديناميات الخفية للتراث والحداثة من جهة، والمجتمعات الإسلامية والغربية من ناحية أخرى. تعرض التنويرمنذ عصر نامق كمال الانتقادات شديدة من المفكرين الغربيين وغير الغربيين، ولذلك فلسيت هناك حاجة لمواصلة هذا النوع من الرومانسية التنويرية. وعلى ذلك يبقى التحدي أمام العالم الإسلامي أن يحافظ على أهمية وحيوية تراثه الفكري والأخلاقي دون أن ينغلق على نفسه أو يخضع لأهواء وأمراض الحداثة المتأخرة.

(المصدر: ترك برس)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى